لم تدمْ فرحة أبناء وسكان بيروت طويلا، ولا سيما من يقطنون في محيط هذا المسطح الأخضر، فبعد افتتاح زينة معالمها “حرش بيروت” ومتنفسهم الأخضر الوحيد، ورئة عاصمة لبنان، فوجئوا خلال الأسبوع الماضي بمنشأة تشاد في موقف السيارات الخاص بالحرش، وكانت “جمعية نحن” تابعت موضوع افتتاحه على مدى خمس سنوات، وحرصت على تنظيم افتتاحه ليوم واحد في البداية وصولا لافتتاحه كافة أيام الأسبوع، وكان greenarea.info حاضرا مؤكداً ان “الحرش” قضية وطنية تمثل جزءا من ذاكرة بيروت، وفسحة تلاق لناسها البسطاء.
وفي التفاصيل أن أحد المواطنين رصد ورشة عمل في موقف الحرش، وأبلغ جمعية “نحن” فتوجهت لجنة منها إلى الموقع، فوجدت بالفعل بناءً بدأ تشييده، ليعرفوا لاحقا أنه مبنى لـ “مستشفى مصري”، كان موجودا داخل حرم جامعة بيروت العربية، ويخدم سكان منطقة “الكولا” والجوار، وسينتقل إلى هذه المنشأة التي من المتوقع أن تكون من ثلاث طبقات وأن ينتهي العمل بها في مدة لا تتجاوز ثلاثة أشهر.
لمحة عامة
قبل الحرب كانت هذه البقعة الخضراء تعرف بـ “حرش العيد”، وكان سكان العاصمة من كافة الأعمار والطبقات يمضون ساعاتهم وسط أشجاره، في مساحة عامة لا تمييز فيها بين مواطن وآخر، وأهميته الإجتماعية كنقطة تلاق بين مناطق: المزرعة، الطريق الجديدة، قصقص، صبرا، الغبيري، الشياح، بدارو، فرن الشباك ورأس النبع، وانتقلت ملكية الحرش إلى بلدية بيروت في العام 1878، وأصدر رئيس الوزراء سامي الصلح في العام 1960، مرسوما قضى بتحويل الحرش إلى حديقة عامة مُحاطة بأسوار لحمايتها، وأصبح الدخول اليها منظما، حتى اندلاع الحرب الأهلية في العام 1975، وأقدم العدو الإسرائيلي على حرقه في العام 1982 بحجّة وجودالفصائل الفلسطينية داخله، لكنه في الحقيقة كان يتقصد تدمير هذه المساحة الخضراء في عاصمة لبنان.
القوانين
ثمة قوانين عديدة تمنع إقامة أي إنشاءات على مواقع ضمن الأحراش، منها قانون البيئة 444 والمرسوم 8633/2012، الذي يتطلب دراسة الأثر البيئي لأي مشروع في نطاق الاحراج والمناطق الطبيعية المصنفة وذلك “لتحديد وتقدير وتقييم آثار المشروع على البيئة قبل إعطاء القرار بالموافقة على المشروع أو رفضه”، كما أن قانون حماية الأحراش رقم 558/96 يضع معايير صارمة لحماية الأحراج البلديّة والمشاعات العامّة وحرش بيروت، كونه أملاك عامّة خاضعة للبلدية، ولذا فإنه يخضع لهذه المعايير، فضلا عن أن حرش بيروت يقع في المنطقة التاسعة من تخطيط بيروت حيث الإرتفاق يمنع البناء بشكل نهائي.
كما أن المادة الأولى من القرار الناظم للأملاك العمومية في لبنان رقم 144/س الصادر في ظل الانتداب الفرنسي في 13 حزيران (يونيو) في العام 1921 نصت على أن الأملاك العمومية تشمل “جميع الأشياء المعدة طبيعتها لإستعمال مصلحة عمومية”، وقد شرح الفقه هذه المادة بأن المال يكون ملكا عاما اذا اجتمع بشأنه معياران اثنان:
– المعيار الأول أن يكون المال منتميا الى أحد أشخاص القانون العام، وهذا معيار ثابت في هذه الحالة على أساس أن العقار الواقع فيه حرج الصنوبر هو ملك بلدية بيروت.
– أما المعيار الثاني فيقضي بأن يكون المال معدا لاستعمال العموم أو لاستعمال مرفق عام أي المصلحة العمومية وفق ما جاء في التعريف.
وأكد المخطط الشامل لترتيب الأراضي اللبنانية SDATL في العام 2004، وهو الدراسة الأولى في لبنان لشموليتها كافة الأراضي اللبنانية أهمية إدراج حرش بيروت كمنتزه إقليمي لبيروت الكبرى، إذ هو رئتها الخضراء الوحيدة المتبقّية، في رؤية اقتصادية واجتماعيّة بيئية مستدامة، ووضع “مخطط المساحات الخضراء والطبيعية لمدينة بيروت لجهة تحسين المساحات العامة والخضراء، وتأمين اتساقها وترابطها مع النسيج المدُني لتأمين بيئة سليمة للعيش، أما الهدف الرئيس لهذه الخطة فهو دعم بلدية بيروت باعتماد سياسة واضحة وفعالة لتخطيط المساحات العامة، ومنها تأهيل حرش بيروت وإعادة فتحه للجميع.
وتنطبق على الحرش قوانين الأملاك العامة، وقد كرس المخطط التوجيهي لبيروت الكبرى SDRMB، في العام 1986 هذا الحرش كمنتزه إقليمي Regional Park لبيروت وضواحيها، فأوصى بإعادة تشجيره وتحرير أطرافه صوب الجنوب من العمران المخالف العشوائي الذي نشأ خلال الحرب (حرش تابت وحرش القتيل في الضاحية الجنوبية)، كذلك أوعز بإنشاء حديقتين عامتين اضافيتين في فرن الشباك ومطمر النورماندي، ضمن رؤية خضراء لإعمار المدينة، وفازت دراسة منطقة “إيل دو فرانس” Ile De France في العام 1990 بإعادة تأهيل حرش بيروت وتمويله، إلا أن كل القوانين السابقة، لم تحمِ الحرش دون مرسوم رسمي ونهائي أمام التعديات المختلفة.
جمعية “نحن” لا يمكن السكوت عن هذا التعدي
والتقى موقعنا greenarea.info، برئيس “جمعية نحن” محمد أيوب، لمعرفة حيثيات هذا الأمر، فقال: “كان إنجاز افتتاح هذا الحرش من من أهم الإنجازات المسجلة لجهود المجتمع المدني، والذي نتمنى أن يتكرر في مشاريع ثانية وأن يعمم على كافة الجمعيات الأهلية في مشاريع أخرى، إلا أننا تفاجأنا بأنه يشاد حاليا، بناء على جزء كبير من موقف الحرش، والذي لا يستوعب سيارات زائري الحرش بمساحته الحالية، خصوصا أننا كنا ننوي متابعة موضوع زراعة الموقف وصيانته وهي خطوة تأجلت عدة مرات، وحيث أننا لا يمكننا رؤية الحرش كأجزاء مجزأة، وتم قضم أجزاء منه في السابق لبناء الأتوسترادات ومدافن الشهداء وروضة الشهيدين، وجامع، وتقلصت مساحته الأصلية من مليون ومئتي وخمسين ألف متر في العام 1840 بداية إنشائه إلى 330 ألف متر حاليا، فلا يمكن السكوت عن هذا التعدي السافر على أملاك عامة تخص أهالي بيروت خصوصا ولبنان عموما، وبالتالي إن سمحنا بهذا الأمر الآن، فمن يعلم ماذا سيتم قضمه وأخذه من هذا الحرش والأماكن العامة في المستقبل تحت أهداف أخرى”، وأضاف “أردنا معرفة المسوغ القانوني، وكيف استطاع القيمون أن يستمروا في هذا الأمر وبهذه السرعة القياسية، وأجرينا اتصالات عديدة في هذا المجال”.
وأشار أيوب إلى أنه “يمنع في أملاك الدولة العامة إشغال أو إقفال أي جزء منها، كما يمنع حق المرور أو السكن، حتى ولو لبلدية بيروت، فإن الحرج ملك شخصية عامة ولاستهلاك عام، فيصبح أي قرار بإنشاءات عليه غير قانوني، ويتطلب مشروع مرسوم من مجلس الوزراء، فأين الجوهر الدستوري لهذا العمل؟ وأين دراسة الأثر البيئي؟ فضلا عن أملاك الناس والتي ستتأثر قيمتها بإنشاء هذا المستشفى، وهناك أماكن بديلة يمكن استخدامها، وسنلتقي مساء بمحافظ بلدية بيروت لعرض المشكلة ورؤيته لها والحلول المقترحة”.
بلدية بيروت… غائبة!
في البداية، حاولنا الإتصال بنائب رئيس بلدية بيروت المهندس إيلي أندريا، مرات عدة، إلا أن الإتصال في أحد المرات انقطع بعد إعلامه بصفتنا الصحافية وتحديدا عند سماعه greenarea، فظننا أن الخط انقطع، فعاودنا الاتصال مرات ومرات ولكنه لم يجب!
واتصلنا برئيس البلدية الحالي المهندس جمال عيتاني فطلب إمهاله حتى الأسبوع القادم للإطلاع على الموضوع من كافة جوانبه وحيثياته، كونه تسلم مهامه حديثا. أما محافظ بيروت زياد شبيب فتعذر الإتصال به، وتركنا رقم هاتف للإتصال بنا لنتمكن من وضع ردوده أمام الرأي العام، ولم يتصل بنا حتى الآن.
وعدنا للإتصال بمحمد أيوب مساء، لمعرفة نتائج اجتماع جمعية نحن مع محافظ بلدية بيروت، فقال أن “الأزمة تمثلت بأن منطقة الطريق الجديدة تفتقر لمستوصف أو مركز صحي لعلاج السكان، وثمة حاجة محلية كبيرة لمركز صحي، خصوصا مع وجود العديد من النازحين السوريين، وكانت المستشفى موجودة داخل أملاك الجامعة العربية، إلا أن وجود هذا العدد الهائل من المواطنين اضطر الجامعة إلى نقل المنشأة إلى خارج الجامعة، وحيث أن الحكومة المصرية قد تبرعت بهبة لبناء هذه المستشفى ولا يوجد أماكن بديلة، أتى قرار ببنائها في قسم من الحرش وبالتحديد في الموقف، والقرار اتخذ في أواخر عهد البلدية القديمة وبموافقة مبدئية من المحافظ”، وأكد أيوب خطة الجمعية “بالإستمرار بمتابعة الموضوع، واقتراح أماكن بديلة، على سطح مبنى الإطفائية وغيرها، وسنتابع الموضوع في اجتماع لاحق مع المحافظ”.
علامات استفهام كثيرة!
بانتظار قرار مجلس بلدية بيروت الجديد بهذا الشأن، ونتائج لقاء المحافظ مع المجتمع المدني، يبقى مصير هذا المرفق الحيوي بأيدي المسؤولين، فماذا يمنع في المستقبل أن تُبنى أي منشأة أخرى لهدف خدمة عامة، واقتطاع أراض وأجزاء أخرى لتشييد منشآت عدة، وإذ نشكر الهبة المصرية، لا يسعنا إلا أن نتوقف أمام حرمان بيروت من هبة الهواء النظيف، وحول إمكانية إيجاد بديل، وجاء مشروع المستشفى ملتبسا ويثير الكثير من علامات الاستفهام! مع ما يكتنفه من غموض، خصوصا لجهة عدم إشراك الناس بالمخططات، ومفاجأتهم بالمشاريع التي قد تغير وجه مدينتهم، وكان المفروض أقلها طرح هذه المشاريع للنقاش العام، أسوة بكل الدول المتحضرة، ما يجعلنا نشكك بأمور كثيرة مخفية، قد تفاجئنا من وقت لآخر!
حرش بيروت : خط اخضر
واستنكارًا لمحاولة إنشاء المستشفى الميداني العسكري المصري على أرض حرش بيروت غير المخصصة للبناء، دعت #حركة_الشعب – قطاع بيروت يوم الأربعاء ١٥ حزيران، الساعة ٥:٣٠ ، الى اعتصام رمزي أمام حرش بيروت (مقابل الموقع الذي تقام به الإنشاءات) وذلك رفضاً لهذا التعدي الصارخ على حقوقنا كمواطنين.