د. ناجي قديح

من علامات تحوُّل المسألة البيئية إلى قضية وطنية كبرى اجتذابها المزيد من المحترفين في كل المجالات إلى “التبحر” في تلافيف ملفاتها، ولا سيما منها ملف النفايات، الذي أحدث اهتزازا كبيرا في استقرار البلد البيئي والصحي والاجتماعي والسياسي والاقتصادي والمالي، بالإضافة إلى انخراط واسع للإعلام بكل وسائله، طوال فترة الأزمة – الكارثة التي تمتد منذ 17 تموز (يوليو) 2015 وحتى الآن.

نحن نتلمس بداية حملة إعلامية هي أشبه بالهجوم المعاكس من قبل الحكومة، ولا غرابة أن نقرأ لكتَّاب “تعمَّقوا” حديثا في الأبعاد التقنية لملف النفايات، فإذا بهم ينزلقون إلى إطلاقات يصعب تبرئتها لناحية التطبيل لسياسة الحكومة حيال هذا الملف سابقا، وخلال الأزمة، وحاليا.

ما يشفع للبعض منهم أن كتاباتهم يرشح منها حسن نية واضح، حتى وإن كانت مساهماتهم المستجدة تخدم، لناحية الخطاب والتوقيت ووجهة الجَلْد القاسي، أبطال صفقات النفايات في السلطة السياسية، الذين تمكنوا فعلا من ليِّ ذراع الجميع، إن في المعارضة الشعبية أو شركائهم في الحكومة.

إن ما يثير الغرابة والعجب في آن، أن تكون سهام “الفهم المستحدث” للبعد التقني لملف النفايات، مُنْصَبَّة بغضب قاس ضد المعارضة الشعبية التي ضمَّت الحراكات المدنية والحركة البيئية وكثيرا من الخبراء وأشباه الخبراء، ومن الصحافيين البيئيين وأولئك المبتدئين منهم، في كل وسائل الإعلام المقروء والمرئي والمسموع والإلكتروني، بدل أن تذهب عميقا في تحليل سياسات الحكومة والكشف عن مكامن صفقاتها المشبَعة بالفساد في ملفات البيئة عموما، وفي ملف النفايات على وجه الخصوص.

ليست معركة النفايات قضية مبنية على باطل، بل هي مبنية بالكامل على حق الناس في محاسبة حكومتهم وسلطتهم السياسية على النتائج الكارثية للخيارات التي اعتمدوها ويستمرون في اعتمادها والمترافقة بنهب مئات ملايين الدولارات من مالهم العام.

لا نود الذهاب في تحليل إيديولوجي لتلك الأفكار التي تتحدث عن “خرافة المطامر” و”سياسات بلا منطق” وتلصقها بالمعارضة الشعبية للسياسات الفاشلة للحكومة، حيث يتم استخلاص الاستراتيجية المفترضة من “الشِّعار” الذي يكثِّف عادةً ما هو رئيسي في الرؤية السياسية حيال قضية ما. لأننا نفترض بقوة حسن النية، ونستبعد الانخراط في حملة إعلامية تجسيدا للهجوم المعاكس المتوقع أن يشنه أصحاب الحل المركَّب عبر تقاطع “طمر النفايات” مع “ردم البحر”، لكي تتبع لاحقا بتعميم المحارق كخيار “مستدام” على حد تعبير قادتهم. وهي سياسة لا نزال نعتبرها سياسة صفقات، وليست بأي حال سياسة سليمة بيئيا لإدارة النفايات. ولا نزال مستمرين في معارضتها بكل الأشكال، وضمن هامش واسع جدا، حده الأقصى الصراع، وحده الأدنى الحوار، إذا ما توافرت شروط جديته وابتعاده عن مناورات الاحتواء والإغواء، التي طبعته حتى الآن.

إن الإنتقال من التناول اللفظي – الحرفي للشِّعار إلى تشويه الاستراتيجية التي لم يكن ينقصها يوما تمام الوضوح لكامل تفاصيلها، هو ما يمكن أن يوقع في هذه المطبَّات التحليلية والمنطقية.

فشعار “لا للمطامر” و”لا للمحارق” والذي جرى تدقيقه لاحقا بشعار “لا للطمر الكلِّي” و”لا للحرق الكلِّي”، إنما يختصر الدلالة على الدعوة لاستراتيجية “الادارة المتكاملة للنفايات”، التي تبدأ ببرامج التخفيف من كمية النفايات المتولدة، عبر وسائل تربوية تسعى إلى إحداث تعديلات سلوكية في مجال الإنتاج والتسوق والإستهلاك. إضافة إلى الوسائل التشريعية لناحية تطوير سلَّة ضرائبية تسعى للتخفيف من وجهات إستهلاكية محددة لصالح وجهات أكثر ملاءمة للبيئة. وتستكمل الإستراتيجية المتكاملة بتعميم وتجهيز مراكز للفرز الآلي المتطور في مختلف المناطق اللبنانية، تمكِّن من فرزٍ ينحو لأن يكون كاملا لمختلف مكونات النفايات، بهدف تسهيل عملية استرداد القيمة الكامنة في كثير من الموارد فيها، من ورق وكرتون ومعادن وزجاج وبلاستيك وأخشاب قابلة للتدوير وإعادة الاستعمال أو إعادة الدخول في دورة إنتاجية ما. وكذلك فصل المواد العضوية القابلة للمعالجة باتجاهين، الأول، التسبيخ (الهوائي) لإنتاج الكومبوست القابل للاستعمال في تحسين الخصائص البنيوية والزراعية للتربة، وكذلك أيضا في مكافحة التصحر الذي يضرب بعض المساحات في البقاع الشمالي الشرقي من لبنان. والثاني، هضم لاهوائي ينتج البيوغاز (حوالي 40-60 بالمئة ميثان) يستعمل لإنتاج الطاقة. والسعي الدائم، باستخدام منجزات التطور العلمي والتطبيقي في رفع نسبة الإسترداد، والتخفيف المستمر لكمية المتبقيات المطلوب التخلص النهائي منها. وهنا يمكن حيال هذه البقية المتبقية من النفايات بعد كل هذه العمليات أن نلجأ لاعتماد الطمر الصحي كواحد من الخيارات للتخلص منها.

ما نعتبره سياسات خاطئة، يجري اعتمادها لتحقيق أكبر صفقات ممكنة عبرها، هي اعتماد الطمر الكلي أو شبه الكلي للنفايات، كما كان يحصل حتى الآن، وما هو مرشح لأن يستمر خلال الأعوام القادمة بناء على خطة المطامر الشاطئية، المترافقة مع ردم للبحر في الكوستابرافا وبرج حمود والجديدة. وهي صفقة كبيرة الأثر التدميري على المنطقة الساحلية والبيئة البحرية، وتتيح وضع اليد على مزيد من الأملاك البحرية العامة على حساب مصالح الشعب اللبناني لهذا الجيل والأجيال القادمة.

الإدارة المتكاملة للنفايات التي ندعو إليها ليست بأي حال قضية مبنية على باطل، لا لناحية سلامتها البيئية وأمانها الصحي ولا لناحية كلفة إدارتها المالية، إذ أنه بالمنطق البسيط، كيف يمكن أن تكون سياسة استرداد القيمة أعلى كلفة من هدرها في خيارات الطمر الكلي والحرق الكلي عالية الكلفة؟

ليس صحيحا أن المطامر لا أثر بيئي لها، فهذا الكلام لا يرتكز على مراجعة نقدية عميقة لتجربة قرنين من اعتمادها في العديد من البلدان. وليس صحيحا القول أنها لا تزال معتمدة كخيارات للتخلص من النفايات، فمجرد الحديث عن نسب مئوية للطمر في هذا البلد أو ذاك، هذا يعني أن إدارة متكاملة للنفايات هي قيد التطبيق. أي هناك نسبا من النفايات يعاد استعمالها وتدويرها، ونسبا أخرى تعالج بطرق التفكيك الهوائي أو الهضم اللاهوائي، ونسبا يتم استرداد الطاقة الحرارية الهامة التي تحتويها، ونسبا أخرى يتم طمرها في مطامر صحية. وهذه النسب في حركة دينامية دائمة باتجاه رفع نسب استرداد الموارد والطاقة على حساب نسب الكميات المتبقية للطمر. لم يعد هناك بلد واحد من البلدان، التي تتم المقارنة معها عادة في أميركا وأوروبا، يلجأ إلى الطمر الكلي لنفاياته أو الحرق الكلي لها. فهولندا التي يأخذها كثيرون كنموذج للبلد الذي يعتمد الحرق، لا تشكل نسبة الكميات التي يتم حرقها أكثر من 20 بالمئة من مجمل النفايات. فالجميع يعتمد الإدارة المتكاملة، يبدأ بنسب ما، ويتطور باتجاه تطوير نسب الإسترداد على حساب نسب الطمر تباعا وباستمرار.

لماذا نحن ضد سياسة الحكومة حيال خيار المطامر؟ ليس نطاق البحث هو المستوى النظري – الإيديولوجي، بل التطبيقي الواقعي تحديدا.

نحن نطرح مسألة المطامر على مستويين واضحين. المستوى الأول هو الإجابة على سؤال ماذا سنطمر؟ أي نوع من النفايات؟ ما هي عمليات الفرز والمعالجة التي ستسبق تحديد نوع وكمية النفايات المعدة للطمر؟ في هذا السياق نحن ضد سياسة الحكومة بترك هذا الأمر سائبا ودون اعتماد رسمي (على مستوى قرارات الحكومة) للفرز والتدوير والتسبيخ (أو إنتاج البيوغاز)   كحلقات ضرورية إلزامية في الإدارة المتكاملة للنفايات، قبل الذهاب لطمر متبقيات هذه العمليات. هذا بالضبط ما عناه الشِّعار المكثَّف “لا للطمر الكلي”، وهو أيضا ما يصح على الحرق، مع فارق أن الحرق ليس طريقة للتخلص النهائي من النفايات كما هو الطمر، بل يمكن له أن يكون مرحلة من مراحل الإدارة المتكاملة، ينتج عنها كميات هامة من الرماد المتطاير ورماد القاع التي تتطلب معالجة قبل إرسالها إلى مطامر متخصصة باستقبال النفايات الخطرة.

والسؤال الثاني هو الإجابة على سؤال أين نطمر؟ أي ما هي مواصفات الموقع المنوي إنشاء مطمر عليه. هذا ليس تفصيلا على الإطلاق، بل هذا واحد من أهم المؤشرات وأخطرها في ما يتعلق بالمطامر. هناك لائحة طويلة من المواصفات البيئية التي يجب أن تتوافر في الموقع، أو جزء منها كحد أدنى. وخلافنا كبير مع سياسات الحكومة في هذا المجال، إذ أن اختيار المواقع التي تحددها لإنشاء مطامر عليها لا تستجيب لأي من المواصفات العالمية المقبولة لهذه الغاية. هذا من جهة، ومن جهة أخرى يذهب خلافنا مع سياسات الحكومة إلى أبعد من ذلك، ليطاول المعيار الذي تعتمده في اختيار المواقع. وهذا ما تردد بشكل فاقع وصريح خلال “معركة النفايات” التي نخوضها مع سياسات الحكومة، وخصوصا في الأشهر التسعة من عمر الأزمة المستمرة لإدارة النفايات في لبنان. إذ تردد على لسان بعض المسؤولين عن هذا الملف أن اختيار هذه المواقع يرتكز على قاعدة أنها مناطق “معدومة” أو “محروقة” على حد تعبيرهم. أي أنها مواقع ملوَّثة. فبدل أن يضعوا خططا وطنية لمعالجتها ولإزالة التلوُّث فيها، يتم اختيارها مواقع لمزيدٍ من التلوث والإعدام. أما الخيار الأخير في قرار الحكومة فكان مزاوجة كارثية، لم يسبقهم عليها أحد، في إنشاء مطامر على الشاطىء مرفقة بمشاريع ردم البحر.

نحن نرى بالمبدأ، أن في لبنان طبيعة لا يسهل معها اختيار مواقع ملائمة لإنشاء المطامر، كما هو الحال مع البلدان الشاسعة، والتي يوجد فيها مناطق بعيدة عشرات الكيلومترات عن المدن والمناطق السكنية، ومناطق جرداء جدباء، يسهل اعتمادها كمواقع ملائمة لهذا الهدف. ولذلك نسعى لأن تكون سياسة الحكومة مبنية على اعتماد الإدارة المتكاملة للنفايات، التي يتم معها طمر أقل كمية ممكنة من المتبقيات، على أن يكون الميل دائما للتقليل المستمر لها، كي نطيل فترة استخدام المطمر أطول مدة ممكنة، نظرا لندرة مورد الأرض في لبنان، وحساسيته البيئية العالية.

إنها سياسات المنطق السليم، والعقلانية الناضجة، ولا يمكن أن توصف الدعوة لها والعمل من أجل أن تتبناها حكومتنا كسياسة رسمية تدار نفايات البلد على ضوئها بـ”سياسات بلا منطق”.

نرى على ضوء التجارب السابقة، وعلى ضوء كل تفاصيل ويوميات “معركة النفايات” التي نخوضها بحق، أن محرك سياسات الحكومة ليس البحث عن أفضل الخيارات الملائمة، بل التفتيش على أدسم الصفقات التي يمكن حصادها من سياسات النفايات. ليس مهما إن هي دمَّرت بيئة لبنان وهدَّدت صحة شعبه بأكبر المخاطر، ونهبت ماله العام بأكثر آليات الفساد افتضاحا.

نعم إنها قضية حق، وسيستمر العمل من أجل تحقيقها، مع أننا ندرك تماما أن مسألة النفايات لا ولم تسقط حكومة، ولا تهدد نظاما لم تهزه حرب أهلية استمرت 15 عاما. ولكننا ندرك أيضا، أن ملف النفايات كما الكهرباء والمياه والعدالة الاجتماعية وغيرها الكثير من الملفات التي يغمرها الفساد في السلطة، لا يمكن معالجته إلا بتغيير جدي يطال بنية النظام، على طريق إصلاح حقيقي يستحقه شعبنا اللبناني.

 

الناشر: الشركة اللبنانية للاعلام والدراسات.
رئيس التحرير: حسن مقلد


استشاريون:
لبنان : د.زينب مقلد نور الدين، د. ناجي قديح
سوريا :جوزف الحلو | اسعد الخير | مازن القدسي
مصر : أحمد الدروبي
مدير التحرير: بسام القنطار

مدير اداري: ريان مقلد
العنوان : بيروت - بدارو - سامي الصلح - بناية الصنوبرة - ص.ب.: 6517/113 | تلفاكس: 01392444 - 01392555 – 01381664 | email: [email protected]

Pin It on Pinterest

Share This