فيفيان عقيقي – الاخبار
ما قبل نفق شكّا ليس كما بعده، فالعابر منه سينتقل تلقائياً إلى عالم مختلف. صحيح أنه لن يتمكّن من زيارة جبل القرن المعروف تاريخياً بطبيعته المناسبة لعلاج مرضى السلّ، لأن معالمه اختفت بحكم توسّع إمبراطوريّة المقالع والكسّارات، ولأنه سيلتقي هناك بمرضى أُصيبوا بأمراض تنفسيّة وسرطانيّة بسبب معامل الإسمنت، التي بدأت نهش الجبل منذ ثلاثينيات القرن الماضي
بين أهالي الكورة ومصانع الإسمنت في شكّا صراع قديم يعود إلى عام 1934، تاريخ إنشاء شركة “هولسيم لبنان”، التي أمعنت مع شقيقاتها في تجويف الجبل وتشويهه، قاضيةً على طبيعته، وتلويث البيئة مسبّبة أمراضاً لأهالي المنطقة، في خلال مراحل تحوّلها إلى إمبراطوريّة تُحكم سيطرتها على المساحة الممتدة من ساحل الهري وشكّا، وصولاً إلى هضاب كفريا وكفرحزير.
على مدار أعوام فشل رؤساء البلديات والأهالي في معاركهم ضدّها، لكن مطلع الشهر الماضي أرسل رئيس بلدية كفرحزير فوزي معلوف، إنذاراً إلى الشركة لإيقاف أعمال الحفر ونقل الأتربة من العقار 461 إلى المعمل عبر المتعهّد سايد فنيانوس (وهو أحد المساهمين في الشركة)، الذي استخرج نحو 80 ألف طن من الأتربة في خلال أيام. يقول معلوف إن “الأعمال بدأت في العقار 461/كفرحزير (جبل قصبا حيث مجرى نهر العصفور) منذ نحو شهرين، وهو يمتدّ على مساحة 65 ألف متر مربّع. بعد مراجعة سجلات البلديّة لم يتبيّن وجود رخصة قانونيّة بذلك، لذلك وجّهنا كتاباً نطلب فيه إبراز المستندات القانونيّة ضمن مهلة زمنيّة، إلّا أن المتعهّد لم يستجب لطلبنا، فأرسلنا إنذاراً إلى الشركة لإيقاف الأعمال، وطلبنا تقديم المستندات القانونيّة وتراخيص أعمال الحفر في كلّ العقارات المستثمرة والموجودة في نطاقنا البلدي”. إذاً الشركة تعمل على أساس “الأمر الواقع”.
أعمال غير مرخّصة!
تعدّ “هولسيم” الشركة الوحيدة التي تملك إجازة حصريّة للقيام بتفجيرات في لبنان، وهي تعمل وفق مهل إداريّة مؤقتة صادرة عن المحافظ، وتتذرّع بقرار صادر عام 1936 يجيز لها حصراً إنشاء مقالع في كلّ المناطق اللبنانيّة، علماً بأنه قرار باطل لصدور المرسوم 8803 عام 2002 الخاصّ بتنظيم المقالع والكسّارات، الذي يفرض الحصول على رخصة مستقلّة، ما دفع “هولسيم” إلى تقديم ملف “استثمار وإعادة تأهيل المقلع” عام 2003 على مساحة 50 ألف متر مربّع، وضمّنته خطّة لتحريج المنطقة بأصناف من الأشجار المحلية حفاظاً على التنوع البيولوجي، إلّا أن أياً من ذلك لم يحصل.
المجلس الوطني للمقالع والكسّارات هو الجهة المخوّلة إصدار رخص الحفر والتنقيب عن الأتربة والرمال، بعد حصول الجهة المستثمرة على إجازات من وزارة البيئة، مرفقاً بتقرير تقويم الأثر البيئي، ومن وزارة الصحّة، ومن وزارة الطاقة في حال وجود موارد مائيّة في المنطقة المراد استثمارها، كما حال مقالع الشركة في كفرحزير حيث مجرى نهر العصفور، إضافة إلى تقديم كفالة ماليّة لضمان استصلاح الأرض تحت طائلة مصادرتها. لكن ما يحصل مختلف، أولاً لعدم تناسب قيمة الكفالة مع الاستثمار، إذ غالباً ما تكون الكفالة رمزيّة، ولتحجّج المجلس بعدم وجود آلية مكتوبة لمصادرة هذه الأموال، وهو ما يفسّر عدم استصلاح الأراضي بعد استثمارها، وارتكاب مجازر بالجبال لعدم التزام التقنيات وقوانين التدرّج في الحفر.
واقع عدم امتلاك “هولسيم” لأي رخصة “يضعف قدرة البلديات على تقديم شكاوى ضدها، ويحصر المواجهة بين البلدية المتضرّرة والإدارة التي أعطتها مهل مزاولة أعمال الحفر”، بحسب رئيس هيئة حماية البيئة في شكا بيار أبي شاهين، إضافة إلى أنّ “معظم هذه البلديات تتقاضى ضريبة سنوية متدنيّة”.
بلديات مستضعفة أم متواطئة؟
تتمدّد “هولسيم” بين شكا حيث شركة الترابة البيضاء التابعة لها والمقالع، وكفريا حيث استحدثت أفراناً جديدة ومقالع بدلاً من الهري حيث مكاتبها الإداريّة والأفران القديمة، وكفرحزير حيث المقالع والكسّارات، وهي بحسب أبي شاهين “المستفيد الأكبر منها نظراً إلى التقديمات الشخصيّة التي تعطيها للأوقاف والنوادي والناس في تلك المناطق، مانعة القيام بإحصاءات للأضرار والأمراض”.
بالنسبة إلى معلوف الذي يترأس بلدية كفرحزير للمرة الأولى، فإن “الإنذار المُرسل هو بمثابة إعلان المواجهة المفتوحة مع هولسيم وأي شركة مخالفة بهدف المحافظة على البيئة المنتهكة منذ عقود”. لكن هل تحذو كفريا وشكا حذوها أم أن امتلاك رئيس بلدية كفريا وشقيقه وكاتب البلدية شركة Avenir التي تتعامل مع “هولسيم”، وامتلاك رئيس بلدية شكّا سفناً تعمل مع “الترابة الوطنيّة” يحول دون ذلك؟
لرئيس بلدية كفريا يوسف السمروط الذي أعيد التجديد له لدورة ثانية مقاربة مختلفة، يجزم بأن “الدولة اللبنانيّة لا تريد إغلاق معامل الإسمنت، لذلك نحن مضطرون إلى التعايش معها بأقل أضرار ممكنة”. يرفض اتهامات التواطؤ وتشابك المصالح مع الشركات، مدلّلاً على مجموعة من المحاضر التي سُطّرت بحق الشركة وأحيلت على السلطات المتخصّصة، يقول: “نحن نعمل ضمن صلاحياتنا ووفق قدراتنا، لكن لا قدرة لنا أو لغيرنا على إقفالها. لقد ربحنا شكوى أمام مجلس شورى الدولة قضت برفع القيمة التأجيريّة من 240 مليوناً إلى 445 مليون ليرة سنوياً”، قبل أن يتحوّل متكلماً باسمها قائلاً: “بالنتيجة، رُكِّبت أفضل الفلاتر، وحافظنا على اليد العاملة من أبناء بلدتنا في المعامل الخاصّة بها”. أمّا رئيس بلدية شكا فرج الله كفوري، الذي يشغل منصبه منذ ثلاث دورات، فيشير إلى مجموعة من المطالب التي اتُّفق عليها مع شركات الإسمنت، إلّا أن أياً منها لم ينفّذ، من ضمنها “اتفاق مع شركة الترابة الوطنيّة باستحداث حزام لنقل الأتربة بدل الشاحنات، ما يخفّف 90% من الغبار المنبعث، وصيانة الأفران والتخلّص من المولّدات القديمة، ووضع فلاتر جديدة، وتغطية البتروكوك والكرينكر لما يسبّبانه من أمراض صدريّة وسرطانيّة. أما المشكلة مع هولسيم فتكمن في استعمالها الديناميت لتفجير الجبل. لكنّهم يطالبون المجلس الأعلى للتنظيم المدني بزيادة عامل الاستثمار ليتمكّنوا من تنفيذ هذه المطالب”. ينفض الاثنان أية مسؤوليّة عنهما، ويردّان التقصير إلى عدم مرجعيّات معنيّة لا تقوم بدورها.
بحسب أبي شاهين “ما تقوم به الشركة هو جريمة بيئيّة، فضلاً عن سرقتها الموصوفة لجبل شكا الذي انتهت فترة استثمارها له بعدما استأجرته من البلدية منذ 40 سنة بـ250 ألف ليرة لبنانيّة، إن التفجيرات التي تقوم بها وتصل قوّتها أحياناً إلى 5.3 درجات على مقياس ريختر كما تسجّل آلات رصد الزلازل في المنطقة، تهدّد بكارثة، خصوصاً أن المنطقة مواجهة لفيلق زلزالي بحري ناشط يمتدّ من تركيا وقبرص وصولاً إلى لبنان. إضافة إلى انتشار غازات ومعادن سامة مثل الزئبق والكبريت الذي وصلت نسبته في الأرض إلى 2.5%، فيما النسبة المسموح بها هي 1.7%”. معطيات ووقائع يستند إليها أبي شاهين للتأكيد أن المنطقة تحوّلت أرضاً محروقة لا ينبت فيها زرع، نتيجة الأمطار الأسيديّة التي تنهمر عليها، ملوّثة مياهها السطحيّة والآلاف من آبارها الجوفيّة.
لبنان ليس سويسرا
أبرز المساهمين في “هولسيم لبنان” التي تأسّست عام 1934 باسم شركة “الترابة اللبنانيّة” هم: شركة “سيمنت هولدينغ” اللبنانيّة، وشركة “هولسيبيل” البلجيكيّة، و”بنك مصر لبنان”، والبطريركيّة المارونيّة، وغيرهم من المساهمين الأفراد. والشركة هي النسخة المحليّة لـ”هولسيم” العالميّة التي تأسّست في سويسرا وتتوزّع في 70 بلداً، قبل أن يسهم اندماج شركة “لافارج” الفرنسيّة معها منذ سنتين في تحويلها إلى عملاق عالمي في مجال الإسمنت. ويتفرّع منها في لبنان “هولسيم باطون” التي تُعنى بتجارة وشراء وبيع وصنع مواد البناء والنقل الخاصّة بها، وشركة الترابة البيضاء في شكا، وكانت تملك شركة “إترنيت لبنان” التي باعتها ثمّ أُعلن إفلاسها صورياً وأغلقت تاركة ألواح الإترنيت (المسبّبة للسرطان) في الهواء الطلق.
في سويسرا، باتت معامل الشركة أشبه بمتاحف فيما تتوسّع في دول العالم الثالث وخصوصاً في أفريقيا. وقبل سنوات، حوكم صاحب ورئيس مجلس إدارة “هولسيم” سميت هيني في سويسرا بـ16 سنة سجن وغرامة تخطّت قيمتها 10 ملايين دولار عبارة عن تعويضات لأهالي نحو 300 من ضحايا معمله للإترنيت في إيطاليا، لكن فروع الشركة في لبنان بقيت دون حساب، وتحوّلت “هولسيم” وزميلاتها إلى سرطان ينخر بيئة المنطقة، مسبّبة أمراضاً تنفسيّة وسرطانيّة. ضررها المباشر يطاول أهالي كفريا وكفرحزير والهري وشكّا بحكم قربهم من المعامل، والضرر غير المباشر يطاول قضاء الكورة بأكمله، وتصل غبار المعامل إلى جبال الأرز.
تنتج “هولسيم” 12% من احتياجاتها الحراريّة عبر استخدام الوقود المشتقّ من النفايات وحرق اللحوم الفاسدة التي تصادرها وزارة الاقتصاد وزيوت السيّارات غير المسموح به في كلّ دول العالم. وبحسب الدراسات والبحوث العلميّة يرافق عمليّة تحميص الإسمنت حرقاً انبعاث غازات ومعادن مضرّة وسامّة تُسهم في ارتفاع نسبة أمراض الدم والأمراض السرطانيّة والمعويّة والصدريّة. كذلك إن اختلاط غازات ومواد تفجير المقالع ببحيرات المياه الجوفيّة الاستراتيجيّة يحوّلها مياهاً أسيديّة ومالحة مضرّة وغير قابلة للاستعمال. فيما الغبار الإسمنتي الناتج من تفتيت وطحن الصخور الكلسيّة وغبار البتروكوك التي تستعمله في توليد الطاقة، يصعب التقاطه عبر الفلاتر ويُسهم انتشاره في ارتفاع نسبة الأمراض الصدريّة والحساسيّة والسرطانيّة.