“إذا مر بي يوم ولم أستفد علما ولم اصطنع يدا، فما ذاك من عمري”، بهذا القول المأثور بدأ البروفسور تيسير حمية حديثه مع موقعنا greenarea.info، وإلى مسيرته العلمية والأكاديمية الحافلة بدراسات وأبحاث وإنجازات، يؤكد حمية أن “تحقيق هذا القول ومبدأ طلب العلم إلى أعلى الدرجات، يجب أن يكون مرتبطا بالواقع المعيشي وواقع الحياة والناس”.
ومن إنجازات حمية الأهم، أنه أول دكتور في الكيمياء الفيزيائية يحصل على دكتوراه في الرياضيات البحتة، فضلا عن شهادة HDR، وهي بمثابة دكتوراه في مجال العلوم الفيزيائية والنمذجة الفيزيوكيميائية من فرنسا، وشغل سابقا منصب عميد كلية الزراعة في الجامعة اللبنانية لسنوات عدة، وساهم في جعل قسم الطب البيطري أساسيا ومن أهم الأقسام في الجامعة وعلى المستوى الدولي، وحاليا يحاضر في الجامعة اللبنانية ويشغل منصب مدير الأبحاث العلمية MCEMA-CHAMSI في الجامعة اللبنانية منذ العام 1998، كما كان محاضرا في جامعة الألزاس الفرنسية خلال الفترة 1990-1998، واستاذا زائرا في جامعة بواتييه الفرنسية (2003)، وباحثا ومحاضرا في جامعة ألبرتا في كندا، وشارك في أكثر من 150 مؤتمر علمي، ومنظما لاتفاقيات تعاون ومذكرات تفاهم ومؤتمرات دولية، بالإضافة إلى كونه عضوا ومنسقا في هيئات تأسيسية لجامعات، ومراكز أبحاث محلية وعالمية، وكان رئيسا لأكثر من 30 منها، فضلا عن أبحاث تزيد عن 20 مشروعا بحثيا، و370 بحثا أصليا محكما، واللائحة تطول ولا يتسع المجال لذكرها جميعا.
مشروع إدارة النفايات المستدام
وكان لقاؤنا به، بعد نيل فريق الجامعة اللبنانية، وفريق دولي من تونس وإيطاليا جائزة أفضل مشروع بيئي في Energy Globe Award 2016، وهي جائزة لمشروع Landcare Med، وفاز من بين 1700 مشروعا مقدما من 170 دولة حول إدارة النفايات الصلبة وطرق معالجتها، ضمن برنامج الإتحاد الأوروبي ENPI CBC MED.
وقال حمية: “أود الكلام بالبداية عن عمل مختبر الأبحاث المتخصص في البيئة والمواد والتحفيز والطرائق التحليلية MCEMA-CHAMSI في الجامعة اللبنانية، وأتولى إدارته منذ العام 1998، وهناك أكثر من ثلاثين باحثا جامعيا، كما يضم حوالي 15 باحث دكتوراه بين لبنان وفرنسا، وحوالي 20 طالب ماجستير في العلوم البيئية والجيولوجية، والكيمياء الصناعية والنفطية، والعلوم النانوية والتكنولوجية سنويا، ونربط بين هذه العلوم ونعتمدها كأدوات، بهدف الإهتمام بالبيئة والإنسان، فمثلا عند دراسة عوادم السيارات فإن عملنا على معرفة المواد المنبعثة، وكيفية تصنيع مواد خاصة لالتقاط ثاني أوكسيد الكربون وأوكسيد النيتروجين، بهدف التقليل منها ومن تلوث البيئة، كما هو الحال في أوروبا بحيث لا تخرج أي انبعاثات، ونحن في لبنان نعاني الأمرين من انبعاثات الروائح والغازات من عوادم السيارات، فضلا عن الأمراض التنفسية وغيرها، لذلك حرصنا منذ العام 2012-2013، للمتابعة في الأبحاث البيئية، ومنها مناقصة علمية ممولة من الاتحاد الأوروبي والعمل مع البلديات لإدارة ومعالجة النفايات الصلبة، فتقدمنا بمشروع كجامعة لبنانية بالتعاون مع جامعتي كالياري Cagliari University في إيطاليا، وكلية الهندسة للمعدات الريفية والزراعية بدولة تونس، ونالت فلسفة المشروع الجائزة القائمة على جعل المواطن شريكا في إدارة النفايات الصلبة بطريقة مستدامة وبصفر تلوث، ومن شروط الإتحاد الأوروبي لتبني المشروع أن يكون موقع المشروع على أرض محددة مملوكة أو مستأجرة لفترة طويلة، وقد تعاونا مع بلديتي حارة صيدا وزبدين، وفي تونس بلدية مجاز الباب Medjez el bab في مقاطعة باجة، وفي إيطاليا، بلدية ديسيموبوتزو Decimoputzu في جزيرة سردينيا، وقُبِل المشروع وتم تمويله من الإتحاد الأوروبي، وبلغ عدد فريق العمل اللبناني حوالي 12 دكتورا وباحثا من اختصاصات عدة منها البيئية والكيميائية والبيولوجية، وأشغل موقع الممثل القانوني Legal Representative، والمدير الرسمي للمشروع Project Officer، والبروفسورة في العلوم البيئية جمانة الطفيلي وهي بمنصب المدير التقني Technical Manager، وهي زوجتي أيضا، ويشاركنا زملاؤنا في المختبر، منهم الدكتور نبيل طباجة وهو الباحث التنفيذي للمشروع، ومدير التوجيه والإرشاد الدكتور في الكيمياء والمواد النووية وخصوصا النفايات النووية البروفسور حسام عبيد وقد عمل في المركز البحثي في فرنسا CEA، والبروفيسور في Biomass and Green Chemistry علي قاروط، والمهندسة البيئية ابتهال حمية، وهناك 4 باحثين في مجال الإرشاد والمحاضرات، كما أن هناك مدققا ماليا ومحاسبا مركزيا وغيرهم، أما القيمة المحددة لإشراف الجامعة اللبنانية والجامعات الأخرى المشاركة، فتصل إلى 83 ألف يورو، بينما تحصل كل بلدية على حوالي 300 ألف يورو.
المواطن شريك
وأضاف حمية: “يتمثل أهم جزء من المشروع باعتبار المواطن شريكاً للدولة في إدارة ازمة النفايات المنزلية، وخصوصا في البلديتين المذكورتين، كما في البلديات في الدول الثانية، ومدة المشروع النواة سنتان جرى تمديدها لستة أشهر إضافية، والمشروع عقد بين البلديات والمواطن يتعهد فيه المواطن بفرز النفايات عبر مستوعبين، أحدهما للمواد العضوية وآخر مخصص لباقي النفايات التي يستفاد من تدويرها بنحو 90 بالمئة وهي: الزجاج، البلاستيك، المعادن، الكرتون والورق، وتم تطبيقها بشكل كامل في زبدين (قضاء النبطية)، بينما في حارة صيدا واجهتنا بعض المشاكل، ووصلت للبلديات فعلا الدفعة الأولى ومقدارها 180 ألف يورو، حيث تم بناء هنغار لفرز النفايات، وشراء مستوعبات لمعظم البيوت، وفقا لمعايير الاتحاد الأوروبي، ومنها “الحي النموذجي” Cartier Pilote، لتطبيق هذه الفلسفة، بهدف توسيعها على بقية القرية والقرى المجاورة، وكل بلدية مشمولة بالعقد مسؤولة عن تنفيذ المشروع بتطبيقه على مئتي مواطن ومزارع فقط”.
وقال حمية: “كما يشمل المبلغ بناء مصانع لمعالجة النفايات، مع صفر تلوث Zero pollution، وتتمحور فكرة المصنع حول تصنيع الفحم والغاز البيولوجي Biomass and Biogas، والقدرة الطاقوية للغاز الحيوي أكثر بكثير من الفيول العادي المستورد، لذا يمكن استعماله في مراجل المعامل وخصوصا لتوليد الكهرباء ومعامل الإسمنت والزجاج وغيرها، وفكرة الفحم البيولوجي لا تقوم على عملية التفحيم Carbonization بل على عملية Micro Pyrolysis، فالفحم ينتج تلوثا وانبعاثات للغازات بينما الفحم الطبيعي لا ينتج تلوثا، وينتج من هذا المصنع أيضا السماد العضوي، وتتم العملية في مكان مقفل يعمل بمبدأ 3-8، أو دورات ثلاث كل منها لفترة 8 ساعات، لمعالجة 1،5 طن من النفايات العضوية، وفي كل دورة يعالج 500 كيلوغراما، وبطريقة حسابية فإن هذا المصنع يمكن أن يستوعب 1500 كيلو من النفايات العضوية يوميا، ما يمكن تطبيقه على القرية بكاملها، وبالمقابل ينتج حوالي 1500 كيلوغراما أخرى من المواد التي يمكن إعادة تدويرها، والمشكلة التي تعرضنا لها في البلدتين هي في معايير المناقصة الدولية International Tender للمصنعيْن، والتي يشترطها الاتحاد الأوروبي، ونحتاج إلى سنة على الأقل للبت بها، وقد واجهتنا صعوبات لتجاوز الخلافات وخفضت القيمة دون الـ 150 ألف، ما يمكننا القيام بمناقصة محلية وفقا لشروط الاتحاد الأوروبي، فلم يتقدم أحد، فقبل أن نخسر المال، وضعنا آلة ضاغطة للمواد المراد إعادة تدويرها، ووسعنا الحي النموذجي بشراء مستوعبات لكل بيت ومستوعبات كبيرة للأحياء، فالمشروع نجح في زبدين وديزيميبوتزو الإيطالية ومجاز الباب التونسية، وبقيت حارة صيدا، مع العلم أن كل هذه البلديات لم تبن مصنعا لاستقالة الشركة الإيطالية الشريكة بالمشروع، والتي كانت ستنتج هذه المصانع بسبب المبلغ والشروط الصعبة للاتحاد الأوروبي، وكانت الشريك التاسع مع الجامعات الثلاث والبلديات الأربع، وشركة الجنوب للمقاولات لصاحبها علي عياش، واقترحنا الإستفادة من عمليات التدوير وتزويد معامل البلاستيك والمعادن بالمواد المدورة ما يوفر 90 بالمئة من المواد الخام، التي يستوردونها، ويسد عجزا، خصوصا وأن معدل سعر طن البلاستيك المدور مثلا 150 دولارا، لذا لدينا هنا ثروة يمكنها أن تشغل هذه المصانع وتوفر دخلا ثابتا للبلديات، ربما ليس في السنوات الأولى، ولكنه استثمار رابح في كافة المجالات وعلى المدى البعيد.
ثروة بدلا من نقمة
وأشار حمية أن “لبنان ينتج بمعدل 5500 طنا من النفايات يوميا، (سنويا مليوني طن)، وبمسألة حسابية بسيطة، فلو استطعنا إعادة استخدام نسبة بسيطة من هذه المواد، خصوصا وأن الدولة غير مسؤولة والمواطن متروك لشأنه والبلديات لا تدعم من أجل معالجة النفايات، فقد تحولت ثروة النفايات الهائلة إلى نقمة على الإنسان، الحيوان، التراب، الشواطئ والمياه الجوفية، إلا أننا بفترة زمنية بسيطة جدا، يمكن أن نحولها إلى ثروة وطاقة، ومن المتوقع أن نصل في حارة صيدا إلى حل خصوصا مع البلدية الجديدة”.
وقال حمية: “يتعهد المواطن (الفريق الأول) ضمن العقد المبرم مع الإتحاد الأوروبي بفرز النفايات يوميا، ضمن مستوعبين، ولجعل الأمور أسهل، قررنا تخصيص 3 أيام للنفايات العضوية كونها تمثل النسبة الأكبر من النفايات المنتجة للروائح، أما النفايات الباقية، فخصصنا لها يوما لكل نوع من المواد الممكن تدويرها، فلا حاجة للفرز اليدوي، ويشجع الملتزم بالإعفاء مثلا من 10 إلى 15 بالمئة من الرسوم البلدية، أو تزويده بأكياس بلاستيك مجانية، بالمقابل يتعهد الفريق الثاني بجمع النفايات بصورة دورية، وإدارتها بشكل شامل، ونحن كجامعة لبنانية نقوم بواجبنا ومجانا لجهة الإرشاد والتوجيه وتثقيف المواطنين بشكل مستمر ودوري، وأقمنا محاضرات عدة لتشمل قرى، منها كفرحتى، ميفدون، وقرى جوار الحدث في بعبدا، وبمكين، عين الرمانة وكيفون في عاليه، وتجاوبت بعض البلديات، وطلبت محاضرات وآخرها في القماطية في 23 حزيران (يونيو) بحضور 200 إمرأة.
تعميم التجربة
وقال حمية أنه “كجامعة لبنانية نحن مستعدون مجانا، للتعاون مع أي بلدية، بالتوجيه والإرشاد، ونلفت النظر إلى أن استثمار أموال لإنشاء مصانع ستة مركزية لست مناطق، مصنعان منهما في بيروت وضواحيها، مصنع للجبل، وآخر للبقاع، وكذلك للشمال والجنوب، بكلفة حوالي 50 مليون دولار لكل مصنع، يحقق أرباحا تقدر بنحو 10 ملايين دولار سنويا، ويحل مشكلة النفايات جذريا في لبنان لجهة إنتاج طاقة كهربائية وإنتاج أسمدة عضوية باب أول، فعلى اعتبار أن 6.5 مليون دولارا أميركيا تنتج عن الكهرباء بسعر 10 سنتات للكيلوواط، و2.5 مليون دولارا أميركيا ثمن الأسمدة بسعر 10 سنتات للكيلوغرام، و1.5 مليون دولارا أميركيا لمواد التدوير بسعر 15 سنتا للكيلوغرام الواحد، كما يحتاج المصنع لحوالي 7-8 دونمات، وتتمحور فكرة المصنع حول الغاز والفحم الحيوي Biomass and Biogas، وتوضع النفايات العضوية في أماكن محكمة الإغلاق، فيها منافذ لغاز الميثان، يتولد فيها خلال 40 يوما ليمر عبر أنابيب لاستخدامه في المنازل أو عبر توربينات لإنتاج الطاقة الكهربائية، فالمصنع هو استثمار طويل الأمد، وما يتبقى من المواد العضوية في النفايات الصلبة بعد استخراج الغاز، وبعد إضافة مخصبات ومواد بنسب معينة، يتحول إلى سماد عضوي باب أول يزيد من إنتاجية الأراضي الزراعية بشكل كبير، دون تلويث للبيئة بغازات الكربون أو النيتروجين، بمعنى “صفر تلوث”، وهذا يضيف إلى ميزانية لبنان 60 مليون دولار كربح سنوي، نسترد الأموال المستثمرة خلال 6 سنوات، مع العلم أن هذه التكنولوجيا معروفة ومستعملة في كافة أنحاء العالم، ومنها إيران وتركيا ودول من الإتحاد الأوروبي، وهنا الفت النظر إلى أنه لا داعي للمحارق، أو المفاعل الحراري، المستعملة في أوروبا منذ أكثر من 80 سنة، فعلى الرغم من أن هناك امكانية لتوليد الكهرباء منها، إلا أننا نخسر ثروة كبيرة متمثلة بالمواد التي يمكن إعادة تدويرها، فضلا عن أن الرماد المتبقي، وهي مادة ملوثة للغاية لاحتوائه على المواد المعدنية السامة وبشكل مركز، ونحتاج لأراض خاصة للتخلص منه، وقد أدت في دول عدة إلى مشاكل وعواقب وخيمة، كما أن الغازات المنبعثة يجب التقاطها ومعالجتها بمعالجات معقدة وباهظة الكلفة، وهنا لا نلغي دور هذه المفاعلات الحرارية كملجأ أخير لنسبة قليلة من النفايات، ولذا تخلصت أوروبا شيئا فشيئا من هذه المحارق، وتحولت نحو التدوير والفرز نظرا للفوائد الكبيرة لجهة توليد الطاقة وانتاج السماد وإعادة استعمال المواد.
كيف يمكن لبلدية أن تطبق هذا المشروع؟
وعن إمكانية الإستفادة من منح الإتحاد الأوروبي لتعميم تجربة زبدين النموذجية الناجحة، أكد حمية “استعداد الجامعة للتعاون مع الجميع في الإرشاد والتوجيه”، أما بالنسبة لمشاريع مماثلة، فقال أنه “ابتداء من أوائل العام المقبل، هناك مشاريع يدعمها الاتحاد الاوروبي قد تصل ميزانيتها إلى 3 ملايين يورو، ولكن قدراتنا في الجامعة اللبنانية محدودة، إلا أنه يمكن أن نتعاون معا في هذا النطاق مع منطقة معينة للقيام بمشروع تنموي وبيئي مستدام”.
وقال حمية: “إن بلدة زبدين استفادت، وبالتالي فإن رئيس البلدية محمد قبيسي وعد باستمرار المشروع وتوسيعه ليشمل كل القرية، وهنا نؤكد أنه إذا أحسنّا إدارة هذا الملف، فسوف يمول نفسه، لأن بيع المواد المعاد تدويرها كالبلاستيك مثلا يمكن أن تجلب ايرادات بين 2000 إلى 3000 دولارا، لقرية من 5000 نسمة، بدلا من تلوث البلدة به، ويمول نفسه بشكل بطيء، وقد يكون أسرع مناطقيا، ولنترك الدولة جانبا، لنحاول جمع النفايات مناطقيا في هنغار للمواد الممكن إعادة تدويرها، على مساحة لا تزيد عن دونم واحد (1000 مترا مربعا)، ولا يكلف هذا أكثر من 15 ألف دولار، وأنا متأكد بأن الناس مستعدون لدفع 10 دولارات شهريا للتخلص من النفايات، وذلك بضغط هذه المواد وبيعها، والنفايات العضوية تخلصوا منها كما كنتم تفعلون، ولكن استفيدوا من هذه الثروة بدلا من تحويلها إلى نقمة وضرر، ويمكن حل نسبة كبيرة من مشكلة النفايات دون تدخل الدولة، ودون تكاليف كبيرة.