عند بدء إعلان المحميات في لبنان، كان هنالك رفض لها من قبل السواد الأعظم من اللبنانيين، وربما أيضاً في العالم العربي وبعض الدول الأجنبية. أما اليوم، وبعد خوض التجربة ومعايشتها والانتفاع بفوائدها، فأصبحت الجمعيات الأهلية في كل مكان تسعى لإعلان محمية هنا أو هناك
د. غسان جرادي – الاخبار
تُعَدّ جمعية حماية الطبيعة، الجمعية الأهلية الأقدم في لبنان التي وضعت خبرتها في بعض المحميات ونجحت في أعمال «المحافظة» وتمرست بها بعد أن وجدت أن المحافظة لا تكون إلا على أيدي المجتمعات الأهلية المرتبطة مباشرة بالمحميات الطبيعية.
ولكن لهذه المجتمعات مطالب قد لا تسمح بها المحميات الطبيعية بينما تسمح بها محميات المحيط الحيوي التابعة لبرنامج الماب في اليونسكو، كالقيام بأعمال تقليدية تتولى على سبيل المثال توزيع المياه وتنظيم المشاركة بالفوائد التي تقدمها الموارد الطبيعية وتنظيم الصيد البري والبحري بين الناس في منطقة التنمية الواقعة على أطراف المنطقة العازلة المحيطة بمنطقة النواة في محميات المحيط الحيوي. ولكن «برنامج الماب» لم يدخل في تفاصيل مناطق التنمية كما كانت تفعل الحمى التاريخية في نظام الحمى الذي أعادت إحياءه جمعية حماية الطبيعة في لبنان، لكونه الأكثر تناسباً مع العادات والتقاليد في المجتمعات المحلية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
النعار السوري
ثم قامت الجمعية باختباره في حمى عنجر وتطويره من أجل حماية النوع الوحيد من الطيور المهددة بخطر الانقراض في العالم في هذه الحمى (النعار السوري) ومن أجل تنظيم الاستهلاك الرشيد للمياه الوافرة في هذه الحمى، ومن أجل منع الصيد في المناطق المهمة للطيور فيها والسماح به بعيداً عنها نسبياً، مع التشديد على أن يكون الصيد مسؤولاً، أي متوافقاً مع قانون الصيد ومستداماً، أي لا يؤدي إلى تعريض أي نوع للتدهور والانقراض.
إن التجربة الناجحة هذه أقنعت الاتحاد العالمي لصون الطبيعة في عام 2012 بتبني نظام الحمى، في المذكرة 122، كنوع من الأنظمة التي تعتمد على الإدارة بواسطة المجتمع المحلي من خلال مقاربة شاملة تقوم بتقوية المعرفة المحلية والتقليدية والثقافية والتراثية، بالإضافة إلى المحافظة على الموارد الطبيعية وتحسين مستوى المعيشة. في المقابل، ونتيجة للنجاح الذي تحقق في حمى عنجر كفرزبد، تهافتت البلديات طالبة تطبيق نظام الحمى على أراضيها. فكان إنشاء حمى عندقت والمنجز والمعبور الأبيض وشربين ورأس بعلبك والفاكهة وجبيل والعاقورة وروم وقيتولي وخربة قنافار وعين زبدة والقرعون وعين إبل، بالإضافة طبعاً إلى حمى عنجر/كفرزبد. أي تقريباً نفس عدد المحميات الطبيعية المعلنة في لبنان، مع فارق أن المحميات الطبيعية تتلقى معونات ثابتة من الدولة، بينما الحمى تعيش على ما تنتجه أيدي المجتمع المحلي بطريقة في شكل مميز من أشكال الاستدامة.
«حماة الحمى»
تحاول الجمعية المحافظة على الطبيعة في لبنان لدفع المجتمعات المحلية إلى الإبداع والابتكار في إنتاج كل ما هو صديق للبيئة والإنسان واستدامة الأنواع. بل إن جمعية حماية الطبيعة قامت بتنمية الوعي لدى مختلف الفئات، الأمر الذي جعل البعض في الجمعيات الأخرى ينهل من معلومات التوعية المتوافرة لدى جمعية حماية الطبيعة لكي ينفذها في أماكن أخرى، وهذا دليل على النجاح. واستخدمت جمعية حماية الطبيعة طرقاً علمية ومنطقية لتحديد الأشخاص في كل حمى من المهتمين بحب الحياة البرية والمحافظة على الموارد الطبيعية، فأنشأت مجموعات سمّتها «حماة الحمى»، تعمل بالتنسيق في ما بينها على مواضيع عدة وتشارك في دورات تدريبية تنمي قدراتها على حماية التنوع البيولوجي وتطوير السياحة البيئية وما تتطلبه من بنية تحتية وخدمات.
تعديل القانون
في عصر يقوم الناس فيه بقتل الطيور بلا هوادة، سواء في الدول التي تدعي أن ليس فيها قتل عشوائي للطيور، أو في الدول التي تصرِّح عن أعمال القتل غير القانوني فيها بغية السعي إلى إصلاح الوضع، وفي زمن تبين فيه أن الصيد قدر مفروض على الدول، الأمر الذي دفع منظمة الـبيردلايف إنترناشيونال إلى عقد ورشة عالمية في ماليزيا عن الطيور، بما في ذلك الصيد برئاسة جو سلطانا من مالطا في عام 1999 نتجت منها استراتيجية «البيردلايف» لعام 2000… صار لزاماً على الجميع العمل لتنظيم الصيد وتعديل قوانينه لأجل الاستدامة وحماية الأنواع المعرضة لخطر الانقراض. ولقد رأت منظمة «البيردلايف» أن أحد الأخطار على الطيور يتمثل بالقتل غير المشروع لها، وهذا أمر يتعلق مباشرة بتنظيم الصيد ووضع الآلية المناسبة لتطبيق القانون.
لذا، شاركت جمعية حماية الطبيعة بتحديث قانون الصيد منذ عام 1997 وبوضع قراراته التطبيقية منذ عام 2010، وبردع المخالفين لقانون الصيد والادعاء عليهم لدى وزارة البيئة.
حصر الأماكن
ثم وجدت الجمعية في اجتماعات المجلس الأعلى للصيد البري أن هنالك صعوبة بفتح باب الصيد المقونن في ظل الظروف الأمنية السائدة، وفي ظل عدم توافر عديد من قوى الأمن الداخلي التي أناط بها القانون تطبيقه، فلجأت إلى اقتراح تطبيق قانون الصيد على الأراضي المشاع العائدة إلى البلديات وحصره بها للتمكن من مراقبته والتأكد من تطبيقه حسب القانون، على أن تساعد البلديات في المراقبة وإبلاغ قوى الأمن الداخلي عن التجاوزات،
وريثما يطبق هذا الاقتراح الذي يلاقي يوماً بعد يوم استحساناً من الصيادين والبيئيين على السواء.
استراحة مهاجر
تقوم مجموعات حماة الحمى بمنع الصيد على أراضيها، إلى درجة أن الطيور صارت تلجأ إلى هذه الحمى هرباً من بنادق الصيادين الذين لا يأبهون للضرر الناتج من أفعالهم (في الصورة استراحة الطيور في حمى عنجر). بل إن بعض حماة الحمى الذين تعمقوا في حب الطبيعة، أصبحوا يقومون بأعمال إنسانية جلية، حيث يسارعون إلى جمع الطيور التي جرحتها بنادق الخرطوش والرصاص وعرضها على أطباء بيطريين وإجراء العلاج اللازم لها بغية إعادة إطلاق سراحها ضمن موسم الهجرة أو في أقرب موسم هجرة. وفي حال عدم تمكنها من الطيران ثانية فإنهم يقدمونها إلى مراكز التوعية البيئية التي تهتم بتربيتها. كل ذلك يجري بإرادة محلية غير مصطنعة يكللها عشق الطبيعة الذي ربته في نفوسهم جمعية حماية الطبيعة.
* بروفسور في علم الطيور البرية وبيئتها