يمكن الجزم أن كلّ هذا الضجيج حول انسحاب الرئيس الأميركي دونالد ترامب من اتفاقية باريس للمناخ شكلي ولا معنى له. فسواء انسحب أو لم ينسحب، فإن شيئاً ما كان ليتغير على مستوى قضية تغيّر المناخ وكوارثها. وحتى لو التزمت الولايات المتحدة الأميركية (وكل الدول) فإن الكوارث المناخية لن تتوقف، لأن التعهدات والمساعي العالمية للتخفيف من الانبعاثات المسببة لهذه الظاهرة المدمرة هي قاصرة جداً ولا تقترب حتى من حقيقة المطلوب لإنقاذ كوكب الأرض.
كما ليست المرة الأولى التي يتم فيها عدم الوفاء بالالتزامات ومتطلبات الاتفاقيات الدولية. ألم تتراجع الولايات المتحدة الأميركية عن بروتوكول كيوتو الذي أُبرم عام 1997؟
ثم ماذا فعلت كل دول العالم منذ عام 1992، تاريخ إبرام أول اتفاقية إطارية عالمية لتغير المناخ؟ أليس الاشتباك السياسي والاقتصادي والحجج التنموية هي نفسها منذ ذلك التاريخ؟ أليس التكاذب المتبادل نفسه، هو الذي يتحكّم بهذه القضية؟ ألم يجتهد الجميع، وكلّ حسب حجمه وطريقته، وحسب مصالح قواه الاقتصادية المتحكمة… لإيجاد عشرات الطرق للتبرم من أي التزام ومهما كان نوعه؟
كانت كلّ الدراسات منذ بداية الثمانينيات تشير وتؤكد وتربط بين التغيرات المناخية ومسؤولية الإنسان بحضارته ولا سيما مع بداية ما يسمى «الثورة الصناعية». إن المسبب الأول لتغيّر المناخ والاحتباس الحراري الانبعاثات التي تصدر عن الأرض، لا سيما جرّاء احتراق الوقود الأحفوري. وإن هذه الانبعاثات «تتراكم» ، في الغلاف الجوي للأرض وتنحبس. انطلاقاً من هذه الحقيقة التي لم يستطع أحد إنكارها، بدليل أن خطاب ترامب الأخير لم يشكّك بالظاهرة، بقدر ما طالب بإعادة النظر بالاتفاقية والإجراءات المطلوبة لكي لا تضر باقتصاد بلاده، تماماً كما كانت الحجة عندما تمّ رفض بروتوكول كيوتو عام 1997.
إلا أن التسليم بتراكم الانبعاثات كمعطى علمي، كان يفترض ترجمته في أول اتفاقية عام 1992، لذلك تم ابتداع تعبير «المسؤولية التاريخية» عن الانبعاثات، كون معظمها صدر في البلدان التي كانت تصنّف صناعية ومتقدمة لا سيما الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا الغربية، وقد طلب منها أن تبدأ هي بخفض انبعاثاتها، وإعطاء فرصة أو مهلة زمنية للبلدان المصنفة نامية لاستكمال عمليات التنمية فيها، أي استخدام الوقود الأرخص والأوسخ في كل النشاطات التصنيعية وإنتاج الطاقة. من هنا بدأ «الحل» ومن هنا بدأت المشكلة بالتراكم. فبدل أن يكون المطلب بتراجع الدول «المتقدمة» عن نموذجها الحضاري المسيطر والمدمر، وطلب التعويض للبلدان النامية عبر مساعدتها على عدم السير بنفس الطريق المدمرة، تم الاتفاق على أن تتبع البلدان النامية وتلك المصنفة «في طور النمو» أو تلك «الناشئة» نفس الطريق (في التقدم والتنمية) التي اتبعتها البلدان المتقدمة المشكو من تقدمها، وأن تأخذ «فرصتها» التاريخية بذلك عبر التساهل مع انبعاثاتها لمدة عشر سنوات! وسرعان ما اكتشفت دولة متقدمة كأميركا أنها لم تعد تستطيع أن تجاري دولة مثل الصين حين دخلت مثلها إلى اقتصاد السوق وبدأت تنافسها في كل شيء، من دون أن تكون ملزمة مثلها بخفض انبعاثاتها. ولم يقدّر العالم أن مجرد تخلي أكثر من مليار إنسان صيني عن الدراجات الهوائية واقتناء سيارة خاصة بأرخص الأثمان والوقود، تقليداً لحياة الرفاهية التي تتبناها الولايات المتحدة الأميركية وتدافع عنها (على سبيل المثال) سيؤدي إلى كارثة مناخية بعد زيادة الانبعاثات أضعافاً وأضعافاً. كما لم يأخذ العالم بالأصوات التي تقول إن مشكلة مناخ العالم هي في المناخ الأميركي (النموذج الحضاري الباهر) المسيطر على الخيال العلمي والعالمي والذي يطلق عليه البعض تسمية «الحلم الأميركي»، الذي كان يفترض التراجع عنه وليس تقليده. وإن المشكلة في المناخ الأميركي المهيمن وليس في الخروج من اتفاقيات المناخ!
على أيّ حال تعهدات الولايات المتحدة في عهد أوباما وتوقيعها على اتفاقية باريس لم تكن واعدة كما يُسوّق لها. فلا التعهدات مهمة ولا اتفاقية باريس (2015) متقدمة ومجدية وملزمة، كما كتبنا في حينها. فهي كانت قد تعهدت تقليص انبعاثاتها بين 26 و28 % بحلول عام 2025 مما كانت عليها (مستويات) عام 2005، وليس عام 1999 كما عرض الاتحاد الأوربي على سبيل المثال. وهنا أيضاً تم فتح باب للاحتيال على التعهدات، إذ كان المطلوب في بدايات المفاوضات بداية التسعينيات، أن تكون السنة الحدية لقياس الانبعاثات والرجوع إلى مستوياتها هي لعام 1850، مع بداية تضاعف وتراكم الانبعاثات الناجمة عن الثورة الصناعية. وقد تم التراجع عن هذه المطالب والتسليم باستحالة العودة إليها، حتى وصلت التعهدات الأخيرة إلى مستويات عام 2005، مع العلم أن الصين التي باتت تعتبر الملوث الأكبر قبل الولايات المتحدة الأميركية منذ عام 2007، تتوقع أن تصل انبعاثاتها إلى الذروة عام 2030، لتبدأ بعدها بالانخفاض!
في الحصيلة، لم تكن الولايات المتحدة تحتاج إلى كل هذه العراضة لرئيسها بالانسحاب (إلا لأسباب شعبوية وكيدية داخلية)، إذ كان بإمكانها، أسوة بالاتحاد الأوروبي، إبراز الكثير من الأرقام التي توحي بتخفيف انبعاثاتها، وهي سبق أن أعلنت أنها تقدمت في إنتاج الطاقة الهوائية لتشكل 10% من إنتاج الطاقة في الولايات المتحدة الأميركية، يضاف إليها 7% طاقة كهرمائية و3% بين شمسية وبيوماسية وجيوترمية، يضاف إليها 20% طاقة نووية. والتي يمكن أن تظهرها بأنها قريبة من تعهدات الاتحاد الأوروبي الذي تعهد بخفض انبعاثاته بنسبة 40% بحلول عام 2030. ولكان الجميع قد ربح (وخسر كوكب الأرض طبعاً)، كما كان يحصل دائماً، مع كل محطة ومع كل اتفاقية دولية وجولة مفاوضات. وإلى اللقاء في الجولة 23 (كوب 23) من المفاوضات الدولية التي ستُعقد في بون (ألمانيا) بين 6 و17 نوفمبر نهاية هذا العام.