رغم تقاعس السلطة وما نشهد من أزمة نفايات موصوفة، يؤكد المجتمع الأهلي والمدني حيويته وديناميته، عبر إنجازات وخطوات مهمة ونوعية، خصوصا في مسار التنمية المحلية، وفي مجال البيئة على وجه التحديد، فبعد تقصير الحكومات المتعاقبة وفشلها في مقاربة هموم الناس وشجونهم، نجدنا محاصرين بأزمة النفايات، دون أن نعير اهتماما بملف الصرف الصحي “المحتجب عن التداول”، كونه لا يظهر على الطرقات بوضوح كالنفايات الصلبة، إلا أنه قنبلة موقوتة قابلة الإنفجار، فلبنان مجازا “يطفو” على بحر من مياه الصرف الصحي، ولم تتابع أي من السلطات تنظيم هذا الملف، بالرغم من ظهور حالات من التلوث وبمستويات خطيرة في مجاري الأنهار، وفي معظم مياه الينابيع الجوفية.
ولا يمكن إغفال معدلات الكائنات المجهرية القولونية التي تجاوزت الحدود المقبولة، ونذكر منها على سبيل المثال لا الحصر، تلوث مياه نهر الليطاني وبحيرة القرعون، وما يحيط هذا المجال الزراعي الحيوي من تلوث مواز في المزروعات، ومن هنا نجد أن ثمة مشروعا رائدا تنجزه بلدة صغيرة نموذجية في جبل لبنان، لتبعث الأمل في أن هناك إرادات قادرة على تخطي عجز الدولة وتقصيرها، لجهة مواجهة الأزمات الخانقة والمزمنة المحيطة ببيئتنا ووطننا.
وفي هذا السياق تفردت بلدة عاريا في المتن الأعلى (جبل لبنان)، في إنجاز مشروع إنمائي، بيئي، فريد من نوعه على مستوى لبنان، عبر إنشاء محطة تكرير للصرف الصحي، تستوعب المياه المبتذلة ومياه الأمطار، وتحولها إلى مياه نقية إلى درجة كبيرة، يمكن استعمالها في المستقبل لأغراض زراعية، إنما المفاجأة في هذا الأمر، أن الدولة لم تساهم في هذا المشروع، وربما لهذا السبب كتب لهذا المشروع أن يبصر النور، وبوقت قياسي!
رئيس البلدية
وأشار رئيس بلدية عاريا بيار البجاني لـ greenarea.info إلى أن “مشروع تكرير مياه الصرف الصحي جاء في سياق التوأمة بين بلديتنا وبلدية شوليه Cholet الفرنسية، وهو آخر مشروع حيوي من سلسلة مساهمات ونشاطات، وهو أحد مشاريعنا البيئية العديدة”.
وقال: “هذا المشروع النموذجي نتمنى أن يصبح معمما على سائر القرى، وهو أتى من حاجة ملحة بسبب معاناة البلدة من مياه الصرف الصحي التي تصب في أحراجها وتصل إلى نهر بيروت عبر (وادي لامرتين)، وتم تمويل المشروع بثلث من بلدية مدينة شولية وثلثين على عاتق البلدية ومن خارج الموازنة، كي لا نعلق في الروتين الإداري والرسمي، فضلا عن مساهمات فردية ومساهمة من وزارة الخارجية الفرنسية، ونذكر أنه تم تقديم قطعة أرض مناسبة للمشروع من الوقف الماروني التابع لكنيسة سيدة النجاة”، وشكر بجاني “المهندسين لويس النوار على بناء المنشآت الخاصة بالمحطة، والمهندس جول قيصر حاتم من قرية حمانا على الجانب التقني في المحطة”.
وشكر بجاني greenarea.info على “اهتمامها ومواكبتها لهذا المشروع”، وأشار إلى أن “كلفته بلغت حوالي 151 ألف دولار أميركي”، وقال: ” لا يلفت هذا المشروع اهتمام البلديات والأشخاص كونه غير ظاهر، إلا أننا أردنا أن نكون قدوة، لتصبح عاريا قرية نموذجية نظيفة على جميع الصعد”، وأضاف “نحن البلدة الوحيدة في المتن الأعلى التي بدأت مؤخرا توريد مياه نظيفة لنهر بيروت، وفي المراحل المقبلة، نأمل استخدام المياه الناتجة في عمليات الري”.
معمل لفرز وتدوير النفايات
وعن دور الدولة في هذا المشروع، قال: “لم تساهم الدولة بأي شيء وإن ساهمت فللأسف لكانت عرقلت نتيجة الروتين الاداري، وقد تخطينا كل الصعوبات بمبادرات فردية وهبات خاصة وتمويل بالثلث من بلدية شوليه التي ترتبط مع بلدية عاريا بتوأمة، ومقارنة مع أزمة النفايات التي يمكن حلها بأي وقت، فمسألة الصرف الصحي مشكلة كبيرة تلوث مياهنا الجوفية، ولم يتم التعامل معها بشكل جزئي أو شامل على مستوى الوطن حتى الآن”.
وبخصوص أزمة النفايات قال بجاني: “نعمل حاليا على جمع النفايات في قطعة أرض تابعة للبلدية، على أمل أن تفرج الدولة عن أموال البلديات، لنستطيع حل هذه المشكلة، ونحن بصدد إنشاء معمل لفرز وتدوير النفايات حالما نحصل على الأموال اللازمة”.
مهندس المشروع جول حاتم
وقال مهندس التكنولوجيا الصناعية والشريك الإداري في شركةTriple E المنفذة والمسؤول عن المشروع جول قيصر حاتم لـ greenarea.info: “شركتنا لبنانية بالكامل، تأسست منذ ثلاث سنوات، وتعمل حاليا على صيانة وتطوير ثلاثة معامل للصرف الصحي على الأراضي اللبنانية، إلا أننا محظوظون كون هذا المشروع مشروعنا النموذجي الأول على صعيد قرية، فضلا عن أنه من المشاريع الأولى في لبنان في هذا المجال”، وأضاف: “ساهم في الأعمال المدنية المهندس لويس النوار وشركته، بينما الأنظمة التقنية والكهربائية والميكانيكية فهي من تصميم وتنظيم شركة Triple E”.
وعن التقنية المستعملة، قال حاتم: “حاولنا عند تقديم هذا المشروع التوصل إلى مشروع متكامل بأقل كلفة وأكثر فعالية ممكنة، ويعتمد مبدأ المشروع على (الحمأة المفّعلة)، أو ما يعرف باللغة الإنجليزية بـ Return Activated Sludge، وهو نظام كلاسيكي في مجال تكرير مياه الصرف الصحي، يعتمد على تقنية معالجة بيولوجية صرفة تعتمد على الهواء، فنعمل على ضخ الأوكسجين داخل المحطة فيذوب داخلها، وبالتالي يعمل الأوكسجين على تكاثر البكتيريا الهوائية المفيدة التي تعمل على الهضم الهوائي Biodigestion لمحتويات المياه المبتذلة من مواد عضوية وبيولوجية وكيميائية، وتساعدنا هذه العملية على التخلص بنسبة 95 بالمئة من هذه المواد”.
مشروع نموذجي
وعما إذا كانت ثمة انبعاثات مرافقة لهذه العملية أكد حاتم أن “حجم الإنبعاثات أقل بكثير من الوضع الحالي ومن عملية تعريض المياه المبتذلة على مساحة الأنهر والمسطحات المائية، فبعد تكرير المياه ينتج غاز CO2 والمياه الصالحة للزراعة، وفي حال حصول التأكسد اللاهوائي فينتج كمية قليلة من غاز الميثان، لا تلوث إلا أنها قد ينتج عنها رائحة، ولكنها لا تقارن بما يحصل للمياه المبتذلة المنتشرة في لبنان”.
أما عن بقايا عملية التكرير Sludge وكيفية التخلص منها، قال: “تخزن هذه المواد في خزان كبير مقفل لعدة سنوات، ويتم تفريغها، وتعريضها للشمس والهواء لتجف، وتعالج بشكل ذاتي ويمكن استعمالها كسماد، وقد تتم معالجتها بشكل سريع في فرن خاص على حرارة 800 درجة مئوية، إلا أن هذا الفرن للأسف غير موجود في لبنان، ولا نملك الإمكانيات حاليا لتوفيره”.
وعن إمكانية تعميم هذه التجربة على القرى الأخرى، قال حاتم: “نعتبر هذا المشروع نموذجا، ونتمنى أن تحذو قرى لبنانية أخرى حذو عاريا، وخصوصا تلك التي لا زالت للأسف تتخلص من مياه الصرف الصحي في نهر بيروت، وكانت فاتحتها في رأس النبع بحمانا، والمحطة الثانية في عاريا، ويمكن تعميمها، والمطلوب هو قطعة أرض في أدنى نقطة من القرية، ليسهل تجميع كافة المياه والأمطار وخلافهما بسبب الجاذبية، فضلا عن توصيل مياه الصرف الصحي الخاص بالقرية إليها، وتقدر مساحة هذه الأرض حوالي 500 م².
وعن دور الحكومة في هذا المشروع، قال: “للأسف كان دورها عرقلة المشروع، ففي البداية عندما سعى القيمون للحصول على التمويل من الدولة، قيل لهم بأن ثمة عوائق لوجستية وأن هناك محطات مركزية في لبنان، وعلينا الإلتزام بالمخطط التوجيهي، الذي لم يطبق حتى الآن ولن يطبق”.
وأشار حاتم إلى أن “المبادرة القوية أتت من بلدية عاريا وبلدية شوليه، ودعمتا المشروع معنويا ولوجستيا وبنجاح”، وأضاف “هذا مثال نموذجي وفعال بنسبة 100 بالمئة للّامركزية الإدارية، وخصوصا بالنسبة لمحطات التكرير، وتعتبر أفضل بآلاف المرات من محطات التكرير المركزية الغير فعالة”.
نعم، هي أمثلة لمبادرات فردية، إنما فاعلة ومهمة على المديين القصير والبعيد، يقوم بها أشخاص يؤمنون بوطن، وبيئة ومواطن، وهو ما قصرت وتقصر به حكوماتنا وسياسونا ومن ائتمناهم على مصائرنا وبيئتنا وصحتنا.