لم نتوقع في مقاربتنا لقطاع تمكين المرأة وتعزيز حضورها الاجتماعي والاقتصادي، حجم المصاعب والمشقات التي تلقاها، لا سيما في قطاع تربية الأبقار وإنتاج مشتقات الحليب، ومدى المعاناة الماثلة بما هي انعكاس لما يواجه قطاع تربية الماشية بشكل عام على حياة عائلات بدأت تعاني وقع أزمة إنسانية واجتماعية، ولم نتوقع أن يتحول هذا الموضوع التنموي الذي بادرنا إلى الإضاءة عليه لمأساة يعيشها العاملون في هذا القطاع الزراعي الحيوي، وصرخة مدوية أطلقوها من خلال greenarea.info، فهل ثمة من يسمع؟
جورجيت كفروني… شركة خاصة
تواصلنا في البداية مع المزارعة جورجيب كفروني من بينو – عكار، والتي استفادت من ورشة تدريب برعاية منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة الفاوFood and Agriculture Organization of the United Nations (FAO) بعنوان “مشروع تمكين وتأهيل قطاع الحليب في سهل البقاع وجرود الهرمل وعكار”، الموجه لتمكين وتعزيز دور المزارعات من النساء، ومساعدتهن في إنشاء عمل خاص بهن، يساعدهن في توفير دخل يؤمن استقلالهن المادي والمعنوي، ويساهم في مشاركتهن في سوق العمل ورفد عائلاتهن بدخل خاص، وأشارت كفروني إلى أن “الفاو ساهمت بأن أكون أكثر من مجرد سيدة منزل، أي ساعدتني في أكون إمرأة عاملة، لا بل صاحبة عمل، وساعدتني بتثبيت وجود وكيان خاص بي، وأن أترك أثرا انعكس على تجربتي الخاصة، قد واجهتني مصاعب وعقبات كثيرة وكبيرة، ولكنني استطعت الوصول إلى هدفي”.
وأضافت: “تمكنت من تغيير الصورة المرادفة للمرأة المزارعة، حيث يُعَــيِّب عليها المجتمع العمل في هذا القطاع، فقد ساعدتني الفاو بدوراتها وتوجيهاتها المستمرة ومساعداتها التقنية باختصار مراحل كثيرة، ومساعدتها القيمة من معدات وتدريب، أوصلتني إلى ما أنا عليه الآن”، ولفتت إلى أنها “وظفت 4 فتيات للعمل في شركتي، وننتج حاليا طنا ونصف الطن من مشتقات الحليب خلال فترة قصيرة للغاية وهي سنة ونصف السنة، بعد أن كان إنتاجي اليومي لا يزيد عن 80 كيلوغراما”.
وأضافت كفروني “أعطتني الفاو حلة تسع 220 ليترا، بعد أن كنت استعمل حللا صغيرة لا تزيد عن 60 ليتر وأضطر للعمل ليل نهار، لأصل إلى إنتاج 80 كيلوغراما، فضلا عن براد يتسع لـ 500 ليتر من مشتقات الحليب وتخزينه، وليس ذلك فحسب، بل ساهمت بتعليمنا وتدريبنا لتكون منتجاتنا بأفضل نوعية وجودة ونظافة، وساهمت بتحويل عملي إلى شركة عائلية وانتاج حليب من مزرعتنا التي يعمل فيها زوجي وأخيه، بينما أعمل مع موظفاتي في إنتاج (الشنكليش) بشكل رئيسي، فضلا عن اللبن الذي يوزعه شقيق زوجي في بيروت”.
العيب الكبير ألا تكون المرأة منتجة
وقالت كفروني: “أصبحت مدربة لعدة نساء أخريات، وأفخر بأن ثلاثة منهن يقمن حاليا بإنتاج مشتقات الحليب بنوعية عالية وكميات جيدة وبشركات خاصة بهن”، وأضافت: “كان المجتمع يعّيب علينا العمل في هذا القطاع، وهنا اتمنى على كل النساء اللبنانيات أن يعملن، فليس العيب العمل، وفي أي مجال، بل العيب الكبير ألا تكون المرأة منتجة، فالمرأة قادرة على دعم الإقتصاد، والمساهمة بتعليم أبنائها وتحسين مستوى حياتهم”.
وزارة الزراعة
وأشارت كفروني إلى أن “الفاو ساهمت بتعريف وزارة الزراعة اللبنانية علينا، وقالت: “بغض النظر عن رأينا السياسي وبدون أي تردد نقول جميعا بخصوص معالي وزير الزراعة السابق الدكتور حسين الحاج حسن، فإنه من أفضل الوزراء الذين وصلوا إلى هذه الوزارة، فقد دعم عملنا، وساهم بتنميته، وأوجد المبادرات والحوافز لتمكين المزارع وتحسين أوضاعه المادية ورفع ظلال الفقر عنه”، وأضافت: “للأسف فهذا الأمر لا نجده في الوزارة الحالية، فقد قرر معالي الوزير أكرم شهيب في الفترة الماضية، أن يكون ثمن ليتر الحليب 600 ليرة لبنانية، فكيف نستطيع الإستمرار وتكلفة ليتر الحليب يصل إلى 950 ليرة لبنانية؟”.
بيع الأبقار أو ذبحها
وأضافت كفروني: “خرب الوزير شهيب بيوتنا، وكان لدي مركز استلام حليب لأكثر من 35 مزارع صغير، وكنت أجمع أكثر من 10 أطنان حليب يوميا، وفي الأسبوع الماضي، اضطررت أن أرمي 4 أطنان حليب من انتاج مزرعتنا، وهي مزرعة عائلية يقدر انتاجها بطن يوميا، لأن معملي لا يستوعب سوى طن ونصف الطن، ومن لم يبع أبقاره من المزارعين فقد ذبحها واحتفظ بعدد قليل لاستهلاكه الشخصي”.
ولفتت كفروني إلى “اننا حاولنا التواصل مع الوزير عدة مرات، وتجاهل اتصالاتنا، ولم تنفع كل مبادرتنا للتواصل معه، فلا رد ولا آذان صاغية، ونحن هنا نرمي منتجاتنا ونصرخ”.
انعدمت وسائل عيشنا
وقال المزارع رامي نجد من العبادية لـ greenarea.info: “الوزير (رح يخلينا نشحذ)، لدي 200 بقرة، ولا أعرف ماذا أفعل”، وأضاف: “رغم تراجع الوزير عن قراره، بعد لقائنا به كمجموعة من المزارعين من كافة المناطق وقرر إلغاء تخفيض سعر الليتر إلى 600 ليتر، الذي اضطر للقيام به وكما قال تحت ضغط خارجي!، عاد لرفع السعر إلى ألف ليرة، إلا أن المعامل ترفض استلامه بهذا السعر كون براداتها مليئة من الحليب المهرب والحليب الذي اشترته عندما كان السعر منخفضا، وقالت المعامل لنا بالحرف الواحد (روحوا بيعوه للوزير بهالسعر)”.
وأشار نجد “لسنا وحدنا من يعاني بل كل قطاع الماشية، صديقي في منطقة البقاع الغربي في بلدة غزة لديه 22 بقرة ذبحها، ليعيش، وآخر يربي الأغنام يعاني من سماح الوزارة ببيع الغنم المهرب بأسعار منخفضة”، وأضاف: “لقد انعدمت كل وسائل عيشنا، لدي مزرعة كبيرة، وإن ذبحت أبقاري، سيصبح سعر اللحم بالأرض، كوني لن أكون وحيدا، كما أنه مورد عيشي وعائلتي”، وقال واصفا فترة الوزير السابق الحاج حسن “عشنا مرتاحين، خصوصا أنه حدد سعر ليتر الحليب بـ1150 ليرة، ودعمنا بالأعلاف والأدوية، ووضع ضريبة على حليب البودرة، ومنع التهريب، وكانت قراراته وخطواته تهدف لتمكين المزارع ودعمه لا تجويعه وقهره كما نشهد الآن”.
لا حياة لمن تنادي
وتواصلنا مع المزارع عثمان حيمور من منطقة غزة في البقاع الغربي فقال لـ greenarea.info: “المسؤولية لا تقع على وزير الزراعة فحسب، بل على كل الحكومة، وعلى الدولة المسؤولة عن الشعب اللبناني في ظل غياب رئيس للبلاد، وهم لا يشعرون بمعاناتنا، فلا تضع الوزارة روزنامة زراعية، ولا دعم للأعلاف، يعطومنا طن علف (ويمننوننا)، كان لدي 12 بقرة، بعتها بربع ثمنها، والآن أحاول إعالة عائلتي بزراعة القمح والبطاطا”، وأضاف “رمينا الحليب بالأرض ولا حياة لمن تنادي، يعدونا بالخير، ولا يأتينا إلا الويل”.
بين الزبالة… والزبل!
وتواصل مع greenarea.info المزارع مصطفى المصري من منطقة غزة في البقاع، فقال: “في منطقة غزة البقاع أكبر نسبة من مربي الأبقار، وهذا القطاع يعيل ما لا يقل عن 4 آلاف عائلة، وللأسف فنحن على حافة الفقر”.
وأضاف: “لدي 40 بقرة وأدفع سنويا ملايين الليرات ثمن أعلاف وأدوية، فكيف سأبيع ليتر الحليب بـ 600 ليرة وتكلفته لا تقل عن 850 ليرة، بينما سعر ليتر الماء ألف ليرة، فنحن نطعم الأبقار خلال الشتاء، ولم نحتسب مونة الشتاء بعد، لذا ليتر الحليب يكلفنا ما لا يقل عن 250 ليرة من جيوبنا”، وأضاف: “التزمت بعض المعامل بالتسعيرة التي أقرها الوزير مؤخرا، وهي ألف ليرة، إلا أن معظمها لم يلتزم، وبالتالي، اتجهت لجنة مصغرة مكونة من 6 أعضاء ممثلة لمربي الأبقار اليوم للقاء وزراء الزراعة والصناعة والإقتصاد، وننتظر نتيجة هذا اللقاء”، وأكد على أنه “في حال الفشل بالتأثير على المعامل غير الملتزمة، أجمع مربو الأبقار على قرار بقطع كافة الطرق النافذة، لمنعها من تصريف انتاجها، وبالزبل بدلا من الزبالة”.
بيان اجتماع الوزارات والهيئات المعنية
وفي هذا السياق، وبعد تواصل اللجان المسؤولة عن مربي الأبقار مع الجهات المسؤولة، عقد في مكتب وزير الزراعة أكرم شهيب اجتماع مشترك ضم الوزارات المعنية من وزارة الصناعة بحضور وزير الصناعة حسين الحاج حسن، ووزارة الإقتصاد ممثلة بمديرة وزارة الاقتصاد والتجارة عليا عباس، رئيس مصلحة حماية المستهلك طارق يونس، رئيسة مصلحة الاقتصاد والتسويق والتصنيع الحيواني آفي خوري، رئيس مصلحة الاستيراد والتصدير والحجر الصحي البيطري الدكتور يحيى خطار، ووزارة الزراعة ممثلة بمدير عام الزراعة المهندس لويس لحود، رئيس مجلس إدارة مدير عام مصلحة الابحاث العلمية الزراعية الدكتور ميشال افرام، مدير الثروة الحيوانية الياس ابراهيم، رئيسة مصلحة الصناعات الغذائية مريم عيد، رئيس مصلحة انتاج وتربية الحيوان الدكتور سليم المصري، رئيس دائرة الحجر الصحي البيطري اكرم وهبي، رئيس دائرة الثروة الحيوانية في جبل لبنان الدكتور رفعت غانم، ومسشتاري الوزير شهيب انور ضو ونبيل ابو غانم، وممثلين عن مربي الابقار وممثلين عن مصانع الالبان والاجبان ومشتقات الحليب لمعالجة ملف تصريف وتصنيع الحليب الطازج.
وتم خلال الاجتماع عرض لمشكلات القطاع، ومنها تصريف الانتاج المحلي للحليب الطازج ومشاكل المزارعين وتم التركيز على مسألتين، الاولى الاستخدام الواسع للحليب المجفف على حساب الحليب الطازج في التصنيع، ومسألة التهريب التي تؤثر على تنفيذ قرار اخضاع استيراد الاجبان البيضاء للإجازة المسبقة، بالاضافة الى تحديد سعر استلام مصانع الالبان والاجبان للحليب الطازج.
وتم الاتفاق في الاجتماع على الآتي:
1-الابقاء على السعر المحدد سابقاً لاستلام سعر ليتر الحليب الطازج، وهو الف ليرة لبنانية.
2- التأكيد على اخضاع استيراد الأجبان والألبان البيضاء لإجازة تصدير مسبقة.
3-التأكيد على دور مصلحة حماية المستهلك في المراقبة على مواصفات الالبان والاجبان، ومنع بيع المنتجات غير الموضبة والتي يجب ان تحمل البطاقة التعريفية والتي تشمل اسم المنتج والمصنع وعناصر الانتاج.
4-اخضاع استيراد الحليب المجفف بشروط، كل وحدة قياسية فوق 2.5 كلغ يخضع استيرادها لإجازة استيراد مسبقة من وزارة الزراعة وإفادة من وزارة الصناعة، ولا يعطى المصنع الذي لا يلتزم باستلام الحليب الطازج إجازة استيراد للحليب المجفف.
5-تشكيل لجنة مشتركة من ممثلين عن وزارة الزراعة ووزارة الصناعة ووزارة الاقتصاد والتجارة وممثلين عن المزارعين والمصانع للاشراف على تنفيذ ما اتفق عليه.
تعذر الاتصال بوزير الزراعة
وأمام تعنت بعض معامل الأجبان ومشتقات الحليب لجهة الالتزام بالسعر المقرر من الوزارة وهو الف ليرة لكل ليتر حليب، في ظل هذا الواقع المأزوم الذي يمس كافة القطاعات في لبنان، ولا نستثني أي قطاع من زراعة وصناعة وتجارة وسياحة نتيجة سياسات الحكومة الملتبسة، فهل نأمل بأن تنعكس هذه الصرخة والصرخات العديدة على كامل مساحة الوطن على الإنتخابات البلدية والاستحقاقات الأخرى القادمة، لتساهم في تغيير فعلي وجوهري يساهم في التنمية وتمكين هذا القطاع وغيره أمام كل هذه التحديات؟
وتعذر الاتصال بوزير الزراعة أكرم شهيب لوجوده خارج لبنان، فيما سيتابع greenarea.info هذا الموضوع معه مطلع الأسبوع المقبل.