ما يزال تسمم الغذاء أحد الأسباب الرئيسية للأمراض المختلفة وارتفاع نسب الوفيات في العالم، ومن المعروف أن تعرض الغذاء للملوثات، فضلا عن التسبب بفساده بسبب الإحتفاظ به في درجات حرارة غير مناسبة أو عدم تخزينه بصورة صحيحة، يؤدي إلى أضرار صحية كثيرة وخطيرة.

ويبقى دور تغير المناخ في تسمم الأغذية المختلفة، مجالا جديدا للبحث العلمي في السنوات القليلة الماضية، ومن بينها تقرير علمي جامع لمنظمة الأمم المتحدة للبيئة UNEP في اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة للبيئة UNEA2 انعقد في أواخر الشهر الماضي في نيروبي كينيا، جاء على شكل دراسة بعنوان حدود برنامج الأمم المتحدة للمناخ، القضايا الناشئة ذات الأهمية البيئيةUNEP frontiers, emerging issues of environmental concern.

وكنا في مقال سابق في موقعنا greenarea.info قد بحثنا عددا من هذه القضايا الناشئة وتأثيرها على ازدياد معدل الوفيات.

تغير المناخ وسمية المحاصيل والغذاء

يبحث التقرير بصورة عامة في قضايا ناشئة، لم يتم تناولها بعمق من قبل، لجهة ما يتسبب به تغير المناخ، وتضمن العناوين الهامة التالية: التنمية المستدامة ودور القطاع المالي العام والخاص، الأمراض الحيوانية وتأثيرها على صحة النطاق البيئي، المايكروبلاستيك (جزيئات البلاستيك الصغيرة) ومشاكل السلسلة الغذائية، الخسائر والأضرار: آثار لا مفر منها لتغير المناخ على النظم الإيكولوجية، الكأس المسمومة: تراكم السموم في المحاصيل نتيجة تغير المناخ، والعنوان الأخير، الاستهلاك الغريب Exotic: التجارة غير الشرعية في الحيوانات الحية، ونبحث في هذا المقال مجال تأثير تغير المناخ على سمية المحاصيل والغذاء.

إجراءات التخفيف

تحتوي بعض الأغذية على سموم، وتكون هذه السموم موجودة بشكل طبيعي، أو تظهر نتيجة عملية تحضير وتجهيز الغذاء، إلا أن مساهمات السلطات الرقابية والهيئات التنظيمية المختلفة، وتبني الحلول العملية والمتمثلة بوكالة الأغذية والدواء الأميركية في الولايات المتحدة الأميركية FDA مثلا ، أدت إلى تدني نسب هذه الآثار السلبية، وتمكنت من ذلك بالاستخدام المبتكر لمواصفات الأغذية ومستويات التركيز، وقدرة التحمل لدى الأشخاص لمواد معينة، فضلا عن الملصقات التحذيرية، ونواهي الاستعمال، كما لعبت الشركات المصنعة دورا بوضع حدود لاستعمال بعض المواد، وتحديد إجراءات التخفيف من السموم، لا سيما تلك الناجمة عن العملية التصنيعية.

إلا أنه وبغض النظر عن التدابير من قبل المنظمين ومنتجي المواد الغذائية المتخذة لحماية المستهلكين من السموم الغذائية الطبيعية، فإن استهلاك مستويات صغيرة من هذه المواد السامة أمر لا مفر منه.

تضاعف سمية الغذاء

لا شك أن تغير المناخ يؤثر على الغذاء، وتبعا لتقرير منظمة منظمة الأغذية والزراعة الدولية” FAO فإن المناخ يؤثر على الغذاء في 4 مجالات شاملة، وهي: توافر الغذاء، سهولة الوصول إلى الغذاء، استخدام الغذاء واستقرار النظم الغذائية، وبالتالي سوف يكون لهذه المجالات تأثير على الإنسان وصحته، أصول سبل المعيشة، إنتاج الأغذية وتوزيعها، بالإضافة إلى تغيير القوة الشرائية وتدفقات الأسواق، وتظهر هذه الآثار سواء على المدى القصير، ما يؤدي إلى تكرار وشدة الأحداث المناخية المتطرفة، أما على المدى الطويل، فتلك الناجمة عن تغير درجات الحرارة وأنماط هطول الأمطار.

إلا أننا في هذا السياق، نبحث في أثر التغير المناخي على صحة وسمية الغذاء، وخصوصا أن أبحاثاً علمية أكدت أن سمية الغذاء تضاعفت نتيجة للتغيرات المناخية الأخيرة. وقد أظهرت الدراسات الأخيرة أن كلا من العقود الأخيرة الماضية كانت أكثر دفئا بكثير من سابقتها، وكانت الفترة 2011-2015 الأكثر سخونة على الاطلاق، وتميز العام 2015 بأنه العام الأكثر سخونة منذ العام 1800 أي منذ بدأت عمليات المراقبة الحديثة للمناخ.

الإجهاد

المعروف أن الظروف المناخية المتطرفة والقاسية تعمل على خفض الغلة وعائدات الزراعة، فضلا عن زيادة الخسائر، كما أنها تثير ردود فعل فيزيائية حيوية في النباتات كاستجابة للضغوط البيئية، وتشمل ردود الفعل هذه زيادة تركيز المركبات الكيميائية الضارة لصحة الحيوان والإنسان، كما أن استجابات النبات الوقائية المختلفة للظروف المناخية غير المؤاتية لفترات طويلة، يؤدي إلى الإجهاد ما يمكن أن يطغى على قدرته على الازدهار، ويمكن أن تضعف النبات أكثر، ما يؤدي إلى زيادة قابليته للأمراض، وفي مثل هذه الحالات، تنتج المواد السامة إما من النبات نفسه أو نتيجة غزو الميكروبات والعوامل المسببة للأمراض، ما يمكن أن تنتج عنه مركبات كيميائية معينة في مستويات سامة لصحة الإنسان والحيوان، وقد يؤدي تراكمها إلى تدنٍّ في مستوى الصحة وصولا إلى أمراض وتدني نوعية الحياة وصولا إلى الموت.

أنواع السموم

تعتبر النيترات nitrates من أهم المواد المسببة للتسمم في أكثر من 80 نوعا من النباتات، وفي الظروف الطبيعية، فإن النباتات تحول النيترات إلى أحماض أمينية وبروتين، لكن ظروف الجفاف تساهم في بطء ومنع التحول، ما يتسبب بتراكم النيترات وإلى المستوى الذي تصبح فيه سامة للحيوانات، وهذه المشكلة شائعة في المحاصيل العشبية، إذ يجري تسميدها بهذه المادة، وخصوصا المراعي المعرضة للجفاف مثل الذرة والذرة الصفراء” sorghums التي تحصد كـنوع من التبن، أو تطعم للحيوانات على شكل أعلاف خضراء، وحتى إن استعملت اليوريا أو الأسمدة المحتوية على الأمونيا، فإنها تتحول في التربة إلى نيترات، وتتركز في النبات بسبب الجفاف، ومن هذه النباتات التي تستهلكها الحيوانات وتتميز بزيادة نسبة النيترات: الشعير، الدّخن، الذرة، الذرة الصفراء، فول الصويا، حشيشة السودان sudangrass والقمح.

وعندما تستهلك الأبقار والأغنام والماعز كميات كبيرة من النباتات بنسب نيترات عالية، فإن عمليات الهضم للحيوانات المجترة لا يمكن أن تحلل النيترات بشكل سريع بما يكفي لتجنب التسمم، كما أن استعمال المبيدات يساهم في تركيز هذه المادة في النباتات وبنسب عالية.

ويمكن أن يؤدي تسمم النيترات الحاد في الحيوانات إلى الإجهاض، والاختناق والموت، ما يمكن أن يؤثر في الثروة الحيوانية، وتاليا تدمير سبل معيشة صغار المزارعين والرعاة.

إلا أن الأمطار الكافية يمكن أن تنشط نمو النبات وتساعد على تقليل تراكم النيترات. ومع ذلك، فبعد كسر دورة الجفاف وتدفق الأمطار أو الري، فإن النمو السريع للنباتات يمكن أن يؤدي إلى تراكم مركب خطير آخر أكثر سمية، مكون من مادة السيانيد والهيدروجين وهومركب سيانيد الهيدروجين hydrogen cyanide أو حامض البروسيك prussic acid HCN، ومن الأمثلة على النباتات التي يمكن أن يتراكم فيها حامض البروسيك هي الكاسافا cassava والكتان والذرة والذرة الرفيعة وحشيشة السودان، العشب السهمي arrow grass، العشب المخملي Holcus lanatus، المشمش، الخوخ، الكرز، نبات البيلسان والتفاح.

أما أهم المواد السامة الأخرى التي تتراكم في النباتات والمرتبطة بالمناخ، فهي السموم الناتجة عن نمو المواد الفطرية والمنتجات الفطرية، ويمكن أن تتسبب هذه السموم الفطرية Mycotoxins بأضرار بالغة على صحة الحيوانات والبشر حتى في تركيزات صغيرة للغاية.

وتصيب الفطريات المنتجة للسموم الفطرية العديد من المحاصيل مثل البن، الفول السوداني، الذرة، البذور الزيتية والمكسرات، والقمح، وأظهرت الإحصائيات في العام 1998 أن السموم الفطرية تلوث ما لا يقل عن 25 بالمئة من الحبوب في العالم.

أكثر السموم الفطرية شيوعا

وهناك ستة أنواع من السموم الفطرية ذات الأهمية الزراعية وهي الأفلاتوكسين aflatoxins، الأوكراتوكسين (أ) ochratoxin A، الباتيولين Patulin، فومونيسين Fumonisins، ديوكسينيفالينول deoxynivalenol وزيارالينون zearalenone.

وسيكون التركيز في هذا المجال على الأفلاتوكسين كونه أكثر هذه السموم الفطرية شيوعا، وتأتي سموم الأفلاتوكسين من ثلاثة أجناس الأسبيريغيللوس Aspergillus، البنسيليوم Penicillium والفيوزاريوم Fusarium، ويمكن أن تؤثر على نطاق واسع من السلع الزراعية، وتؤدي إلى مجموعة متنوعة من العوارض بسبب تأثيراتها السامة المختلفة واستقرارها الحراري إلى درجة كبيرة، وبالإجمال فإن وجود السموم الفطرية في الأغذية والأعلاف تشكل خطرا محتملا على صحة البشر والحيوانات.

وتعد الأفلاتوكسين من مصدر فطر الأسبراغيلوس الأكثر شيوعا، ويتعرض أكثر من 4،5 مليون نسمة في الدول النامية لهذه السموم بشكل غير منضبط وغير خاضع للرقابة، والتعرض الحاد لهذه السموم قد يؤدي إلى الوفاة، بينما التعرض المزمن يمكن أن يؤدي إلى الإصابة بالسرطان، وثمة أدلة إضافية ترى أن هذه السموم قد تعيق نمو الأجنة والأطفال الرضع، كما تمنع امتصاص المواد الغذائية، وتثبط مناعة الإنسان.

ويعمد المزارعون الأشد فقرا لإطعام الحبوب المتعفنة للماشية، ولكن هذا الأمر ليس بالخيار الآمن، فإن الأفلاتوكسين وغيره من الملوثات من السموم الفطرية يمكن أن تخفض الإنتاج الحيواني وتزيد عدد الوفيات، فضلا عن أنها يمكن أن تنتقل في المنتجات الغذائية ذات المصادر الحيوانية مثل الحليب ما يضعف صحة الإنسان وقيمة المواد الغذائية التي يتناولها.

ولا ينمو هذا الفطر في المناطق الباردة بل يزدهر في المناطق الإستوائية وشبه الإستوائية، إلا أن ارتفاع درجات الحرارة، جعلته حالاته شمالا، وإلى ارتفاعات أعلى، كما حصل في الذرة في منطقة صربيا في العام 2012، وتوقع نموذج بحثي نشر في دورية تقارير علميةScientific Reports في نيسان (أبريل) من هذا العام، أن الأفلاتوكسين في الذرة سوف يصبح قضية هامة في سلامة الأغذية في أوروبا، وخصوصا في السيناريو الأكثر احتمالا لوصول الحرارة إلى ارتفاع درجتين مئويتين عن المستويات إبان الثورة الصناعية، ما يشكل خطر تفشي حالات التسمم الغذائي الناتجة عن الأفلاتوكسين في أوروبا الشرقية وشبه جزيرة البلقان، ومنطقة الشرق الأوسط.

الناشر: الشركة اللبنانية للاعلام والدراسات.
رئيس التحرير: حسن مقلد


استشاريون:
لبنان : د.زينب مقلد نور الدين، د. ناجي قديح
سوريا :جوزف الحلو | اسعد الخير | مازن القدسي
مصر : أحمد الدروبي
مدير التحرير: بسام القنطار

مدير اداري: ريان مقلد
العنوان : بيروت - بدارو - سامي الصلح - بناية الصنوبرة - ص.ب.: 6517/113 | تلفاكس: 01392444 - 01392555 – 01381664 | email: [email protected]

Pin It on Pinterest

Share This