عندما يدخل الأقطاب السياسيون على خط تمرير مشروع ما، تسقط المحرمات، وتغدو البيئة مجرد وجهة نظر، وتنتصر الظلامة على العلم، فكيف إن كان هؤلاء الأقطاب بحضورهم الطاووسي يظنون أنفسهم أكبر من الدولة، أو يتماهون معها.
المعلومات المتوفرة حول تجديد وزارة الزراعة رخصة قطع الاشجار في منطقة جنة – نهر ابراهيم، تؤكد ان قرار الوزير أكرم شهيب بالتوقيع جاءت بعد ايعاز سياسي من رئيس اللقاء الديمقراطي النائب وليد جنبلاط، بعد الحاح من رئيس تكتل التغير والاصلاح العماد ميشال عون، وان قرار التوقيع على تجديد اعمال القطع تزامن مع اقرار خطة الحكومة للنفايات والتي اشترطت وزراء التغيير والاصلاح الموافقة عليها بشرط ان يمرر شهيب قرار رخصة قطع الاشجار.
يتضح مع مرور الوقت ان معركة سد جنة معركة “برتقالية” يقودها التيار الوطني الحر، وليس مستغرباً أن يربط “زعيم الرابية” موافقته على خطة النفايات بشرط موافقة زعيم المختارة على تمرير توقيع يتيح تدمير ما بقي من مساحات خضراء، وما على الوزير المعني إلا الطاعة!
ثمة حالات شبيهة في التاريخ، فلنتذكر ما قاله يوما الملك لويس الرابع عشر “أنا الدولة والدولة أنا”، حتى بعد قيام الثورة الفرنسية قال الرئيس الفرنسي الراحل شارل ديغول: “فرنسا ليست على ما يرام… رأسي تؤلمني!”، ولكن، كان ذلك قبل أن ترسخ الديموقراطية جذورها في أوروبا.
يبدو في لبنان أننا ما نزال نرقى إلى العصور الوسطى، فالدولة إقطاعات ومراكز نفوذ وقوة، يتقاسمها الأقطاب أنفسهم بالقسط والعدل، ولا نفاجأ أن يتجاوز هؤلاء خلافاتهم عندما تكون مصالحهم في خطر، طالما الخدمات تسدى خارج منطق الدولة، وبعيدا من قوانين مفترض أن ترسم الحدود بين الصح والخطأ، بين النفعية والخدمة العامة، بين مصلحة الناس وتدمير بيئتهم، بين الظلم والعدل، لكأن الأقطاب هؤلاء يمثلون قيم الشر، فيما قيم الخير ضامرة مع شعب مستلبة إرادته.
تدمير مواقع وذاكرة
ليس ثمة مثال في العالم الآن عن تضامن السياسيين لتدمير مواقع وذاكرة في بلدانهم، إلا في لبنان حيث الاستثناء بات قاعدة، وهذا ما يطاول “سد جنة – نهر ابراهيم”، خصوصا ما شهدناه في الأيام القليلة الماضية، عندما تسلح متعهد المشروع بقرار طلب “إعادة العمل بإجازة قطع أشجار حرجية في نطاق مشروع سد جنة” ذيل بتوقيع وزير الزراعة أكرم شهيب “مع الموافقة لغاية 31-6-2016″، وبالفعل تم قطع أشجار معمرة، والمدة المعطاة كافية لتجريد منطقة واسعة من غطائها الأخضر. وبحسب المعلومات المتوفرة من اهالي المنطقة فان اكثر من خمسين منشار آلي و اربع آليات حفر وخمسة جرافات كبيرة التهمت حتى مساء امس مساء واسعة من الرقعة الحرجية الخضراء في المنطقة، في وقت تكتفي وزارة البيئة بارسال كتب اعتراضية خجولة لا تقدم او تاخر في استمرار قرار القطع اقله حتى أواخر الشهر المقبل.
ويأتي توقيع الوزير شهيب، ليدحض ما قاله سابقا من أنه لم يعطِ موافقة لقطع الأشجار في منطقة سدّ جنّة، فيما الوقائع مؤخرا بينت أن ثمة محاولة لتحوير مضمون كتاب مؤسسة مياه بيروت وجبل لبنان الذي وقع عليه دون ان يتمّ تسجيل هذه الموافقة في قلم الوزارة، ولا تعميمها على المسؤولين فيها بحسب الأصول المرعية الإجراء. وان شهيب وافق خطياً على كتاب الشركة المتعهدة بتجديد اجازة قطع الاشجار التي اصدرها سبقها وجمدها في وقت لاحق.
وزارة البيئة
وفيما وجه وزير البيئة محمد المشنوق سلسلة كتب الى كل من رئيس مجلس الوزراء تمام سلام ووزير الزراعة أكرم شهيب ووزير الطاقة والمياه أرتيور نظريان ومحافظ جبل لبنان فؤاد فليفل، ليس ثمة من يعلم ما إذا كانت الوزارة قادرة على تصويب ما هو قائم، من خلال مجلس الوزراء.
وأبدى استغرابه لـ”موافقة وزارة الزراعة على اعادة العمل بقطع الاشجار في سد جنة”، وطلب من رئيس الحكومة “عرض الموضوع على مجلس الوزراء بالسرعة الممكنة لاتخاذ القرار المناسب”.
وطالب المشنوق في كتابه الى محافظ جبل لبنان “ضرورة منع أي أعمال في موقع سد جنة وذلك الى حين اتخاذ مجلس الوزراء القرار المناسب حول الموضوع”.
كلفة التدهور البيئي
ولسنا بحاجة للتذكير بما ساقه الخبراء لجهة الأضرار وتوالت عبر تقارير فنية خلص أحدها إلى تضارب المعلومات ما بين التقرير الجيولوجي والهيدروجيولوجي الصادر عن شركة “خطيب وعلمي” من جهة، والتقرير الصادر عن خبراء المعهد الفيديرالي الألماني “BGR”، لا سيما تلك المتعلقة بتسرب المياه الجوفية واتجاهاتها في الطبقات الجوفية في الحوض الأعلى لنهر ابراهيم باتجاه الحوض الجوفي لنبع جعيتا، فضى عن وجود تناقض لناحية النظام الهيدروجيولوجي لأرضية منطقة البحيرة (السد) ومحيطها.
مع الإشارة إلى أن المسح الشامل للتنوع البيولوجي بيّن مدى الأثر الذي لا يمكن تعويضه في ظل اندثار النظام البيئي في هذا الجزء من وادي نهر ابراهيم، إضافة الى مناطق التأثير السلبي المحتملة للمشروع وكلفة التدهور البيئي والانعكاسات والنتائج السلبية والخطيرة التي سيلحقها المشروع بالإرث الثقافي والتاريخي، ما استدعى الطلب من وزارة الثقافة إبداء الرأي وتحديد الأضرار بالمواقع الأثرية.