لطالما تغنى الشعراء بطبيعة لبنان، ومساحاته الخضراء وطيب مناخه وجمال مواقعه وسط الأودية والجبال ومعالم رائعة، لكن مع ما نشهد من انحسار الغطاء الأخطر منذ ستينيات القرن الماضي، هل يبقى لبنان ماثلاً فقط في موالٍ وأغنية أو لوحة؟
هذا السؤال سبق بسنوات توجساتنا، ومع اليوم العالمي لمكافحة التصحر والجفاف الذي يصادف في 17 حزيران (يونيو) من كل عام، يتأكد أكثر من ذي قبل أن لبنان مشرع على التصحر، وما لم نكن نلحظه قبل نحو ثلاثين سنة بات اليوم واضحا لا يتطلب إجراء دراسات (على أهميتها)، ففي المؤتمر اللبناني – الفرنسي، الذي نظمه معهد البحوث الصناعية مؤخرا، بالتعاون مع مؤسسة CERWAY الفرنسية، أشار وزير الصناعة حسين الحاج حسن الى ضرورة “إقرار تشريعات محفزة ورادعة في نفس الوقت لاقامة الابنية الخضراء والمحافظة على المساحات الخضراء في لبنان التي تدنت نسبتها الى النصف تقريبا مع اتجاه لبنان اكثر فأكثر نحو التصحر”، كاشفا عن بعض العلامات على ذلك ومنها “الفرق الكبير بين منسوب الحرارة في النهار وتدنيه بأكثر من 15 درجة في الليل”.
ولا يمكن أن ننسى ما واجه لبنان من ويلات وحروب، ومن توسع عمراني على حساب الاراضي الزراعية، فضلا عن حرائق الغابات التي قضت حتى العام 2013 على 40 بالمئة من الغابات والأحراج، إضافة إلى أسباب كثيرة ناجمة عن الفوضى وعدم القدرة على وقف التعديات المباشرة وغير المباشرة، من قطع اشجار وافتعال حرائق واقامة “مشاحر” لا تراعي الاستدامة، والرعي الجائر، وما الى ذلك من اسباب كثيرة تؤكد ان لبنان بات قاب قوسين أو ادنى من كارثة حقيقية تتطلب تضافر جهود الجميع لاستعادة المساحات الخضراء، أو على الأقل، وفي المدى المنظور وقف التعدي عبر سلسلة من الإجراءات وملاقاة الكارثة بحلول قابلة للتطبيق، عنوانها الاستدامة.
ما هو التصحر؟
بادىء ذي بدء، لا بد من تعريف التصحر، فبحسب مؤتمر الأمم المتحدة للبيئة والتنمية الذي انعقد في ريو دي جانيرو عام 1992 تحت شعار “مكافحة التصحر”، يعني “تردي الاراضي في المناطق الجافة، وشبه الجافة، وشبه الرطبة القاحلة بسبب عوامل عديدة اهمها التقلبات المناخية والنشاطات البشرية”.
وانطلاقا من واقعنا في لبنان نتأكد ان هذا التعريف يأتي مطابقا لواقع الحال على الصعيد الزراعي، في ظل تناقص المساحات الزراعية بسبب الزحف العمراني، وتراجع المساحات الحرجية بسبب القطع الجائر والامتداد الاسمنتي والرعي الجائر وغيرها، فضلا عن سوء ادارة وعدم اكتراث واهتمام الهيئات الاهلية، اضافة الى الحرائق المقصودة وغير المقصودة التي تقلص مساحة الغطاء الاخضر، ما يهدد باندثار الثروة الحرجية ويقضي على التوازن الطبيعي ويتسبب بزحف صحراوي، ليزيد في مساحة الاراضي الجرداء حيث التصحر يجلب المزيد من التصحر، لا سيما بعد ازدياد فترات الجفاف.
واستنادا الى دراسات منظمة الاغذية والزراعة الدولية عام 1989، فإن الاراضي غير الصالحة للزراعة تقدر بـ 531370 هكتارا، وحسب المعلومات الاحصائية المتوفرة من الاحصاء الزراعي الشامل الذي انجزته منظمة الاغذية والزراعة في لبنان عام 2000، فقد أدى تقلص الغطاء الحرجي وسوء استعمال الاراضي الى وجود مساحات كبيرة من الاراضي البور المهملة غير الصالحة للزراعة، والتي تقدر بنصف مساحة لبنان، وتزداد سرعة تردي هذه الاراضي الجرداء بسبب استغلالها لرعي الماشية بطريقة جائرة وعشوائية.
ان حاجة لبنان الى الغابات والاحراج للوصول الى تكامل في استعمالات الاراضي ولتؤدي الغابات دورها الوقائي والاجتماعي والاقتصادي، يجب ان لا يقل عن 200 الف هكتار أي ما يوازي 20 بالمئة على الأقل من مساحة لبنان. واذا ترك الوضع على ما هو عليه، فستتفاقم مشكلة ظاهرة التصحر حتى تصل الى نقطة اللارجوع ونواجه كارثة بيئية واقتصادية واجتماعية وصحية… الخ.
… وأسبابه؟
ومن أسباب التصحر في لبنان، غياب مخطط توجيهي كامل شامل لمختلف استعمالات الاراضي، استمرار الرعي الجائر والقطع العشوائي للاشجار، وجود نحو 720 مقلعا وكسارة في سائر المحافظات، الحرائق الطبيعية والمفتعلة، ضعف تخطيط النمو العمراني ومشاريع الطرق الجديدة مما يتيح استمرار التعديات على المساحات الطبيعية، انتشار ما يراوح بين 400 و 500 الف لغم وآلاف القنابل العنقودية من مخلفات الاحتلال الاسرائيلي في الجنوب والبقاع الغربي، مما يعطل مساحات واسعة قابلة للزراعة والتحريج ويشكل حائلا دون اخماد الحرائق التي تندلع في نطاقها، وصولا إلى تفشي الامراض في بعض الغابات والأحراج، وكان آخرها ما تسببت به دودة الصندل قبل أشهر عدة، وأدت إلى يباس أعداد هائلة من الأشجار معظمها من الصنوبر البري والمثمر.
الحرائق
وإذا ما استعرضنا بعجالة المساحات الخضراء المنكوبة في لبنان خلال السنوات العشر الماضية، يتبين لنا أننا خسرنا 440 هكتارا في العام 2005 و3460 هكتارا في العام 2006 و4197 هكتارا في العام 2007. وبذلك نكون قد خسرنا 3,26 بالمئة من اجمالي المساحة الخضراء البالغة 247754 هكتارا، وتظهر هذه الارقام ان المعدل السنوي ارتفع كثيرا عام 2006 مقارنة بعام 2005، علما بأن 1338 هكتارا احترقت بفعل الحرب الاسرائيلية على لبنان عام 2006 ليبلغ الذروة في عام 2007 الذي شهد خلال شهري ايلول (سبتمبر) وتشرين الاول (اكتوبر) معدل حرائق غير مسبوق اذ سجل بتاريخ 2/10/2007 حريق قضى على مساحة 400 هكتار وعلى مليون ونصف مليون شجرة حرجية في يوم واحد.
اما في العام 2008، فإن العوامل المناخية التي طغت على شهر تموز (يوليو) والتي تميزت بارتفاع حاد في درجات الحرارة مترافقة مع سرعة رياح الامر الذي أدى الى تفاقم الحرائق واستحالة السيطرة عليها تماما، وكان شهر آب (اغسطس) هو الأسوأ اذ سجل فيه احتراق 20 الف دونم في عيناب وحدها، واللافت للانتباه هنا ان قسما لا بأس به من الحرائق تبقى اسبابه مجهولة او بالأحرى هي حرائق مفتعلة لاهداف معروفة منها الحصول على الفحم والحطب لاغراض التدفئة ومنها تصحّر الارض تمهيدا للبناء عليها.
وزارة الزراعة
وسط الواقع القائم، يجب ألا تضيع المسؤولية الرسمية عن ادارة الغابات في لبنان، فإذا كانت وزارة الزراعة هي الجهة المسؤولة قانونا عن ادارة الغابات ووضع الخطط لمكافحة الحرائق، فعليها ان تتحمل المسؤولية وأن تعرض خطة متكاملة، وتحدد ضمن برنامج عملي الخطوات الواجب اتخاذها وما هي اجراءات الوقاية لمنع حدوث الحرائق والتخفيف من أثرها، ووضع برامج لانتاج النصوب الحرجية وتوزيعها وغرسها والعناية بها، على ان يشارك في هذه الخطة الوزارات والادارات والهيئات والجمعيات الاهلية، وفي مقدمها الجيش وطلاب المدارس والجامعات، وتطبيقا لذلك وجب انشاء ابراج المراقبة وخزانات ترابية لتجميع المياه، يمكن استعمالها وتكون قريبة من الاحراج، واقامة فواصل بين المحميات وزيادة اعداد مأموري الاحراج والدفاع المدني، وشق الطرقات الزراعية الترابية غير المعبدة حول الاحراج تسهيلا لوصول فرق الاطفاء والدفاع المدني عند الضرورة، وتفعيل اقتراح تبنته الجمعية لـ “نقابة عمال ومزارعي الصنوبر في لبنان” لجهة استعادة دور النواطير على مستوى القرى والبلدات المعنية.
اقتراب خط التصحر
ان أول مسح علمي للغابات اللبنانية قام به “مشروع انماء المناطق الجبلية اللبنانية – اعداد وابحاث” الذي نفذه المشروع الاخضر ومنظمة الاغذية والزراعة الدولية (الفاو) بين عامي 1963 – 1965، والذي بيّن ان المساحات المغطاة بالغابات والاحراج كانت في ذلك الحين 68 الف هكتار أي ما يساوي 6,5 بالمئة من المساحة الاجمالية. اما المسح الثاني الذي قامت به (الفاو) عام 1989 بواسطة صور الاقمار الاصطناعية، فقد دل على ان مساحة الغابات والاحراج قد اصبحت 60 الف هكتار أي 5,7 بالمئة، وبذلك يكون لبنان قد خسر خلال 24 سنة مضت (1965 – 1989) ثمانية الاف هكتار من الغابات، هذا عدا ما خسره لبنان بفعل الحرائق المفتعلة، وتلك التي سببها العدوان الاسرائيلي عام 2006.
ولم يجر بعد هذا التاريخ أي مسح حرجي لتقييم وضع الغابات من حيث مساحتها وتركيبها وبنيتها وحالتها الصحية، ولكن من المؤكد ان يكون الوضع الحالي اسوأ مما كان عليه عام 1989، كما ان خطر الزحف الاسمنتي الذي امتد في العقدين الاخيرين ليطاول عشرين الف هكتار من الاراضي ذات “خصوبة” مرتفعة لحساب الاوتوسترادات والطرقات وامتداد الباطون المسلح، يجب ان يكون ماثلا قبل الشروع بالحديث عن الامن الغذائي، فالرقعة الزراعية بدت في تقهقر وتناقص والسلامة البيئية والايكولوجية لم تتأمن حمايتها وتعزيزها، اذ انه في فترات الحروب الماضية خسر لبنان اكثر من 20 الف هكتار من احراجه واشجاره التي تعتبر تاج البيئة، كما تعرضت التربة الى الانجراف والاندثار واقترب خط التصحر.
واذا كانت الاحراج حتى عام 1975 تغطي ثمانين الف هكتار من اصل مساحة لبنان العامة البالغة مليون هكتار تقريبا، فإن الحروب الماضية عرضت الاحراج للتلف من قطع غير مراقب وحرق لمساحات كبيرة تقدر بثلث المساحة الحرجية العامة. وغني عن القول ان لبنان معروف بوفرة احراجه وكثافتها، اذ كانت تغطي في ما مضى 270 الف هكتار لم يبق منها حتى الآن الا حوالى 50 الف هكتار الامر الذي يجعل مدى التشجير يهبط من 25 بالمئة الى دون ستة بالمئة، بينما المعدل الطبيعي اللازم لتحقيق التوازن ما بين المياه – التربة – المناخ هو في حدود 18 بالمئة.
هذا التناقص في مساحة غاباتنا يضطرنا سنويا ان نستورد 100 الف م3 من الاخشاب اللازمة للصناعة الوطنية، كما ان مساحة الاراضي البور والكائنة في المناطق الجبلية تصل الى 280000 هكتار، وهي عرضة لعمليات الانجراف القوية.
وكذلك مساحات المراعي هي غاية في التلف، فزوال الغطاء النباتي والاستهلاك الزائد للمراعي وعدم وجود مراع اصطناعية. كل ذلك من شأنه ان يعرض للخطر تنمية قطاع تربية المواشي، علما بأن الانتاج الحيواني من الوجهتين الاقتصادية والاجتماعية يؤمن على مدار السنة موردا دائما وثابتا للعمل والدخل معا.