سوزان أبو سعيد ضو

يأخذنا أخصائي البيولوجيا البحرية وعلوم البحار البروفسور ميشال باريش إلى عالمه الخاص، لنغوص معه في أعماق عالم عشقه وما يزال منذ نعومة أظفاره، ممارسا رياضة الصيد البحري على شواطئ لبنان، ليستكمل تعليمه حتى المراحل الجامعية المتقدمة في المجال الذي شغله وأحبه ووهبه سني طفولته وشبابه، وهو الباحث الهادىء الرصين، دأبه الكشف عن مكنونات البحر وتنوعه البيولوجي.

وكان اللقاء بين greenarea.info والبروفسور الزميل Associate Professor والأخصائي في مجال الكائنات الغازية في مكتبه ومختبره، في قسم البيولوجيا في الجامعة الأميركية في بيروت، في محاولة منا لمعرفة أسباب الظواهر الأخيرة التي شهدناها من ظهور أسماك ومخلوقات غريبة وافدة إلى البحر المتوسط، وتأثيرها على تنوع هذا البحر الفريد من نوعه، فضلا عن علاقة الأنواع الغازية بتغير المناخ وعوامل عدة كانت موضع اهتمامه وأبحاثه المستمرة.

وفي ما يلي نص الحوار:

Greenarea.me: في البداية، ماذا عن مجال اختصاصك؟

 ميشال باريش: أدرس علم بيولوجيا البحار Marine Biology، وخصوصا مجال الكائنات الغازية، فضلا عن أسماك القرش Sharks  والـ Rays، بالإضافة إلى مساهماتي في مجالات عدة، منها مجال تصنيف الحياة البحرية بشكل عام في البحر المتوسط، في كتاب مرجعي صدر في العام 2012، تحت عنوان: “دليل حقلي لتعيين هوية الموارد البحرية الحية لشرقي البحر المتوسط وجنوبه” Field Identification Guide To The Living Marine Resources Of The Eastern And Southern Mediterranean، وهو مشروع ممول من  منظمة الأغذية والزراعة العالمية Food and Agriculture Organization of the United Nations الـ “فاو” FAO التابعة للأمم المتحدة، باعتباري مستشارا لهم أيضا في مشاريع أخرى، وعضوا في مجلس إدارة شبكة المفوضية الأوروبية EASIN، وgreen peace وغيرها من المشاريع والأبحاث في مجال الكائنات البحرية وعلم البحار، ولا سيما في البحر الأبيض المتوسط، كما أقوم بأبحاث على كافة أنواع التنوع البيولوجي في المسطحات المائية العذبة داخل اليابسة، من أنهار وبحيرات وغيرها في منطقة البحر المتوسط.

Greenarea.me: في دراسة قمت بها في العام 2011 مع زملاء لك في البحر المتوسط بعنوان “نظرة عامة على المحافظة على الوضع القائم للأسماك البحرية في البحر الأبيض المتوسط” OVERVIEW OF THE CONSERVATION STATUS OF THE MARINE Fishes OF THE MEDITERRANEAN SEA، بالإضافة إلى بحثكم مع الفريق العلمي في العام 2015 بعنوان “أسماك البحر الأحمر في البحر الأبيض المتوسط: التحقيق الأولي من الغزو البيولوجي باستخدام الحمض النووي وشيفرة التّعرّف (الباركود)” Red Sea fishes in the Mediterranean Sea: a preliminary investigation of a biological invasion using DNA barcoding في الدورية العلمية Journal of Biogeography، أثبتتم والفريق العلمي المؤلف من علماء من لبنان، إيطاليا والولايات المتحدة وجود أكثر من90 نوعا من الكائنات الغازية في البحر المتوسط مصدرها من البحر الأحمر، ما هي حالة هذه الكائنات الحية؟ وهل تطور هذا الوضع منذ ذلك الوقت وحتى الآن؟

من الانواع الغازية في مختبر البروفسور باريش1

ميشال باريش: في البحث الأول في العام 2011 توصلنا بالتعاون مع علماء بحار من تركيا، الجزائر، الولايات المتحدة الأميركية، فرنسا، إيطاليا، اليونان، إسبانيا وغيرها من البلاد في البحر الأبيض المتوسط، ولفترة امتدت لسنوات عدة، وبتمويل من ” الاتحاد الدولي لحفظ الطبيعة والموارد الطبيعية” (IUCN) International Union for Conservation of Nature and Natural Resources إلى التعرف العلمي الموثق إلى وجود ما يزيد عن 519 نوعا من الأسماك البحرية “المستوطنة” Native، تم التعرف عليها في البحر المتوسط، أما وضعها من ناحية الإنقراض أو المهددة بالإنقراض، فيعتبر أكثر من النصف منها معرض للإنقراض، مع العلم أن أكثر من ثلث  أنواعها (151 نوعا وأكثر) لم تتوفر حولها معلومات كافية، لذا فالتعاون مستمر وحثيث عبر شبكة من العلماء في المنطقة، مع التحديث المستمر للبيانات لكي نتمكن من التوصل إلى تقرير علمي جامع وشامل، أما البحث الثاني حول وجود الأسماك الغازية، فتوصلنا إلى التعرف إلى حوالي 90 نوعا بجمعها قبالة سواحل لبنان، أو تم الحصول عليها من أسواق السمك في لبنان في العام 2015، أما حاليا، فعددها تجاوز 110 نوعا، وقد حددت العينات الأولى شكليا، وفي وقت لاحق بـ “الباركود” باستخدام “السيتوكروم سي أوكسيديز” cytochrome c oxidase، وهو عامل تعرف من مركز الطاقة في الخلايا “المايتوكوندريا” mitochondrial marker. وتمت مقارنة “الباركود” مع مع بنك الجينات ومدخلات قاعدة البيانات BOLD، وتحليلها باستخدام مؤشرات التشابه الوراثية، وهو كما نرى نتيجة للعمل الدؤوب لشبكة علماء البحار، مع الأشخاص المهتمين من باحثين، وبالتعاون مع المجتمع المدني من صيادين وهواة، فضلا عن مواقع على وسائل التواصل الإجتماعي مثل موقع البحر اللبناني Sea Lebanon.

Greenarea.me: شاهدنا في وسائل الإعلام وعلى مواقع التواصل الإجتماعي، وضمن موقعنا تقارير عن أسماك مثل سمكة العقرب، والنفيخة والببغاء وأنواع من السرطانات البحرية مثل السلطعون القمري، وخصوصا السامة منها، فهل ثمة خوف على مرتادي الشواطئ من هذه الظاهرة؟

ميشال باريش: أولا، أؤكد على الطريقة العلمية البحثية في مقاربتي لهذا الموضوع بالذات، وما تتناقله وسائل الإعلام، قد يجذب المشاهد أو القارئ، إلا أننا نتبع الطريقة العلمية، وكما فسرت سابقا بالتحليل الخارجي للكائنات، فضلا عن تحليل الخواص البيولوجية و”الباركود”، ربما ثمة خوف، خصوصا من الأنواع السامة التي وصلت إلى البحر الأبيض المتوسط، كون الأعداد الموثقة من هذه الأنواع قليلة، فمثلا سمكة العقرب وهي سمكة Pterois miles ولا تتبع مجموعة Scorpaena كما أشيع، وقد وجدت في أماكن قليلة في البحر الأبيض المتوسط، منها في لبنان، تركيا واليونان، إلا أنه من الممكن أن تتواجد في مواقع دون علمنا بها.

Greenarea.me: ما سبب هذه الظواهر في الوقت الحاضر، وهل التغير المناخي وراء ذلك؟ أو أن افتتاح الخط الجديد في قناة السويس هو السبب؟

من الانواع الغازية في مختبر البروفسور باريش

ميشال باريش: الإجابة عن هذا السؤال، تتطلب بالدرجة الأولى بحثا حول دور التغير المناخي، وهذا ليس مجال اختصاصي، وثانيا ليس ثمة أبحاث وافية في هذا المجال، وبرأيي أن الإنسان وما أحدث من تغييرات في الطبيعة الجيولوجية، من قناة السويس وغيرها تسببت بذلك وبتنا نشاهد أنواعا أكثر، فضلا عن كون التعاون بين العلماء في حوض البحر المتوسط أصبح ممنهجا ومستمرا. أما الإجابة عن القسم الثاني من السؤال بشكل واضح ومختصر وبسيط، فيتطلب منا العودة إلى منشأ البحر المتوسط، فقبل ملايين من السنوات، (قدر علميا بـ 5 ملايين سنة)، لم يكن ثمة بحر متوسط، بل كان قطعة أرض جافة بين قارتي أفريقيا وأوروبا، وفي وسطها مسطحات من الملح لا زالت آثارها موجودة حتى الآن، إلا أن حدثا جيولوجيا كبيرا أدى إلى تدفق المياه من المحيط الأطلسي عبر مضيق جبل طارق، أدى إلى ملء المسطح الجاف بمياه جارفة قدرت بقوة تساوي قوة تدفق نهر الأمازون بمئات المرات، ومن وجهة نظر علمية، فمعظم الكائنات الموجودة في البحر المتوسط منشؤها الأصلي المحيط الأطلسي، إلا أن الإنسان قام في المئة سنة الأخيرة، بعمل جيولوجي جبار شكل صدمة قوية، وهو المتمثل بشق قناة السويس، وبالمناسبة فما يسمى بالممر الثاني، هو عبارة عن تفرع للممر الأول، لتخفيف الإزدحام في مرور السفن، بحيث تمر السفن من ممر وتعود من التفرع الثاني، وأما عن سبب مشاهداتنا لأنواع أكثر في السنوات المئة الأخيرة، أو ما يسمى Lessepsian migration نسبة إلى فرديناند ديليسيبس  Ferdinand de Lesseps فهناك سببان، فعند فتح قناة السويس كانت ثمة عوائق لهجرة الكائنات الحية من البحر الأحمر، ومن المحيط الهندي والهادي، أحدها البحيرات المرة Bitter Lakes، وهي مجمعات مائية ذات ملوحة عالية، ما منع الكائنات الحية من الهجرة إلى البحر الأبيض المتوسط، إلا أن ملوحة هذه البحيرات تضاءلت مع الوقت، ما سمح بتدفق المزيد من الكائنات نحو البحر الأبيض المتوسط، إلا أن تواجد المياه العذبة (وهي العائق الثاني) من نهر النيل منعها من الوصول إلى هذا البحر، لكن بناء سد أسوان، والسدود الأخرى على مجرى النهر، وتراجع كمية المياه بسبب الإستهلاك والجفاف وعوامل أخرى، كل ذلك أدى إلى وجود بيئة ملائمة لهذه الكائنات لجهة الملوحة، فضلا عن توسيع القناة، وبالتالي نجد أن ما قام به البشر في مئة عام، تجاوز ما استطاعت التغيرات الجيولوجية القيام به بفترة تقدر بملايين السنين، وهو ما نعتبره صدمة كبيرة على التنوع الحيوي في بيئة البحر المتوسط، ومن المعلوم أن التنافس بين الكائنات البحرية، يؤدي إلى نوع من الغزو “Invasion” أي أن كل كائن حي يحل محل الكائن الآخر، خصوصا لجهة التنافس على الغذاء، إلا إذا تمكن أحدهما من التأقلم بتناول مكون آخر يمكنه من البقاء، ولفهم عملية الغزو، من الأمثلة “المحلية” في هذا المجال سمكة المواسطة (Marbled spinefoot) واسمها العلمي Siganus rivulatus، التي اجتاحت الشواطئ اللبنانية حلت مكان سمكة الصلبن Sarpa salpa التي كانت قبل عقود متواجدة بكثرة في مياهنا، ورغم أن الأخيرة موجودة في كامل البحر المتوسط، إلا أنها في منطقتنا قليلة للغاية بسبب حالة الغزو هذه، ولذا يمكنني التأكيد أن الإنسان وتأثيراته على البيئة تتجاوز قدرة أي عامل آخر، خصوصا لجهة مشاهدات أكبر لكائنات جديدة، ونأمل من الباحثين والصيادين والهواة، مساعدتنا عبر مشاركتنا وإطلاعنا على أي جديد يجدونه.

الناشر: الشركة اللبنانية للاعلام والدراسات.
رئيس التحرير: حسن مقلد


استشاريون:
لبنان : د.زينب مقلد نور الدين، د. ناجي قديح
سوريا :جوزف الحلو | اسعد الخير | مازن القدسي
مصر : أحمد الدروبي
مدير التحرير: بسام القنطار

مدير اداري: ريان مقلد
العنوان : بيروت - بدارو - سامي الصلح - بناية الصنوبرة - ص.ب.: 6517/113 | تلفاكس: 01392444 - 01392555 – 01381664 | email: [email protected]

Pin It on Pinterest

Share This