ما الذي يجعلنا لا نتعلم من تجارب الماضي؟ ما الذي يجعلنا لا نراجع أو نتراجع؟
ألم نرَ ما جناه نهر الليطاني من جراء سدّ مجراه؟ الى متى الاستمرار في سياسات تعتمد فقط على قوة مصالح الشركات الهندسية المخططة والمسوّقة لإنشاء السدود السطحية، متجاهلين الآراء الاستراتيجية العميقة، القريبة من الطبيعة والبعيدة عن المصالح!؟
كيف نستمر في إنشاء السدود السطحية (جنة وبلعة وبسري وبقعاتة) بعد فشل بعضها (بريصا) وتدشين نصف بعضها أمس (القيسماني)، ونتجاهل كل الأفكار التي تطالب بمراجعة هذه السياسات التي تزيد في الهدر ولا تعالج المشاكل الحقيقية؟
فلو كان لدينا استراتيجية للمياه، تربط بين المعطيات الحقيقية وتضبط الاستخدامات وتربط قضية المياه العذبة بتلك المبتذلة ومعالجتها… لكنّا أمام مشهد وواقع مختلفين تماماً.
ولعل الخطيئة الكبرى التي نرتكبها في هذا المجال، هي مخالفة المبادئ الأساسية للإدارة السليمة والحكيمة للموارد، ومنها أن حسن وعدالة توزيع المياه المتوافرة والمعطاة من الطبيعة، أفضل من زيادة كميات المياه عبر حبسها خلف سدود مكشوفة وتعريضها للتبخر والتلوث، ما يحتّم زيادة كلفة معالجتها بعد تجميعها، لا سيما إذا كان بين الحجج الرئيسية لتبرير مشاريع السدود المكشوفة، تلك التي تقول إننا قادمون على تفاقم قضية تغيّر المناخ وزيادة في درجات حرارة الارض والجفاف. فإذا كانت هذه هي الحجة الرئيسية، ألا نناقض أنفسنا بتخزين المياه فوق الارض وتعريضها ليتبخّر نصفها بدل أن يتبخر ثلثها؟! مع العلم بأن الطبيعة تخزن المياه تحت الارض وليس فوقها، فتحفظها من التبخر والتلوث، وأن الدراسات للأمم المتحدة والفرنسيين منذ عام 1970 تؤكد أن حجم المياه السطحية المتجددة سنوياً بين مليار ومليار ونصف متر مكعب، بينما تصل تلك الجوفية المخزنة تحت الارض الى الضعف تقريباً (أكثر من ثلاثة مليارات)! وأن الطبيعة الجيولوجية اللبنانية المتشققة الصخور تسهم في التخزين الجوفي الاستراتيجي للمياه ولا تصلح للتخزين السطحي. فكيف يتم تجاهل كل هذه المعطيات العلمية والطبيعية بمشاريع تسهم في زيادة الهدر على كل المستويات؟!
وإذ تشير الدراسات إلى أن أكثر من 30% من المياه لا تزال تذهب هدراً في الشبكات، ألا تصبح قضايا ضبط الهدر في الشبكات والسرقات ووقف فساد الإدارة، أولوية على إنشاء المزيد من السدود المكلفة وغير الضرورية والتي ستغرقنا في المزيد من الديون، لا سيما عندما سيتم إخضاعنا لسياسات البنك الدولي الخطيرة في هذا المجال؟
ثم إذا كان المسبّب الرئيسي لتلوّث المياه العذبة في لبنان هو اختلاطها بالمياه المبتذلة غير المعالجة، ألا يصبح موضوع معالجة هذه المياه أولوية على إنشاء السدود؟
كذلك هناك معادلة قد تبدو غريبة وغير متوقعة، ولكنها تؤكد أنه كلما زدنا من كمية المياه عبر حبسها خلف سدود سنزيد من الهدر ومن كميات المياه المبتذلة التي تحتاج الى كلفة عالية لمعالجتها، أي كلما زدنا من استهلاك المياه العذبة (أكثر من مئة ليتر يومياً) سيزداد إنتاج المياه المبتذلة وقدرة تلوثها وكلفة معالجتها (أكثر من دولار للمتر المكعب)… وستصبح فاتورة معالجة مياه الصرف أكبر من فاتورة تأمين مياه الشرب! فإذا كان لدينا فائض مالي لإنشاء السدود السطحية لجمع المياه العذبة (التي سرعان ما ستصبح ملوّثة وشبيهة بالمياه المبتذلة وربما أكثر سوءاً كما هي الحال مع مياه الليطاني وسدّ القرعون التي حذرت الدراسات منذ بداية التسعينيات من أنها غير صالحة حتى للمس)، ألم يكن حريّاً بنا استخدام هذا الفائض لضبط الهدر في الشبكات ومعالجة مياه الصرف، بدل الإنفاق على إنشاء السدود؟
ثم هناك حقيقة يفترض عدم تجاهلها، ويفترض أن تشكل عبرة لمن يعتبر؛ إن المشكلة الرئيسية في تلوّث نهر الليطاني، إضافة الى الاسباب المعلنة والمعروفة (التلوّث من مصادره المختلفة)، هي وجود سدّ القرعون نفسه، وقد بدأ التلوث خلفه بشكل خطير في فترة قصيرة نسبياً بعد إنشائه، حسب الدراسات، وقد باتت كلفة معالجته تتجاوز كلفة إنشاء السدود، أي ما يقارب مليار دولار أميركي، بينها 1100 مليار ليرة لبنانية التي أقرّت بقانون العام الماضي! وان كل هذه الاموال للمعالجة ستذهب هدراً إذا لم نطبّق مبادئ المعالجة الجذرية الثنائية والمتكاملة التي تقوم على وقف التلوث من مصادره من جهة، واقتلاع السد من جذوره من جهة أخرى، لتعود المياه الى مجاريها.
انطلاقاً من هذه المعطيات الأوّلية، ألم يحن الوقت بعد لإعادة النظر في السياسات والاستراتيجيات المائية، العذبة والمبتذلة منها؟!