في خطوة تصعيدية قد تستتبعها خطوات لاحقا، اعتصم مربو الأبقار صباح أمس في ساحة شتورا (البقاع الأوسط) بعد أن سدت أمامهم كل السبل لجهة تصريف الحليب ومشتقاته، في ظل تجاهل المعامل لسعر الألف ليرة لكل ليتر حليب، والذي حددته وزارة الزراعة بالاتفاق مع الوزارات المعنية في وقت سابق من الشهر الماضي، وأطلقوا صرخة مدوية، وقطعوا الطريق الدولية وأشعلوا الإطارات المستعملة، رافضين التسويف والمماطلة بعدما تفاقمت معاناتهم، ما بات يهدد لقمة عيشهم.
فبعد نحو ثمانية أشهر من الانتظار لم تتمكن الدولة من حماية انتاجهم، ومع الإتجاه لخطوات حاسمة في الأيام المقبلة، فقد شهدت طريق الشام الدولية زحمة سير خانقة امتدت حتى حاجز قوى الأمن الداخلي في ضهر البيدر.
تجمع مزارعون من كافة مناطق البقاع، نساء ورجالا، وعبروا عن سخطهم من تجاهل المعنيين، وقالت إحدى مربيات الأبقار من سعدنايل لموقعنا greenarea.info “الحليب بسعر 600 ليرة، ولا نستطيع شراء المؤونة من علف وغيره، فالحليب سعره (بالأرض)، ولا نستطيع اطعام الأبقار، ارحمونا”.
المعامل أقوى من الوزراء
وطالب البعض بالبقاء في ساحة الإعتصام والتصعيد، فإن عادوا عن اعتصامهم، فعليهم رمي الحليب أو ذبح بعض الأبقار أو بيعها لإطعام بقية الأبقار، وشكا معظم المعتصمين من إغراق الأسواق بمشتقات الحليب المصنوعة في المعامل غير الشرعية على الحدود اللبنانية – السورية، والتي لا تخضع لأية معايير صحية ونوعية، وطالبوا بأن تكون هذه المعامل بعيدة مسافة 30 كيلومترا عن الحدود.
[youtube https://www.youtube.com/watch?v=1UrdRIIqpmM]
وأكدت بعض الشعارات المرفوعة أن بعض المعامل أقوى من الوزراء، كونهم يفرضون أسعارهم ضاربين عرض الحائط بالسعر المحدد من قبل الوزارة والمقدر بألف ليرة الذي توصلت اليه اللجنة الممثلة لهم مع وزراء الزراعة، الصناعة والإقتصاد، وخصوصا بعد اجتماع مع وزارة الزراعة يوم الثلاثاء 24 أيار (مايو) دون تحقيق نتائج إيجابية.
وتابعت لجنة مربي الأبقار مع رئيس الوزراء تمام سلام، يوم الأربعاء من هذا الاسبوع، وعرضوا لمشاكلهم، وطلبوا منه المساعدة في تصريف انتاجهم محليا، بالتعاون مع الإتحاد الأوروبي، لجهة توزيع الانتاج على النازحين السوريين بدلا من مشتقات الحليب المستوردة، وأخذ مربو الأبقار الضوء الأخضر منه للإعتصام، وللتصعيد قائلا لهم “لا يموت حق وراؤه مطالب”.
وقالت سيدة أتت من شمسطار “هذا مصدر رزق عيالي”، وتساءلت: “ماذا نأكل وكيف نصرف على أنفسنا؟”، وأردفت: “نضطر أحيانا للإستدانة لإطعام العائلة، ونحن الآن (نتموّن) أي نحضّر طعام الأبقار للشتاء، من علف وغيره، وإن لم نشتر الآن، سيترتب علينا ما لا يقل 30 بالمئة زيادة في الأسعار خلال فترة الشتاء، وأسعار التبن والعلف مرتفعة فعلا، ولا من مجيب لندائنا”.
إغراق الأسواق
يذكر أن قطاع تربية الأبقار في منطقة بعلبك وشمسطار وغيرهما، تضم ما لا يقل عن 80 مربية أبقار من النساء، فضلا عن السيدات اللاتي يساعدن أزواجهن في المزارع مع أفراد العائلة.
والتقينا ثلاث نساء أشرن إلى أنهن استغنين عن العمال ويساعدن أزواجهن، وقالت إحداهن “يكلف العامل ما لا يقل عن 600 ألف ليرة شهريا ونحتاج لعاملين، كل يوم أسوأ من سابقه”، وقالت مربية الأبقار جمانة الدبس “الوضع مزر، لدي 50 رأس وأتكبد خسارة 200 دولار يوميا، لأن تأمين العلف مكلف جدا. والبقرة تنتج بمعدل 40 كيلو، ونبيعه حاليا بـ 500 ليرة، والمعامل لا يهمها”.
ورفع المعتصمون لافتات طالبوا فيها بمنع استيراد حليب البودرة لمدة سنتين، فضلا عن حليب UHT المستورد، ووقف التهريب، والطلب من أحد المعامل الكبرى برفع الأسعار إلى السعر المحدد من قبل وزارة الزراعة، مع وعود بالتصعيد، حتى أنهم رددوا شعارات طالبوا فيها بتنحي الوزير أكرم شهيب، وطالبوا بتسلم وزير الصناعة حسين الحاج حسن بالوكالة ملف مشتقات الحليب.
وتسبب إغراق الأسواق بحليب البودرة ومشتقات الحليب المستورد والمهرب بتدني سعر ليتر الحليب دون 600 ليرة في بعض المناطق، وإلى مستويات دون سعر الكلفة، علما أن وزارة الزراعة حددت السعر بألف ليرة لبنانية، إلا أن بعض مصانع الألبان ومشتقات الحليب لم تلتزم بالسعر المحدد، ما يهدد المزارعين في لقمة عيشهم وخسارة مزارعهم ومصادر رزقهم، لصالح بعض المعامل والوسطاء المحتكرين، خصوصا أن معظم المزارعين لديهم التزامات مالية تجاه المصارف.
الجراح: القطاع الزراعي يترنح
وفقا للمهندس الزراعي خير الجراح، فإن “معظم القطاعات الزراعية من المنتجات الحيوانية (دواجن، بيض، أبقار ومشتقات الحليب) أصابها الجمود وبشكل سيء للغاية، كما أن المنتجات النباتية انخفضت اسعارها بشكل كبير، وبالتالي فكل القطاع الزراعي يترنح، ولا تبالي الجهات المعنية بما يمر بنا، وكأن الدولة تساهم بانهيار هذا القطاع الذي يعد من أهم ما يدعم الإقتصاد، لا سيما وأن كل القطاعات الآخرى من سياحة وتجارة وصناعة غير منتجة في الوقت الحاضر، وتتكبد الخسائر، ولا نسمع إلا بانهيار مؤسسات واحدة تلو الاخرى”.
وأشار الجراح إلى أنه “إذا لم يبادر المسؤولون لترميم القطاع الزراعي، فسنواجه كارثة اقتصادية واجتماعية”، وأضاف “بالمقابل فإن الحبوب والتبن، ارتفعت أسعارها بشكل كبير، ما يهدد قطاعنا بالذات لجهة النوعية، فضلا عن عدم قدرة الكثير من المربين الصغار على الاستمرار، والذين لم يأت عدد كبير منهم، كونهم هُددوا بلقمة عيشهم، ولا يستطيعون ترك أبقارهم دون عناية”.
ولفت الجراح إلى أن “معظم البيوت والمزارع وأراضي الناس مرهونة للبنوك، بعد حصولنا على تسهيلات لتربية الأبقار، والآن فإن معظمهم لا يستطيعون تسديد الأقساط، وهم بخطر الحجز على ممتلكاتهم وبيوتهم، كما رفعت الدولة الدعم عن القمح العام الماضي، وهناك كارثة تلوح قريبا، ونتجه لثورة جياع، إن لم يحاول المسؤولون تدبير الأمور، أو اختيار شخص يستطيع الإتيان بالعلاج الشافي والوافي”.
ولفت الجراح إلى أن “رأس الهرم (تمام سلام)، نصحنا بالتصعيد، فإن لم تكن لديه الحلول، فلم يعد لدينا سوى أخذ الأمور بيدنا والتحرك”.
مندسون وتهديدات!
بدأ الإعتصام بعدد لا يقل عن 300 مزارع، ولكن يبدو أن ثمة “مندسين” بين الجموع عملوا بإيحاء من بعض المعامل “المحتكرة”، وكانت ثمة تهديدات لعدد من المربين الصغار، فاضطروا للانسحاب من الإعتصام، ولعل ما يسعى إليه مربو الأبقار سيؤمن الحماية لأصحاب المزارع الصغيرة، خصوصا لجهة متابعة العمل للحصول على علم وخبر بنقابة خاصة، تتفاوض باسمهم مع الجهات المعنية المحلية والعالمية، وبالتالي قد يصار لخطوات تنموية كبيرة في المستقبل، ومنها إنشاء معمل خاص للمربين تخدم هذا القطاع الحيوي الذي يعيل أكثر من 20 ألف عائلة في لبنان، وخصوصا أن معملا واحدا يفرض الأسعار كونه يستهلك ثلث الإنتاج.
وفي هذا السياق قال عابد المجذوب “تواصلنا مع معمل كنا نتعامل معه ونورد له إنتاجنا، فأجاب أن لديه اكتفاء ذاتيا، ولديه مزرعة منتجة، تنتج 120 طنا، فماذا نفعل في هذه الحال؟، هل نرمي الحليب؟”.
فرصة ثمينة
وأشار المزارع أسامة الخطيب إلى “ضرورة توعية المواطن حول نوعية منتجات الحليب التي يتناولها، وأن معظم الموجود في الأسواق، هو حليب بودرة (جاف)، ومعظم النوعيات في الأسواق مغشوشة، ويتم صنعها من حليب جاف فقط أو تخلط مع حليب طبيعي”، وقال “لدينا فرصة ثمينة، لنؤكد على نوعية وجودة منتجاتنا وعلينا أن نستغلها”، وأضاف أن “على الناس معرفة مقدار ما نعاني، فلدي 135 بقرة، وحاليا خسائري تبلغ 12 ألف دولار شهريا”.
أمام هذا الواقع، وتقصير الجهات المعنية بالقيام بواجباتها من رقابة ومتابعة وتنمية وتأمين ديمومة القطاع، لا بد من أسئلة على هامش هذا التحرك، وهي: من يحاسب؟ وإلى أين يأخذ سياسونا البلاد؟ أليس من حق المواطن الشك بأسباب هذا التقاعس؟ وإلى متى؟ وكم سيستمر هذا القطاع أمام التحديات التي تأتيه من كل صوب؟ وهل ثمة سلطة للحكومة تفرضها لحماية المواطن من تداعيات الأزمات المتتالية؟ وهل ثمة استراتيجية ستعتمدها على الأقل للقيام بواجباتها؟