تكاد مهنة الإسكافي أن تندثر، لتغدو بعضا من نوستالجيا تحتل حزءا من ذاكرة وتراث، فبرغم أزماتنا الاقتصادية والمعيشية، ما نزال نؤثر أن نعيش رفاهية مكلفة، وإلا ما معنى أن نرمي الأحذية العتيقة حتى قبل أن تبلى، لنشتري بدلا منها ما تروجه دور الأزياء وسط صيحات الموضة في العالم؟
البعض ينظر بعين مزدرية لمن يحني ظهره ويعالج بالمسامير والغراء حذاءً تهرَّأَ نعله، ما يحيلنا إلى مقولة فيكتور هوغو من أن “ليس ثمة سفاهة في المهن… إنما السفاهة في الاشخاص”، وهذا جزء من ثقافة فوقية متعالية، علما أن الإسكافي أقرب إلى البيئة، وأكثر بكثير من كل نظرياتنا وبعض مفاهيمنا المبنية على التكبُّر والإزدراء.
والإسكافي بهذا المعنى، ليس من يصلح الأحذية فحسب، وإنما من يقلل من استهلاكنا للموارد ويبعدنا عن هوس الاستهلاك، فصناعة الاحذية تتطلب في خطوط إنتاجها جلد الحيوانات والكثير من مواد ذات منشأ طبيعي أم صناعي، وعندما يكثر استهلاكنا للأحذية نكون بشكل أو بآخر نستنزف موارد الأرض من جهة، ونلوث الهواء والتربة من جهة ثانية، ولو بنسب قليلة جدا، لكن هل ثمة من يفكر اليوم بإصلاح حذائه؟ هناك قلة من الناس المعوزين يرفدون الاسكافي بما يؤمن ديمومة عمله، خصوصا في الأحياء الفقيرة، فيما مناطق كثيرة لم يعد فيها اسكافي واحد، والمفارقة أن ليس ثمة بيئي واحد على استعداد لوضع “نصف نعل” لحذاء رقّ نعله وتآكل.
يحكى عن كمال جنبلاط أنه طلب يوما من مرافقه أن يتوجه إلى الاسكافي ليضع “نصف نعل” لحذائه، فلما رأى المرافق الحذاء، قال مستغربا: “كمال بك هيدا صرنا عاملينلو (نص نعل) ثلاث مرات “، فرد جنبلاط: “صحيح، بس فرعتو (جلده) بعدها منيحة”.
بهذه الروحية القائمة على التواضع ونكران الذات، كان كمال جنبلاط يعيش الحياة، دون عقدة المظاهر، فيما سياسيو الدولة الموزعة على مقاسات الطوائف يبذرون من مالنا في سبيل رفاههم، وبعضهم لا ينتعل الحذاء لأكثر من مناسبة.