لم يتعمّق المنتدى الدولي الذي عقد في روما نهاية الأسبوع الماضي تحت عنوان «مدن المستقبل»، في بحث جذور المشاكل البيئية العالمية، ولا في مشكلات التنمية ومدى كفاية مبادئ مثل «التنمية المستدامة» التي تم تبنيها على مستوى عالمي. بقي على مستوى عرض لبعض التجارب الهامشية من هنا وهناك، لأحياء في مدن وقرى، تريد أن تقدّم نفسها كمدن خضراء، أو على الأصح كـ»أبنية خضراء» نموذجية، في وقت تقطع الغابات وتستباح الشواطئ والمحيطات والبحار، ويتم إحراق كميات هائلة من الوقود الأحفوري وتُشق آلاف الكيلومترات من الطرقات لتسيير أساطيل السيارات الخاصة التي تستبيح المدن والقرى وأيّ مكان. فهل تنجح المدن في إنقاذ الكوكب؟
شارك في أعمال المنتدى الدولي حول «مدن المستقبل» الذي عقد في روما بين 11 و12 الجاري، مجموعة كبيرة من الخبراء والباحثين في العالم. كما شارك العديد من الفنانين أبرزهم سيلفيا يوريو وماسيمو غارفاغليا، وممثل عن بلدية روما عن شؤون البيئة دانيال دياكو بالإضافة إلى ممثلين عن الصناعيين والشركات المبتدئة، وسفراء أذربيجان والمجر، والجمهورية السلوفاكية، ورجال الأعمال وجمعيات ومنظمات غير ربحية وأكاديميين، وخبراء في الأمن الغذائي والهندسة المدنية وفن العمارة.
وقد قدّم الأوراق الرئيسية في المؤتمر كل من الدكتور بوجلاركا ايفنجوفا، وهو خبير في الأمن الغذائي، وصاحب أول حديقة للمجتمع في سلوفاكيا. فريد الياف، رئيس دائرة علاقات باكو الدولية؛ وأماني معلوف من الجامعة الأميركية في بيروت حول أزمة النفايات في المدن (بيروت نموذجاً) وباولا رنكا اختصاصية في علم الزلازل من جامعة بوليتكنيكو وكاتب هذه السطور في قراءة نقدية حول دور المدن في إنقاذ الكوكب.
الهرم المقلوب
أبرز ما عُرض في مؤتمر «مدينة المستقبل» في روما، مشروع الهرم المقلوب للخبيرة دوتسا بوغلنكا. نفذ المشروع في براتيسلافا. يشكل شكل المشروع، صدمة كبيرة ولا شك. قد يقال عنه إنه المشروع الأبشع في العالم، لا سيما على العين التي اعتادت رؤية الأهرام المصرية في شكلها التاريخي.
وبالمناسبة وبالرغم من عظمة البناء بشكل عام في روما، ولا سيما الذي حافظ على شكله الضخم منذ أكثر من ألفي عام، تنتشر المسلات المصرية بشكل كبير روما. وفي العودة إلى مبنى الهرم المقلوب، قد تنقلب مشاعر الصدّ إلى مشاعر الاستحسان عندما نعرف الهدف من تشييده. تشارك في تصميمه مجموعات عمل من مختلف التخصصات، كما يهدف إلى إشراك أكبر عدد ممكن من المواطنين فيه. كما بني في هذا المشروع «حديقة مستدامة». تضم الحديقة الكثير من الأشجار والأعشاب النادرة. زار هذا المشروع 30 ألف زائر خلال العامين الماضيين. ويعمل فيه ما يقارب 70 شخصاً.
تقول بوغلنكا، إن الهدف من هذا المشروع في براتيسلافا هو إشراك المواطنين فيه وتعزيز المبادرات الصديقة للبيئة، وذلك بعد أن تأكّد أن المدن التقلديية تتسبب بإنتاج 80% من الانبعاثات العالمية.
تبلغ مساحة المشروع، الذي بني على شكل الهرم المقلوب كما ذكرنا 2000 متر مربع. وكان الهدف منه أو الهاجس من إنشائه ترغيب الناس بزيارته. كما كان الهدف إشراك كل المواطنين والأطراف المجاورة له بالاستفادة منه. أي محاولة خلق علاقة جوار جيدة مع مختلف مجموعات العمل والمجموعات السكنية المحيطة. كما شارك سكان الجوار في إعطاء النصائح والمشورة والإرشادات، وقد شارك الكثير من المتطوعين في استكمال إنجاز المشروع. هذه كانت الخطوات الأساسية التي تم السير بها قبل وأثناء إنشاء هذا المشروع. أما الآن وبعد نهاية إنجازه، أصبح هذا المشروع مدرسة بكل ما للكلمة من معنى. فهو يساهم في التعليم المستمر للزائرين على مبادئ احترام البيئة ورعايتها. كما يساعد في اكتساب معلومات زراعية وغذائية وبيئية من خلال النقاش المستمر مع المختصين والمسؤولين عن مختلف القطاعات، كالزراعة والغذاء والطاقة والبناء.
في هذا المشروع يتم تنظيم لقاءات أسبوعية مجانية لكلّ الأعمار، وكلّ متخصّص يتحدّث عن تخصّصه. كما تمّ فتح مقهى ومكان لتجميع المواطنين وإقامة الفعاليات الثقافية. وكانت الحصيلة خلال عامين، زراعة مفهوم الايكولوجيا في المدينة وإنشاء منطقة بمثابة واحة. وقد وجه هذا المشروع رسالة قوية جداً تقول: «يجب على المواطنين الاستفادة من المناطق المرتبطة بمدينتهم»، كما «يجب على المدينة أن تهتم بالحدائق».
بالرغم من الاستحسان الذي لقيه هذا العرض من معظم المشاركين، إلا أن البعض الآخر عاد وذكر «أن حديقة واحدة ليست كافية لإنقاذ مدينة كاملة». وإن للمدن مشاكل كثيرة يجب على كل الأطراف المشاركة والتنسيق لحلها. كما لا يمكن الحديث عن مدن مستدامة من دون ريف مستدام أيضاً.
تبييض مدينة باكو النفطية
يعود المهندس المعماري من أذربيجان فريد الياف، رئيس قسم العلاقات الدولية في مدينة باكو، إلى القرن التاسع عشر ليتحدث عن العاصمة باكو، والتي تعتبر شبه جزيرة غنية بالوقود الأحفوري ولا سيما الغاز الطبيعي. بدأ استخراج البترول في القرن التاسع عشر من كل أنحاء البلاد، وقد أصبحت مدينة باكو خلال الحرب العالمية الثانية مصدراً مهماً للطاقة، وقد تمّ إنشاء مجموعة من الأسقف لحماية المدينة من قصف طائرات الأعداء. حصل نمو سريع بفضل البترول، ولكن تمّ ارتكاب أخطاء بيئية كبيرة بسبب البترول. بعد ذلك حاول البعض التعويض. تمت الاستعانة بمشاريع ايكولوجية مثل مشروع المدينة البيضاء ليحل مكان ما كان يسمى «المدينة السوداء»، بسبب تلوث البترول. تم إنشاء هذا المشروع بفضل مساهمات شركات عدة.
في هذا المشروع، تمت محاولة إصلاح المناطق المخربة بالنفط في المدينة وتم نقل المواد الملوثة إلى مناطق أخرى وتحويل المنطقة إلى حدائق وأماكن سكنية ومبان سياحية ومكاتب حكومية. وفي عام 2015 تمت استضافة الدورة الأولمبية الأوروبية فيها، بعد أن تمّ تجهيزها أيضاً بمبان رياضية، بعد أن تم سحب الأتربة الملوثة واستبدالها بأتربة نظيفة. في الحصيلة تم إصلاح 300 هكتار من الأراضي الملوثة. ضمن هذه الاراضي بحيرة كانت ملوثة أيضاً فتم فصلها إلى قسمين ومعالجة موضوع الصرف الصحي.
إلا أن التعليقات على هذه المداخلة كانت خجولة، لا سيما تلك المتعلقة بأهمية إصلاح بقعة محددة كانت ملوثة بالنفط، في وقت تسبب التنقيب عن النفط واستخراجه وتصفيته ونقله بتدمير مساحات هائلة من المدينة وجعلها غير قابلة للحياة! وما انتفاع المدن والدول عندما تخرب بيئتها أن تقوم بعض الشركات المستثمرة في النفط والتي تحقق أرباحاً خيالية تتجاوز موازنات الدول، ببعض المشاريع التجميلية الصغيرة لإرضاء بعض السلطات والسكان المحليين وإلهاء الناس بالحدائق المصطنعة أو بالملاعب الرياضية، بعد أن تكون قد استثمرت بصناعة الأعلام والألبسة الرياضية والمشروبات الغازية وسوقتها مع جمهور هذه الملاعب نفسها!
جيثورن من دون طرق
هل حلمت يوماً في بلدة بدون طرق؟ إذا كنتَ قد فكرت في أن يكون هناك مدينة من دون أيّ طرق فهذا الأمر لم يعد مستحيلاً إذا ذهبت إلى مدينة جيثورن، والمعروفة باسم البندقية في هولندا.
جيثورن في الواقع مدينة صغيرة أو يمكن أن نقول قرية صغيرة، تقع في مقاطعة أوفيريجسل الهولندية. قرية خالية تماماً من السيارات مع أكثر من أربعة أميال من القنوات. وسائل النقل الوحيدة في هذه البلدة الغريبة هي القوارب المسطحة التي تحظى بشعبية كبيرة. هناك العديد من الممرات المائية، التي تُدخل المتجول فيها في فضاء وطبيعة بسيطة… ولكن لا تُنسى.
في جيثورن الكثير من البحيرات والزهور والجسور. وعادة ما يستفيد السكان المحليون من المواقف، حيث يجب أن تكون جميع السيارات متوقفة على مشارف القرية قبل دخول المدينة. في البلدة حديقة «ويريبن» الوطنية، وهي محمية طبيعية واسعة. استقر الرهبان الفرنسيسكان في هذه المنطقة في القرن الثالث عشر، ولم يرغبوا في الوصول إلى مدينتهم لأسباب مختلفة تتعلق بالحروب ومراقبة التربة. لم تطلب المدينة الاعتراف الرسمي إلا في عام 1958 عندما ظهرت في الفيلم الهولندي «فانفار».
يسكن القرية أقل من 3000 شخص، ما يجعلها هادئة جداً في القسم الأكبر من النهار. العديد من الأسر التي تعيش في جيثورن تستفيد من سياحة قوارب «الكاياك» التي تتحرك بالتجديف باليد. هذه الطريقة الخضراء في العيش تقلل من الانبعاثات وتلوث الهواء في القرية وتقلل التلوث الصوتي والضوضائي كذلك. ليست القوارب وسيلة النقل الوحيدة في هذه القرية الجميلة والمثالية، الدراجات الهوائية تأخذ مكانها الهادئ أيضاً.
الخشب مع التكنولوجيا
في المنتدى العالمي حول «مدينة الغد» كان هناك عرض للصناعات الخشبية البسيطة ولكن الفنية. ويروي ترينتينو الذي لديه معرفة كبيرة في إدارة الغابات، كيف يختار الأشجار والأخشاب والتصاميم وكيفية الجمع بين كنز عظيم من المهارة والتقاليد اليدوية القديمة مع التكنولوجيا الأكثر تقدماً ما أدى إلى منتج بمواصفات فريدة ومبتكرة للغاية. وتظهر الصورة (المرفقة) كيف صنع من الخشب مكبّر للصوت للهاتف النقال بشكل فني جميل وفعال. كمحاولة لإعادة الحنين إلى الخشب، إلى العمل اليدوي، أو كمحاولة تعويض أو توفيق أو تكفير عن ذنب. أو كمحاولة تذكير التكنولوجيا ببداياتها الخشبية عندما صنع الإنسان الأول، أول عصا من الخشب. لا يذهب صانع مكبر صوت الهاتف النقال بالخشب إلى كل هذه التفسيرات، إلا أنه كان مهتماً بأن يشرح كيفية استخدام الخشب بطرق اقتصادية ومسؤولة لتلبية احتياجات العالم الذي نعيش فيه، من دون الإضرار بالغابات، واختيار المواد الخام لإنشاء مبان صحية ومستدامة، تحافظ على كفاءة الطاقة وصديقة للبيئة. كما أظهرت بعض النماذج كيف تستخدم ألواح خشبية ضخمة تم ترتيبها ولصقها وإنشاء الجدران والأرضيات والأسقف منها، لتصبح العمود الفقري للمبنى. وهي وسيلة جديدة ومستدامة من تصور المباني في المرحلة القادمة. أما حول دور الخشب في الحضارات الحالية، ومدى تأثير تطور استخدامه على بيئة العالم وديمومة غاباته، فموضوع لم يُبحث في منتدى روما الأخير.