د. ناجي قديح

كثرت لجان متابعة تلوث نهر الليطاني، وتزاحمت المواعيد لتجمعات واعتصامات، يتم تأجيلها في الساعات الأخيرة إفساحا للمجال لتحرك القضاء.
وغدا سيجدون حججا أخرى لكي يؤجلوا التحركات الإحتجاجية والمطلبية. وبعد غد، ترتفع حرارة المزايدات والصراخات، وهو ضجيج دون حركة، وجعجعة دون طحين.
الكل يعرف أن نهر الليطاني مكوَّن من جزأين، يكادان أن يكونا مستقلَّين الواحد عن الآخر، القسم الأعلى، من المنابع وحتى سد القرعون، حيث أن تاريخ تلوُّثه يعود إلى أكثر من عقدين من الزمن. تصب فيه، وفي روافده المتعددة، نفايات المصانع والمناطق الصناعية، ومجارير الصرف الصحي، وتحولت بعض مقاطعه على مدى سنين إلى مكبات للنفايات الصلبة وكل أنواع النفايات، ويصل إليه التلوث كذلك من تسربات مياه الصرف الصحي المستخدمة في الري. وتعتبر من أهم مصادر تلوثه بالكيماويات الخطرة، بالإضافة إلى التدفقات الصناعية، تسربات المبيدات والأسمدة الزراعية، التي تستعمل بإسراف كبير، بعيدا عن أي عقلانية أو ترشيد. كل هذه المصادر تشكل تلوثا عالي الخطورة، بالملوثات العضوية المسببة لنمو الطحالب واستهلاك الأوكسجين الذائب في الماء، مما يؤدي إلى نفوق الأسماك، وتحويل المنظومة البيئة المائية في النهر والبحيرة تحديدا إلى وسط غير ملائم للحياة، وتموت المنظومة تدريجيا.
أُجرِيت العديد من الدراسات والمشاريع الكبرى لدرس هذه المنطقة، بحيرة القرعون ومنطقة حوض الليطاني والبحيرة، ووضعت المخططات التوجيهية واستراتيجيات المعالجة، نذكر أهمها، المشروع السويدي لوضع المخطط التوجيهي البيئي لنهر الليطاني وبحيرة القرعون ومنطقة الحوض، الذي استمر من 1999 حتى 2004، المموَّل من وكالة التعاون والتنمية الدولية السويدية SIDA.
أما القسم الجنوبي من نهر الليطاني، أي من سد القرعون حتى القاسمية، فهو إلى حد كبير نهر جديد، يتكون من مئات الينابيع المتدفقة من المنطقة الممتدة من القرعون حتى القاسمية، مرورا بكل القرى والبلدات من البقاع الغربي ومحافظتي النبطية والجنوب. هناك كمية هامة من مياه بحيرة القرعون تُنقل عبر أنابيب في الأنفاق لتغذي مشروع أنان الكهرومائي، وتصب في مجرى نهر بسري فإلى نهر الأولي. وهناك كمية صغيرة جدا تستمر بالجريان في مجرى النهر، وغالبا ما تكون منعدمة الأهمية من الناحية الكمية.
طوال سنوات التلوث الفظيع في القسم الأعلى من نهر الليطاني وبحيرة القرعون، أي منذ أكثر من عقدين من الزمن، كنا ننعم بنهر الليطاني في قسمه الجنوبي بمياه عذبة نظيفة بشكل عام. وكانت الأسماك تعيش فيه بكثرة. تزايدت منتجعات الترفيه والإستجمام والسباحة على ضفتيه على طول امتداده من البقاع الغربي حتى القاسمية، مرورا بالخردلي وكفر تبنيت وأرنون ويحمر الشقيف وزوطر الشرقية وزوطر الغربية والقعقعية وكفر صير والزرايرية وشحور وطرفلسيه … حتى مصبِّه. واستعملت مياهه النظيفة لري البساتين والخضار المنتشرة على ضفتيه.
بدأت تتزايد المقاهي والمطاعم ومراكز الاستجمام والترفيه، ومعها تزايدت كميات مياه الصرف الصحي التي ترمى في النهر، ولكن مستوى التلوث فيه بقي محدودا وموسميا خلال فترة الصيف، حتى تفجرت أزمة تلويث النهر الأخيرة بالمرامل، وبازدياد عدد القرى والبلدات التي تصب مياه الصرف الصحي فيه، وعدد آخر من المؤسسات الصناعية والمعامل الصغيرة.
المرامل، ومياه غسيلها الغنية بالجزيئات الصلبة العالقة، التي لجأ أصحاب المرامل لرميها مباشرة في النهر، دون معالجتها الضرورية في أحواض الترسيب والتصفية، كما ينبغي أن تشترط عادة رخص الإنشاء والإستثمار للمرامل ومعامل قص الصخور والأحجار والمعامل المماثلة، هي المسؤولة المباشرة عن ما وصل إليه النهر من حالة كارثية. فنسبة العكر العالية جدا، والتي تتجاوز بآلاف، وربما بعشرات آلاف، المرات المستويات المقبولة، هي التي أدت وتؤدي إلى موت النهر، وقتل الأسماك فيه، لنقص الأوكسجين من جهة، وانسداد خياشيمها بالجزيئات الصلبة العالقة من جهة أخرى. وكذلك انعدام صلاحيته للسباحة، وضرب مصالح أصحاب المنشآت السياحية وتعطيلها بالكامل، حيث كانت متنفَّسا لأهالي القرى والبلدات من كل المنطقة الجنوبية في محافظتي الجنوب والنبطية، ولا سيما منهم ذوي الدخل المحدود والمتوسط.
إذن، مصادر وأسباب التلوث معروفة ولا لبس فيها أو تشكيك. وكذلك، إن كل الناس المعنيين، من أصحاب مصالح ومتنزهين، صاروا يعرفون أصحاب المرامل بالأسماء، وهم يتداولونها على وسائل التواصل الإجتماعي، نذكر منها نقلا عن المواطنين في هذه القرى والبلدات، مرامل جهاد العرب، وهو أشهر من أن يعرف، ومعروفة القوى التي تقف خلفه وتدعمه وتغطيه، وأصبحت معروفة أيضا القوى المستفيدة من نشاط المرامل عموما. وكذلك مرامل ابراهيم بدير، وهو أيضا أصبح شخصية معروفة جدا عند المواطنين في بلدات ضفتي الليطاني، وكذلك شركاؤه والقوى التي تقف خلفه. ويضاف إليها في الأيام الأخيرة أسماء أخرى مثل فادي سمحات وآخرين.
شهور تمرُّ على حالة التلوث المتفاقمة بآثارها المدمرة على النهر، وبتبعاتها المدمرة على مصالح وحقوق مئات آلاف الناس في التمتع بالنهر. وشهور تمر على حالة دوران المسؤولين في حلقات مفرغة، من إعلانات دورية وتصريحات شبه يومية، ومهاترات لا تسمن ولا تغني من جوع. الملوِّثون يستمرُّون بعدوانهم على النهر دون رادع أو وازع.
آن الأوان، بعد طول انتظار، لأن يقوم المعنيون والمسؤولون والقيِّمون على السلطة، في لبنان وفي منطقتنا في النبطية والجنوب، بما يتوجب عليهم القيام به، غير التصريحات، التي أصبحت “بايخة” وممجوجة، وغير الصراخ والإحتجاج والمطالبة، وكأنهم همُ المعارضة، وليسوا هم من يمسك بالسلطة من “قرونها” كما يقال.
لكنهم لم يفعلوا شيئا غير الضجيج والصراخ، ومرامل جهاد العرب وابراهيم بدير وفادي سمحات مستمرة غير آبهة بأحد، مصادرة النهر، متمادية في تلويثه وتحقيره وإهانته وتدنيسه. ويبدو أن الجميع نسوا أو يتناسون ما لهذا النهر من مكانة في الوجدان الوطني، حيث كانت دونه أرواح الأبطال الشهداء والمقاومين، الذين سطروا ملاحم وادي الحجير والغندورية وزوطر الغربية، وردوا كيد المعتدين الصهاينة على نحورهم، وبقي النهر مطهَّرا من رجسهم، ولم يستطيعوا تدنيس مياهه الطاهرة.
من ينظِّم لجان الإحتجاج والمتابعة لقضية تلوث الليطاني، ومن ينبري لإدارتها؟
بعد أن أصبح الكبير والصغير يعرف الملوِّثين بالأسماء الثلاثية، هل يمكن لنا أن نتخيل للحظة واحدة، أن قوى السلطة، كل السلطة، التشريعية منها والتنفيذية، والوزارات المعنية، والسلطة القضائية أيضا، والقوى المناط بها تنفيذ أحكام القضاء، من قوى وزارة الداخلية وقوى أمنية، أنها لا تعرف حتى الآن كيف يتم إيقاف التلوث على نهر الليطاني؟ وهل هي بحاجة لمزيد من الوقت للتفكير والتمحيص والاستدلال على الملوثين، وعلى ماذا يجب أن نفعل لإيقاف العمل بالمؤسسات الملوِّثة؟
كيف لنا أن نستوعب كل ذلك الضجيج والصراخ، والتداعي لتنظيم لجان المتابعة والحملات من قوىً هي السلطة كلَّها؟ وهي صاحبة القرار والقدرة على وقف هذه المهزلة فورا، بالأمس قبل اليوم، واليوم قبل الغد.
قوى السلطة في منطقتنا، تحتكر التمثيل السياسي بكل مستوياته، نوابا في المجلس النيابي، ووزراء في الحكومات وفي هذه الحكومة، ويحتكرون أيضا السلطة بكل مستوياتها.
قوى السلطة في منطقتنا خاضت معركة حامية لاحتكار التمثيل في المجالس البلدية على امتداد قرى وبلدات ومدن ودساكر محافظتي النبطية والجنوب، إذن يحتكرون السلطة المحلية في كل المجالس البلدية، في كل قرى وبلدات ومدن ودسكرات ضفتي نهر الليطاني، حيث يصرخ الأهالي من ظلم التعدي على النهر، ومن هدر مصالحهم وحقوقهم.
قوى السلطة في منطقتنا، هي أيضا، يحتكر رجالاتها مواقع القيادة في الوظائف الإدارية والرسمية، من المحافظ حتى آخر رئيس دائرة في كل إدارات ومصالح ووزارات الدولة المتواجدة في منطقتنا، بمن فيهم كل من له علاقة بالبيئة والمياه والحفاظ على الطبيعة، مرورا بالقائمقامين والكتبة.
قوى السلطة في منطقتنا، لها المَوْنَة، وكلامها مسموع، ورجاؤها يصغى إليه، ومطالبها لا ترد في العموم، عند كل السلطات الأخرى الأمنية والقضائية.
أنتم السلطة كلَّها، حتى في أدق وأصغر تفاصيلها، إذن نسأل، أنتم تصرخون بوجه من؟ وتحتجون على من؟ وتستمرون بمطالبة من؟
لكي يوقف التعدي على نهر الليطاني، يكفي أن تتحرك مجالس بلدياتكم في كل قرى حوض الليطاني، لكي توقفوا المرامل في دقيقة واحدة، وتلزموها أن تتجهز بأحواض ترسيب وتصفية لملوثاتها، تحت طائلة الإقفال الدائم. هل أنتم عاجزون فعلا عن القيام بذلك؟
تشكِّلون اللجان وتقودون الحملات. عجباً لسلطة تصادر صوت المعارضة، وتزايد عليها بالإحتجاج. وهي قادرة على حلِّ المسألة بممارسة جزء يسير من صلاحياتها، وبالقيام بالقليل من مسؤولياتها الإجتماعية والمعيشية تجاه شعبها، ورفع التلوث عن نهر الليطاني، بسبب المرامل وكل أشكال التعديات الأخرى.
هل هذه حركة إلتفافية لامتصاص الإحتجاجات الفعلية والحقيقية والصادقة؟ وللتحكم بحركتها؟ ولجمها وتعطيل ديناميتها؟ لإطالة أمد التلويث، وأمد استثمار المرامل، التي أحالت النهر الدافق إلى مجرى آسن لا حياة فيه، وإطالة أمد فائدة من يستفيدون من كل هذه التعديات الصارخة.
هل غاب عن بالكم أن نهر الليطاني سمفونية تعزف ألحان الحرية لكل أبناء الوطن، وأبناء ضفافه وجنوبه وبقاعه، على وجه الخصوص؟
أم أننا ننتظر هذيان من استفاق على رنين دنانير صفقة جديدة، موازنتها 880 مليون دولار؟ ذلك القابع، غائبا ومشلولا، في الأروقة المسؤولة عن حماية البيئة وحفظها. تذكَّر الآن معالجة التلوث في نهر الليطاني من منبعه حتى مصبه، مرورا بمُجمَّع الأوساخ ومخزن التلوث، بحيرة القرعون.
هل أنتم تنتظرونه فعلا؟ هل أنتم تنتظرون فعلا تنفيذ هذا المشروع – الصفقة؟ وهل نبقى ساكتين على استمرار أسباب التلوث ومصادره، والتعديات على النهر، حتى تكتمل فصول صفقة تنظيف النهر والبحيرة على يد مافيات الصفقات في بلد الفساد؟
وهل العقل يأمر بالإنتظار؟ أم بالوقف الفوري لأسباب التلويث ومصادره، الآن الآن وليس غدا، وعلى الأقل، من مصادر التلويث الكبرى، التي أعطت النهر لونها، وحرمت مئات آلاف الناس متعة التطهُّر في مياهه.
لنقم بأقل واجباتنا، بوقف كل أشكال التعدي على حرمة نهرنا العظيم، والله المعين على أن ينظف النهر نفسه في أيام معدودات.
لن ندع مافيا الفساد تدمِّر بلدنا، الذي نحميه بحدقات العيون.

الناشر: الشركة اللبنانية للاعلام والدراسات.
رئيس التحرير: حسن مقلد


استشاريون:
لبنان : د.زينب مقلد نور الدين، د. ناجي قديح
سوريا :جوزف الحلو | اسعد الخير | مازن القدسي
مصر : أحمد الدروبي
مدير التحرير: بسام القنطار

مدير اداري: ريان مقلد
العنوان : بيروت - بدارو - سامي الصلح - بناية الصنوبرة - ص.ب.: 6517/113 | تلفاكس: 01392444 - 01392555 – 01381664 | email: [email protected]

Pin It on Pinterest

Share This