تتسابق الدول في تحديد واعتماد آليات وإجراءات للحد من تغير المناخ، لا سيما مع ما بات يشكل من عبء اقتصادي واجتماعي مستمر وبشكل متصاعد، ووهذا التسابق ليس بهدف الإيفاء بتعهدات هذه الدول التي أبرمتها في مؤتمر باريس الأخير COP 21 فحسب، وإنما بهدف حماية سكانها ومنشآتها وطبيعتها من تداعيات تغير المناخ، وتاليا، تبني استراتيجيات وخطوات عدة للوصول إلى استدامة متكاملة وتحقيق التنمية.
وقد تكون سماء الصين ملوثة لدرجة عالية، وأنهارها مسمومة ومليئة بالقاذورات وجثث الحيوانات النافقة، إلا أنه وفقا لبحث أجراه فريق دولي من العلماء، فإن سلسلة السياسات البيئية الطموحة التي تستثمر في رأس المال المحلي والطبيعي، عملت على تحسين أوضاع النظم الإيكولوجية في الصين، منها السيطرة على الفيضانات والتخفيف من العواصف الرملية.
وصدر البحث الجديد تحت عنوان “تحسينات في خدمات النظام الإيكولوجي من الاستثمارات في رأس المال الطبيعي” Improvements in ecosystem services from investments in natural capital في عدد 17 حزيران (يونيو) في مجلة “العلم” Science، والبحث هو نتاج تعاون بين علماء من الولايات المتحدة وباحثين صينيين، واشتمل بيانات ودراسات 3000 باحث حول العالم، ودام لفترة عشر سنوات، وعلى الرغم من سمعة الصين البيئية السيئة سابقا، بسبب الضرر البيئي والتلوث في الغلاف الجوي نتيجة النمو الاقتصادي المتسارع، واستحداث البنية التحتية السريع الذي شهدته البلاد، أكد البحث أن السياسات البيئية التي تنتهجها الصين وخصوصا في السنوات الأخيرة، بدأت تعطي تأثيرات إيجابية واضحة وملموسة، ووجدت أن النظم الإيكولوجية الصين أصبحت أكثر صحة وأكثر مرونة ضد الكوارث مثل العواصف الرملية والفيضانات، وأشار كتاب المقال إلى أن الأمر يعود جزئيا إلى ما يصفونه بأنه أكبر جهد مدعوم من حكومة في العالم، لاستعادة الموائل الطبيعية مثل الغابات والمراعي، وقد بلغ مجموع تكاليف هذه المشاريع نحو 150 مليار دولار منذ العام 2000.
وقالت أستاذة العلوم البيئية في “جامعة ستانفورد” وكاتبة التقرير الرئيسية البروفسور غريتشن دايلي Gretchen Daily “ان الصين وصلت إلى أبعاد أكثر من أي بلد آخر، على الرغم من كل الدمار الذي قرأنا عنه لجهة الجبهة البيئة هناك”، وأضافت “في ظل تفاقم الأزمة البيئية، أصبحت الصين طموحة جدا ومبتكرة في مجال علوم وسياسات المحافظة على البيئة الجديدة وتنفيذها على نطاق واسع وبسرعة قياسية”.
جهود وبرامج مطورة
وقام الفريق العلمي باستحداث برنامج مطوّر، يرشد إلى المناطق التي تحتاج للحماية، أو المناطق التي يجب الإهتمام بها بشكل كبير، والمناطق الحساسة بيئيا التي يجب أن تكون محمية أو تتطلب التجديد والعناية لتوفير أكبر قدر من المنفعة، وقد استعان المسؤولون الصينيون بهذا البرنامج بتبني هذه العلوم وتمويل الكثير من الجهود والسبل ولو في مناطق قصية في العالم، وهو ما يمكن أن يكون نموذجا للدول الأخرى، وفقا لمعدي الدراسة.
واستخدم العلماء برنامجا بعنوان InVEST ضمن “مشروع الرأسمال الطبيعي” The Natural Capital Project، وهو مشروع ساهمت البروفسورة دايلي بتطويره، وهو عبارة عن شراكة تجمع بين البحث والابتكار بين “جامعة ستانفورد” و”معهد جامعة مينيسوتا لعلم البيئة” مع البعد العالمي لعلم المحافظة على البيئة وسياسة صون الطبيعة و”الصندوق العالمي للحياة البرية” The Nature Conservancy and World Wildlife Fund، بهدف تقييم المبادلات الاقتصادية والبيئية، وتم بالفعل تقييم هذه الجهود من العام 2000 وحتى العام 2010 في مناطق عدة من الصين، من خلال تحليل بيانات شاملة من الأقمار الصناعية، وعينات من التربة ومسوحات التنوع البيولوجي، والأرصاد الجوية، والدراسات الهيدرولوجية وغيرها من أنواع المسوحات الميدانية.
سياسة نابعة من أزمات بيئية
بدأ المسؤولون في الصين بالبحث في خطوات إصلاحية بيئية كبيرة في أعقاب سلسلة من الكوارث الطبيعية في أواخر التسعينيات من القرن الماضي، والتي تفاقمت جراء الأنشطة البشرية، وعلى وجه الخصوص، في العام 1998، فقد ساهم التصحر الشديد وانجراف التربة في فيضانات مدمرة على طول “نهر يانغتسي” Yangtze River، وأدت هذه الكارثة إلى وفاة الآلاف من الناس، وتركت أكثر من 13 مليون شخص بلا مأوى، فضلا عن 36 مليار دولار من الأضرار في الممتلكات.
وعزز هذا التوجه، عام كامل من الجفاف، ما حث المسؤولين الصينيين إلى ضرورة اتخاذ خطوات سريعة لحماية واستعادة رأس المال الطبيعي في الصين، وبحلول العام 2000 وضعت الصين برنامج حماية الغابات الطبيعية، وبرنامج تحويل الأراضي المنحدرة، فضلا عن 50 مليار دولار استخدمت في مشاريع تهدف إلى الحد من مخاطر الكوارث الطبيعية من خلال استعادة الغابات والمراعي، وبذات الوقت تحسين ظروف الحياة لأكثر من 120 مليون مزارع متضرر من الفقر الناتج عن تداعيات تغير المناخ.
وقال الباحث في البيئة والإقتصاد ستيف بولاسكي Steve Polasky من “جامعة مينيسوتا” والمؤلف المشارك في الدراسة أن “مثل هذه الإستثمارات البيئية تكون ذات مردودات كبيرة”، واضاف ان “استعادة الغابات والمراعي يمكن أن تقلل من الفيضانات والعواصف الرملية، وهو ما له فوائد كبيرة للشعب المتضرر نتيجة العواصف والعوامل الطبيعية”.
ولم تفحص الدراسة الماء أو الهواء أو التربة بشكل أساسي، فهي مجالات ملوّثة في البلاد إلى حد كبير، وقالت دايلي إن “التقييم لم يدرس التحديات الهامة الأخرى، مثل نوعية الهواء وزيادة انبعاثات غازات الدفيئة، بل تلك تتطلب تدخلات أخرى لاستعادة النظام الإيكولوجي”، ولكن بالمقابل تابعت الدراسة نتائج الخطوات المتبعة، ومنها، التقليل من كمية انبعاثات ثاني أوكسيد الكربون بمعدل 23 بالمئة، ارتفاع معدلات المحافظة على التربة 13 بالمئة، تخفيض معدلات الفيضانات 13 بالمئة والحد من العواصف 6 بالمئة.
وقالت دايلي أن “الأمل هو أن هذا المنحى البيئي يمكن أن يحقق تحولا في طريقة تفكير الناس وأن يهتموا بالطبيعة وقيمتها الفعلية بشكل متكامل”.
نهج عالمي للمحاسبة البيئية
وقالت دايلي أنه ” قد يعود جزء كبير من نجاحات الصين في هذه المناطق إلى كيفية دمج المسؤولين بين تقييم حالة النظم الإيكولوجية، وقيمها الاقتصادية للمجتمع في عمليات صنع القرار”، وأضافت أن “هذه النُّهج بمجملها قابلة للتطبيق، في أي مكان على كوكب الأرض”.
على سبيل المثال، فإن الغابات والأراضي الرطبة وغيرها من الأماكن التي تزرع بكثافة تلعب دورا رئيسيا في تنظيم تدفق المياه ونوعيتها، ولكنها تبقى تحت تهديد مستمر من التحول إلى الزراعة أو بغرض السكن، وقالت دايلي: “استخدمت الصين العلم لتعريف وتحديد المجالات ذات الأولوية للحماية أو الترميم من أجل تحسين الأمن المائي، بحيث يستطيع أي شخص تطبيقها”.
وعلى نحو مماثل، فإن العواصف الرملية في المدن الشرقية من الصين تعد مشكلة كبيرة، وهي ناتجة عن إزالة الغابات والظروف الجافة، وحدد الباحثون المجالات التي ينبغي استصلاحها للتخفيف من العواصف، وهي مناطق تغطيها الغابات وتعتبر مناطق معرضة للخطر في المستقبل، وقد تساهم في العواصف الرملية، وبالتالي يجب أن تكون محمية.
وباشرت الصين بمواجهة التصحر، ومكافحة زحفه في شمال البلاد بمشروع بناء “الجدار الأخضر الكبير” The Great Green Wall المكون من الأشجار في العام 1978، وتقول السلطات ان 22 بالمئة من مساحة البلاد تغطيها الغابات، بزيادة 1،3 بالمئة مقارنة مع العام 2008.
وقالت دايلي “يعطي العلم الخيارات للمجتمع، ولكن لا تكون له الكلمة الأخيرة، فالأبحاث يمكنها قياس الفوائد التي توفرها منطقة معينة إذا تم استخدامها لزراعة المحاصيل الغذائية أو إعادة تشجيرها لمنع الفيضانات، ولكن في النهاية سيكون الأمر متروكا لصناع القرار لاتخاذ ما هو مناسب بالنسبة لتلك المنطقة أو غيرها، كما إن كان القرار يندرج ضمن مجموعة من الأولويات الوطنية”، وأضافت أنه “لا تزال هناك مناطق حيث تحتاج الصين إلى تحسين، على الرغم من أن البلاد لديها أعلى معدل إعادة التحريج في العالم، إلا أن كثيرا من الأشجار المزروعة حديثا ليست أصلية في المناطق، وعلى الرغم أن هذه المزروعات تعتبر إجابة واقعية، قصيرة الأمد لإعادة بناء الغابات بكفاءة وبسرعة وبتكلفة زهيدة، ولكن لا نتيجة هامة على المدى الطويل، وقد توفر تلك الغابات البنية التحتية الأساسية للحياة البرية، ولكن لا يزال التنوع البيولوجي في طريقه إلى التدهور، وسوف يستمر بذلك حتى يكون هناك مناطق مزروعة بطريقة أكثر طبيعية، وبنباتات محلية”.
ولحظ الباحثون أن للدراسة حدودا، ففي حين سجلت الصين تحسين مستويات جودة الهواء في العام الماضي، فإن المدن الصينية لا زالت تعاني من مستويات الضباب الدخاني التي تتجاوز حدود معايير الصحة في منظمة الصحة العالمية، ولدى الجهات المسؤولة الصينية، وأن سكان غالبية المدن لا يزالون يعانون من أعراض تنفسية ومرضية، وقالت دايلي “يمكنك زراعة الأشجار حتى نهاية الوقت، لكنه لن يكون كافيا لتنظيف الهواء”.
وقالت دايلي إن “الصين بحاجة إلى مزيد من الابتكار في نهج تأمين الطبيعة ورفاه الإنسان، لتحقيق الحلم في أن تصبح الحضارة الايكولوجية الأولى في القرن الـ 21″، وأضافت “هذا هو التحدي الكبير للبشرية، وعلى الرغم من أن الصين هي فقط في المراحل الأولى من التغيير، فإن جهودها تلهم عملية التكيف واعتماد النهج المتبعة فيها، في دول أخرى وفي كافة أنحاء العالم”.