لماذا هذا الإصرار غير المبرَّر بشأن “سد جنة”؟ ولماذا يكون الإصطفاف الحكومي حياله، بمعظمه، من منطلقات التحالفات السياسية، وليس بالإحتكام إلى العلم والدراسات البيئية والجدوى ودرجة المخاطر على الطبيعة والبيئة، وعظم المخاطر على السلامة العامة، المترتبة عن احتمالات التعرض للزلازل والحوادث الكارثية، ولعدم الجدوى المائية منه؟
أسئلة تطرح نفسها أمام هذا التمادي بتجاهل خلاصات الدراسات العلمية، التي قامت بها جهات علمية موثوقة ومعتمدة متخصصة لبنانيا وعالميا.
ماذا يريد القول أولئك الذين لا يزالون يشنُّون الحملات الإعلامية والسياسية والتحريضية لتمرير المشروع رغم كل مخاطره، “عنزة ولو طارت”؟
على كل حال، يبدو أننا أصبحنا في بلد الجنون في كل شيء، فمن عبث سياسات النفايات الكارثية على البيئة والصحة ونهب المال العام، إلى التصلب والتمسك بمشروع “سد جنة”، المحفوف بالمخاطر والسلبيات من كل الجهات، وبكل المعايير، ووفق كل أنواع الدراسات.
إن فلسفة تقييم الأثر البيئي للمشاريع قبل البدء بتنفيذها ليست فلسفة ترف وهرطقة عقلية وسياسية وبيئية، بل هي خلاصة دروس التاريخ الحديث من مشاريع التنمية، التي بنيت على ضوء الرؤية البائدة للتنمية، التي لا تعير أبعاد الإستدامة أي اهتمام، فكان أن ظهرت تأثيراتها الكارثية سنوات بعد إنشائها، وبعد أن أحدثت ما أحدثت في الطبيعة والبيئة من تغييرات غير قابلة للإصلاح، ولا تزال شعوب ودول كثيرة تدفع أثمان هرطقتها الإنمائية.
تقييم الأثر البيئي ضرورة لدرس ما يتوقع، على ضوء العلم، من آثار على كل جوانب البيئة والطبيعة والمجتمع، ومحاولة التحكم بهذه الآثار والتخفيف من شدتها إلى حدود مقبولة، من خلال إجراءات التخفيف، وفي الحالات التي لا يمكن تخفيفها، يتم تحديد إجراءات التعويض، وفي حال كانت الآثار السلبية كبيرة وشاملة إلى مدى لا تنفع معه أي إجراءات تخفيف أو تعويض، وتكون جدوى الإستفادة من المشروع مشكوك بها علميا لدرجة أن يصبح المشروع كله موضع شك، عندها يقول العلم والعقل السليم بالتخلي عن المشروع، والبحث عن بدائل له تحقق حدا مقبولا من الأهداف المبتغاة منه.
إن مشروع “سد جنة”، من حيث موقعه، وطبيعة الأرض والجيولوجيا، ومن حيث الشك العلمي القوي جدا بقدرته على تحقيق ما يرتجى منه من أهداف، لناحية كميات المياه التي يمكن أن يجمعها، ومن حيث تأكيد المخاطر الكبيرة المترتبة على إنشائه، والتي ترتبط بالتهديد الحقيقي بتسريبه للماء، أو بتعرضه لحركات زلزالية تؤدي إلى دماره وتسببه بكارثة لكل محيطه، ولناحية عدم جدوى أي إجراءات تخفيف أو تعويض، ولضعف المأمول المرتجى من جدواه وفعاليته، يكون قرار التخلي عنه هو القرار العقلاني الوحيد، والبحث عن بدائل أكثر جدوى وأقل أثرا سلبيا على الطبيعة والبيئة.
إن العناد السياسي، غير المرتكز على أي أسس علمية موثوقة وثابتة وصلبة، هو باب خطير يوصل إلى الكوارث، التي لا ينفع معها الندم بعد حصولها.
إن عقلانيتنا وفهمنا العميق لفلسفة تقييم الأثر البيئي للمشاريع، توصينا بالنصح بالعدول عن هذا المشروع والتفتيش عن بدائل له، والتخلي عن التعنت السياسي من قبل المدافعين عن المشروع والمتعاطفين سياسيا معهم.