إن ما تستعد قوى السلطة السياسية كافة في البلاد لإقراره هو قانون انتخابي أكثر بشاعة مما توقعنا في هذه المقالة المنشورة يوم 5 كانون الثاني 2017، وهو ليس مسخا لمبدأ النسبية فقط بل هو مسخا للدستور اللبناني وتعارضا جوهريا معه، حيث يركز الدستور على مساواة المواطنين أمام القانون فإذا بقانونهم للإنتخاب يجعل المواطنين رعايا طوائف لا مواطنين في وطن. وهذا قعر عصر الانحطاط والتفكك الوطني….ما أنتم مقدمون عليه هو جريمة وطنية ترتقي لدرجة الخيانة التاريخية لمصالح الأمة اللبنانية.
النسبية الكاملة هي الوسيلة الوحيدة لتحقيق حسن وعدالة التمثيل الشعبي في البرلمان، وهذا بدوره الممر الوحيد لبناء الدولة العادلة والقادرة التي يتعطش لها اللبنانيون، ولا سيما منهم الشباب اللبناني، الضحية الأكبر لسياسات سلطة الإحتكار الطائفي والمذهبي، وسيادة الفساد والنهب على كل المستويات.
هدف قانون الإنتخاب الجديد المبني على النسبية هو تحقيق التمثيل الصادق والعادل لقوى الشعب اللبناني السياسية، وإذا لن تكون نتيجته تحقيق هذا الهدف فيكون صورة مشوهة وخادعة للنسبية، وليس النسبية التي يسعى إليها اللبنانيون في توقهم للتغيير في السلطة السياسية، ولتطوير النظام السياسي في وطنهم.
إن الإجماع على أن هناك حاجة لصحة وعدالة التمثيل الشعبي، هو اعتراف من الجميع أن التمثيل الحالي هو ليس صحيحا وليس عادلا. وأن قوانين الإنتخاب، التي جرت كل الانتخابات على أساسها، هي قوانين غير عادلة، وأنتجت تمثيلا غير عادل للشعب اللبناني في البرلمان، وبالتالي سلطة سياسية منتقصة صحة التمثيل، ومنتقصة الشرعية وفق الأصول الديموقراطية.
هذه الحقيقة تعني بالكلام الواضح أن هناك قوى سياسية يتيح لها القانون الأكثري حصة في السلطة لا تستحقها. يتم هذا الأمر على حساب فئات شعبية وقوى سياسية تبقى محرومة من التمثيل في البرلمان، على الرغم من أنها تمثل نسبا هامة، تتراوح بين 15 و35 بالمئة، من الناخبين، وأحيانا أكثر من ذلك بكثير.
إن الكلام الكثير، الذي نسمعه اليوم ومنذ فترة من الزمن، عن قانون انتخاب يرتكز على النسبية، هو برأينا كلام لا يرقى إلى الصدقية الكافية، وعند كل أطراف السلطة وقواها السياسية، دون استثناء. هنا نحن لا نقيِّم النوايا، التي بنهاية المطاف لا تغيِّر شيئا في الواقع، بل نقيِّم النتائج الحقيقية للمسار السياسي، الذي يأخذه النقاش بشأن قانون الإنتخاب الجديد.
إن البحث عن إجماع قوى السلطة على صيغة توافقية لهذا القانون هو التعبير الحقيقي عن عدم الصدقية الكافية بتأييد النسبية، إذ أن كل الصيغ المشوهة والمنقوصة للنسبية هي مناورات غير موفقة لخداع القوى، التي تحرمها قوانين الإنتخاب من حقها بالتمثيل، وبالتالي من صحة وعدالة التمثيل للشعب اللبناني في مجلس النواب.
إن القوى السياسية، التي يعرف الجميع أنها تتمتع بتمثيل مضخم، يؤمنه لها القانون الأكثري، بغض النظر عن الدائرة الإنتخابية، من القضاء، مرورا بالمحافظة وصولا للبنان دائرة واحدة، سوف تحتضن القانون الذي توافقت عليه حركة أمل وحزب الله، ويباركه التيار الوطني الحر، وسوف يقبل به تيار المستقبل والحزب التقدمي الإشتراكي والقوات اللبنانية وكل القوى الأخرى في السلطة.
إن صيغة التأهيل على مستوى القضاء وفق النظام الأكثري، متبوعا بالتصويت على مستوى المحافظة وفق النظام النسبي، هي صيغة “متبرجة” بـ”أحمر الشفاه النسبي” لقانون الإنتخاب الأكثري، الذي يحافظ بالكامل على تركيبة السلطة السياسية دون أي تعديل أو إضافة أو تغيير.
إن اعتماد النظام الأكثري في القضاء سوف يقضي نهائيا على حظوظ القوى السياسية الأقل تمثيلا من الإختراق، حيث سيحتكر الانتقال إلى الحلقة التالية على مستوى المحافظة الفائزون وفق الأكثري في القضاء، أي القوى نفسها التي تحتكر التمثيل اليوم ومنذ عقود. وما النسبية إلا “ديكورا” كاذبا ومخادعا للتنافس في ما بينها على حصص التمثيل، وهذا ما لن يحصل، حيث أن هذه القوى كانت وستبقى متوافقة على توزيع الحصص في ما بينها في كل صيغ القانون الأكثري المعمول به حتى الآن.
نحن لا نصدق هذا التضليل، الذي تستأنس له بعض القوى، الحريصة على المحافظة على إيهام الناس بأنها داعمة للنسبية، أو داعية لها. فإذا بها في نهاية المطاف، تستعملها “مسحوقا” باهتا لتجميل احتكارها التمثيل، بإبقاء النظام الأكثري في أساس العملية الإنتخابية في القضاء، حيث يتم بالفعل إزاحة كل القوى الأخرى، ومنعها من التمثيل الصحيح والعادل، وحرمانها من إيصال ممثليها إلى البرلمان بنسب تعبر عن حق عن نسبة تمثيلها الشعبي الحقيقي.
لا نريد التعامل مع نظام النسبية على أنه “أحمر الشفاه” أو مسحوقا للتجميل الكاذب أيها السادة. قانون الإنتخاب النسبي لن يكون يوما حصيلة توافق بين قوى سياسية، كثير منها ينعم بتمثيل مضخَّم دون حق، هدية النظام الأكثري، وينعم بإزاحة قوى منافسة ذات تمثيل حقيقي، ولكنه لا يرقى إلى تحقيق الأكثرية الشعبية.
قانونكم الذي تجهدون لإخراجه ليس قانونا للنسبية، لأن ميزان القوى الفعلي في لبنان، ليس راجحا لفرض هذا القانون. إن القانون النسبي يحققه ميزان قوى راجح لقوى التغيير الحقيقي، وليس مناورات وتذاكي أحزابا وحركات وتيارات وقوى السلطة السياسية، التي تتربع على صدر البلد وتنهش خيراته وتصادر جوهر الديموقراطية فيه، صحة وعدالة التمثيل الشعبي.
يا قوى التغيير الحقيقية، ضعفكم يجعل من خيار النسبية ألعوبة تضليلية في يد كل قوى السلطة، أو في أحسن الأحوال “مسحوق تجميل” خادع.