يكثر في الآونة الأخيرة استعمال مصطلح “مطمر” وأحيانا أخرى “مطمر صحي”، ولا سيما من أصحاب الاختصاص المعنيين مباشرة بموضوع إدارة النفايات الصلبة، ولكنه أيضا يستعمل من قبل جمهور واسع، وفي غالب الأحيان للتدليل على موقع يستقبل النفايات، دون معرفة كثير من الخصائص والميزات والوظائف، التي ترتبط بهذه المنشأة الهندسية المتخصصة لاستقبال بعض مكونات النفايات، بعد عمليات فرزها وتدوير بعضها ومعالجة البعض الآخر، لكي تطمر بطريقة محددة تهدف لأن تخفف إلى حد كبير من مخاطر تلويث عناصر البيئة بالنفايات وما ينتج عنها، خلال وبعد تفككها، من مركبات كيميائية غازية وسائلة وصلبة.
بهدف الإضاءة على هذه المنشأة لناحية مواصفات موقعها وتصميمها الإنشائي وطرق تشغيلها مدى عمرها، وطرق إقفالها وموجبات إدارتها بعد الإقفال، سوف نبسط هذا الموضوع الشائك لمزيد من المعرفة من جهة، ولتعزيز القدرة على إبداء الرأي بشكل أفضل وبدقة أكبر في مجمل ما يتعلق بالمطامر من مسائل وإشكاليات من جهة ثانية.
عند اختيار الموقع الذي سيقام عليه المطمر علينا احترام مجموعة من المعايير، وتساعدنا معرفة هذه المعايير على تقييم الموقف حيال ما تطرحه الحكومة من مواقع لهذه المطامر بوضوح ودقة وموضوعية كبيرة.
لدى البحث في اختيار موقع المطمر، ثمة عدة أمور علينا أخذها بعين الإعتبار:
-بادىء ذي بدء، المسافة عن المناطق السكنية والأنهار والينابيع ومصادر وتجمعات المياه والبحر.
-ضرورة بعدها عن المطارات، لما تشكله من مخاطر محتملة على سلامة الطيران المدني.
-الظروف الجيولوجية والهيدروجيولوجية للمنطقة.
-الظروف المتعلقة بالنشاط الزلزالي للمنطقة.
-وجود المياه الجوفية واستعمالاتها الحالية والمستقبلية.
-خطر الفيضانات والإنزلاقات والإنهيارات الأرضية في المنطقة.
-مسافات النقل ووجود البنية التحتية لطرق الوصول إليه، وتأثير حركة نقل النفايات على حركة السير العامة على الطرق الرئيسية والفرعية.
-سهولة الوصول إلى مواد التغطية المؤقتة والدائمة (أتربة ومواد مناسبة).
-طوبوغرافية الموقع.
المطمر منشأة هندسية تتكون من تجويف بمقاييس محددة، تغطى أرضيته بعدة طبقات من المواد العازلة والأغشية التي تمنع تسرب السوائل عبرها، كي لا تنتقل لتلوث التربة والمياه الجوفية أو المياه السطحية أو البحر. يوضع نظام من الأنابيب لجمع “العصارة”، التي تتكون في المطمر من رشح السوائل الموجودة في النفايات، وتلك التي تتكون نتيجة عمليات تفاعلها وتفككها، ومن مياه المطر. تتم معالجة “العصارة” قبل التخلص منها في الطبيعة، في التربة أو الأنهار أو البحر.
ويوضع نظام من الأنابيب لجمع الغازات التي تتكون من تفكك المواد العضوية اللاهوائي، لكي تستعمل لإنتاج الطاقة، ومنع انبعاثها في الهواء الجوي، لما تشكله من مخاطر على البيئة الكلية (تغير المناخ)، والمحلية تفاديا لآثارها على الصحة العامة ورفاه المواطنين في المناطق القريبة.
تشكل معالجة “العصارة” والتخلص منها تحديا كبيرا يواجه مشغلي المطامر عبر العالم، تمثل الإدارة الفعالة لهذه العصارة أهمية كبيرة في السنوات الأخيرة نظرا للتشريعات البيئية الجديدة الأكثر صرامة في كثير من البلدان، وكذلك ارتباطا بتغيُّر ملحوظ في تركيب النفايات، مما أثَّر بشدة على نوعية “العصارة” وتركيبها الكيميائي ومخاطرها على البيئة.
تشير المعلومات حول العالم بأن كلفة معالجة “العصارة” تصل إلى 30 بالمئة من الكلفة الإجمالية لتشغيل المطمر. وهذا ما يترافق بضرورة العمل على تطبيق التقدم التكنولوجي للتخفيف من كلفة المعالجة، مع الإستمرار في الإمتثال التام للتشريعات الجديدة الصارمة.
يكمن التحدي الأكبر لمشغلي المطامر ومسؤولي السلطات المحلية والبلدية والحكومة في تطوير عمليات معالجة العصارة، بحيث يتم التأكد من أن السوائل الملوَّثة لن تؤذي الأراضي القريبة، وإمدادات المياه وعناصر البيئة، بما فيها المياه السطحية والجوفية والبحر.
إن الطريقة الأسهل، ولكنها ليست الأفضل، لدى مشغلي المطامر حيال معالجة العصارة والتخلص منها، هي إرسالها إلى محطات معالجة مياه الصرف الصحي الآتية من المنازل والمناطق السكنية عبر شبكة مجاري البلدية. ولكن ذلك يواجه مشاكل وصعوبات كثيرة متأتية عن الإختلاف الكبير بين تركيب العصارة من جهة، ومياه الصرف الصحي من جهة أخرى، ولا سيما في ما يتعلق بالمؤشرات الكيميائية.
يفضِّل مشغلو المطامر هذه المقاربة، لأن معالجة مياه الصرف الصحي ليست مهمتهم ولا مسؤوليتهم، بل هي تقع على مشغِّلي محطات معالجة المياه المبتذلة، ولأنها أيضا قليلة الكلفة عليهم.
في لبنان، هناك عدد قليل جدا من محطات معالجة مياه الصرف الصحي التي تعمل فعلا، وقدراتها الإستيعابية محدودة أيضا.
في الحقيقة، يجب أن تخضع “العصارة” إلى عمليات معالجة تحضيرية قبل إرسالها إلى محطات معالجة مياه الصرف الصحي، التي تقوم فعلا بعمليات المعالجة الثنائية أو الثلاثية، وليس تلك المحطات التي تقوم بالكاد ببعض أعمال ما قبل المعالجة، وبقدرات وفعالية محدودة جدا. تتعلق تلك العمليات التحضيرية عادة بمعالجة “بيولوجية” تؤدي إلى تخفيف تراكيز المواد العضوية والنيتروجين.
في بعض الحالات، ترمى “العصارة” بعد معالجتها الكاملة في البحر أو المجاري المائية (الأنهر). ففي هذه الحالة تتطلب مستوى من المعالجة أكبر بكثير من تلك المطلوبة قبل إرسالها إلى محطات معالجة مياه الصرف الصحي. وغالبا ما تتطلب معالجة متقدمة قبل السَّماح برميها في البحر والأوساط المائية العذبة، وهناك محاذير جدية لرمي العصارة في البحر والأنهار دون معالجة متقدمة مسبقة.
إن أكثر الطرق شيوعا لمعالجة”العصارة” هي الطريقة البيولوجية المترافقة مع الترسيب والفلترة (التصفية بالرشح)، تنتشر بشكل واسع أنظمة المعالجة البيولوجية الهوائية، ولكن تستخدم بعض المحطات أيضا المعالجة اللاهوائية.
يتزايد استعمال الأغشية المتطورة لتحقيق عمليات الفصل في الأنظمة البيولوجية الحديثة، وكذلك العمليات المعتمدة على أغشية المفاعلات البيولوجية أو المفاعلات البيولوجية ذات التخت المتحرك.
تعتبر العمليات البيولوجية في أنظمة المعالجة نموذجية لناحية فعالية الكلفة في اختزال الطلب البيوكيميائي على الأوكسجين Biochemical Oxygen Demand (BOD)، والطلب الكيميائي على الأوكسيجين Chemical Oxygen demand (COD)، وهما مؤشِّران أساسِيَّان للتلوُّث في الأوساط المائية عموما وفي “العصارة” خصوصا، وكذلك تراكيز الأمُّونيا الموجودة في عصارة المطامر.
تعتمد الطرق الحديثة على استخدام أغشية الفصل في عمليات المعالجة، ما يؤمِّن معالجة عالية النوعية للنفايات السائلة، وتعتبر أفضل الطرق لمعالجة العصارة، تلك التي تجمع بين المعالجة البيولوجية والفيزيائية والكيميائية.
تشمل عمليات المعالجة البيولوجية العمليات الهوائية واللاهوائية، وكذلك تقنيات الفيلم الثابت والتقنيات المعلقة Fixed film and suspended technologies. أما العمليات الفيزيائية الكيميائية فتتضمن الترسيب الكيميائي والتخثر Precipitation and Coagulation، وكذلك الأكسدة الكيميائية والأكسدة الكيميائية المرفقة بالأشعة ما فوق البنفسجية UV، بالإضافة إلى التعويم بالهواء المذاب Dissolved air flotation، وتبادل الأيونات أي تقنية الراتنجات Ion exchange – resin technology، والتناضُح العكسي reverse osmosis (RO)، والترشيح الدقيق باستعمال الأغشية المتخصصة Ultra-filtration (specialized membranes)، تستعمل الطرق الفيزيائية – الكيميائية لإزالة المكوِّنات الموجودة في “العصارة”، التي لا تتفكك في الأنظمة البيولوجية.
تستعمل المعالجة المتكاملة عالية الفعالية للعصارة الأنظمة البيولوجية، متبوعة بعمليات فيزيوكيميائية متقدمة لتحقيق نوعية معالجة أفضل.
من جهة أخرى، يستعمل التبخُّر أيضا بشكل واسع، ويعني تبخير الجزء السائل من العصارة. أما المواد المتبقية، والتي تتكون بمعظمها من الأملاح، فيعاد طمرها في المطمر ذاته.
يتطلب اختيار مكان موقع محطة معالجة “عصارة المطامر”، وكذلك تقنية المعالجة الملائمة، تحليلا دقيقا يأخذ بعين الإعتبار معايير الفعالية والإستدامة، وحماية البيئة بكل عناصرها وأوساطها، لما لذلك من إمكانية لتلويث بيئي يصل إلى الشبكة الغذائية للإنسان، ما يهدد الصحة البشريًّة بأكبر المخاطر.