هل هناك أحد في لبنان لا يزال عنده “غباشة” في فهم ما يحصل؟ هل يحتاج اللبنانيون إلى دلائل إضافية على أن همَّ “العصابة” مصَّ دم البلد حتى آخر قطرة؟ وهل لا تزال القُطب المخفيَّة، التي تربط “الرملة البيضاء” بـ”الكوستابرافا” و”برج حمود” و”الجديدة” و”حرج بيروت” خافية على أحد؟
لم يكن للحظة واحدة همَّ الحكومة الفاشلة، برئيسها أولا، وبوزير البيئة فيها ثانيا، وبكلِّ من تبقَّى من وزرائها ثالثا، معالجة أزمة النفايات، التي أصبح واضحا أنها نتيجة مفتعلة من قبلهم، لكي يحصدوا ما يحصدون، ويمرِّروا ما يمرِّرون من صفقات وضع اليد على أملاك عمومية، غير آبهين لا ببحر ولا شاطىء، لا بسهل ولا جبل، لا بوادٍ ولا نهر أو نبع أو ثروة مائية، فوق الأرض وتحتها. لا يهمُّهم إن هُم لوَّثوا الجوَّ والبحر والمياه، ولا إن هدَّدوا أمن الطيران المدني بـ”مزبلتهم” المستحدثة في حرم المطار، على شاطىء الشويفات، رافسين بـ”حوافرهم” فسيفساء وأجران الآثار الرومانية عند هذا الموقع بالذات. لا همَّ إن قامت قيامة الأهالي والبلديات ومنظَّمات المجتمع اعتراضا على تشويه بيئتنا، وتلويث بحرنا وهوائنا ومياهنا، والأهمُّ من هذا كلِّه، اعتراضا على “السَلْبَطَة” على الأملاك البحرية العامة، التي هي ملك الشعب اللبناني حتى قيام الساعة.
“مجلس الإنماء والإعمار” سيف قاطع بيد السفَّاحين، يُفَصِّل دفاتر الشروط على قياس صفقاتهم، ويضبط المشاريع على موجة مصالح “العرَّابين” فيهم. ومجلس الوزراء “معجونة” طيِّعة بين أياديهم، يُملون عليه ما يشاءون، ابتزازا وتهديدا وضغطا ومقايضة وتبادلا للتمريرات. لا همَّ، فالغاية تبرِّر الوسيلة، وها هُم يحقِّقون غاياتهم بصلافة تجاوزت كل الحدود، غير آبهين لا بمعارضة ولا باحتجاج ولا بتحفُّظ ولا باعتراض ولا حتى باستقالة.
يلعبون بالقوانين كيفما يرغبون، يمرِّرون المراسيم المخالِفة للقانون وللدستور، يمارسون ألاعيب البهلوان في تمرير الصفقات ومصادرة الأملاك العمومية.
هذا ما تناقلته وسائل الإعلام أمس واليوم، تقاذف مُلكيَّة شاطىء “الرملة البيضاء” من “هالك إلى مالك إلى قبَّاض الأرواح”، يمتطون مجالس بلدية بيروت لتمرير سيناريوهاتهم. يتصرَّفون كأن هذا البلد “إمارة” فالتة، ورثوها عن أجدادهم. وهو كما كل الشاطىء، مُلْكٌ عام لأجيال الشعب اللبناني ماضيا وحاضرا ومستقبلا.
دفاتر شروط “مجلس الإنماء والإعمار” تعبير مباشر عن سيناريوهات الصفقات، والإخراج الباهت المفضوح الهادف لإفشال كل محاولة جادَّة في الإتجاه السليم لمعالجة أزمة النفايات، ولإدارة هذا الملف وفق المعايير البيئية المقبولة، ومقتضيات التنمية المستدامة.
أُفشِلت كل المناقصات السابقة بسبب ما عانته دفاتر الشروط من تناقضات وغرابة منافية للعقل السليم. وكان لها ما ارتجته من نتائج في إطالة أمد أزمة النفايات، واستمرار الضغط على كل الأطراف لإنضاج لحظة تمرير الصفقات الكبرى الكامنة وراءها.
وسلسلة دفاتر الشروط الأخيرة، المتعلِّقة بمناقصات “الكوستابرافا” و”برج حمود”، تؤكِّد بما لا يدع مجالا للشك أن الصفقة المرسومة ليست معالجة أزمة النفايات، ولا إنشاء “مطامر صحية”، بل تمرير وتنفيذ الصفقة الكبرى في ردم البحر، ووضع اليد على الأملاك البحرية العامة.
لا تشير دفاتر الشروط إلى شروط تتعلق بالخبرة في إنشاء وإدارة منشآت لمعالجة النفايات والتخلُّص منها، ولا تتضمَّن أيَّ شرط يحقق الإدارة السليمة للنفايات أو يخفِّف من أثرها المدمِّر على البيئة البرِّية والبحرية، بل هي مناقصات لأعمال ردم البحر بالكمال والتمام.
في خلفية واضعي دفتر الشروط ومنفذي المناقصات أن الردم سيتم أيضا بالنفايات المتراكِمة سابقا، والتي تتراكم منذ أشهر، والتي سوف تتراكم في الأشهر القادمة. فالنفايات بمنظورهم مادة للردم، وليست مادة للمعالجة البيئية السليمة.
لا شروط بشأن مواصفات المطمر، ولا لجمع ومعالجة وإدارة “العُصارة”، الملوَّثة والملوِّثة لأي وسط تُرمى فيه دون معالجة مسبقة كافية وفعَّالة. ولا شروط بشأن جمع وإدارة البيوغاز، المتكوِّن والمنبعث من المكبَّات والمطامر، كل هذا ليس موضوعا للصفقة ولا مادة لها.
لا غرابة أن يأتي يوم يَكْنِسُ فيه الشعب اللبناني ناهبي خيراته وأملاكه السرمدية، ويَكْسِرُ الأيادي التي امتدت لتشويه طبيعته ولتلويث بيئته ونهب أمواله وممتلكاته، وتعريض أمن وسلامة وصحة شعبه لأكبر المخاطر.
إني أراه قريبا…