إن واقع الصرف الصحي في لبنان، ومسألة المياه المبتذلة، يشكلان ملفا بيئيا ضاغطا على البيئة بكل عناصرها ومنظوماتها، وعلى صحة الإنسان ورفاهية عيشه.
وكما القضايا البيئية الأخرى، تتطلب مسألة الإدارة المتكاملة والسليمة والمستدامة لمياه الصرف الصحي إعتماد سياسات تكاملية على مستوى الدولة، بمشاركة نشيطة من القطاع الخاص والمجتمع المدني، وكذلك التنسيق الفعال بين مختلف الفرقاء على مستوى الدولة والمجتمع وفي كل المناطق.
تتشكل المياه المبتذلة في لبنان من مياه الغسيل المنزلي والجلي والمطبخ ومياه الاستحمام ومياه المراحيض والصرف الصحي، وكذلك مياه الصرف من مؤسسات العناية الصحية والمؤسسات التجارية والإدارية والخدمية والسياحية وكذلك المؤسسات الصناعية في كثير من الحالات. يضاف إليها مياه محطات التزود بالوقود ومراكز غسيل السيارات، وكذلك مياه غسل الطرقات أحيانا ومياه المطر.
لا تغطي خدمات المجارير كل مدن وبلدات وقرى لبنان. فهي في غالب الأحيان غير مكتملة، وغير مربوطة بمحطات للمعالجة، إلا في حالات محدودة جدا. ولا تزال مناطق كثيرة في لبنان محرومة كليا من وجود البنية التحتية اللازمة لإدارة المياه المبتذلة.
في المدن الساحلية، وغالبية البلدات والقرى الموجودة في السفح الغربي لسلسلة جبال لبنان الغربية، أي حيث يعيش ما يزيد عن 70-75% من سكان لبنان، تصب المياه المبتذلة بصورة مباشرة أو غير مباشرة في البحر. بعض هذه المياه المبتذلة يصب في الأنهار والمجاري المائية أو في مجاري السيول الشتوية. أما في المناطق الداخلية الأخرى في البقاع والشمال وعكار والجنوب فترمى بمعظمها في حفر تسمى “صحية”، وهي لا تتوافق لناحية تصميمها وتشغيلها مع مفهوم الحفر الصحية على الإطلاق. وفي حالات أخرى ترمى في السهول والوديان.
يتم التخلص من معظم المياه المبتذلة المتولِّدة في لبنان في الأوساط البيئية المختلفة، بحرا ونهرا وأرضا، دون معالجة. ومفهوم المعالجة في لبنان لا يزال بدائيا إلى حد كبير، حيث أن عدد محطات المعالجة محدود جدا قياسا لحاجة لبنان. لا يزيد هذا العدد عن 36 محطة، بين كبيرة ومتوسطة وصغيرة الحجم، تواجه صعوبات كبيرة في تشغيلها، معظمها معطلة ومتوقفة عن العمل، ومحطتان فقط حاليا قيد التشغيل.
إن معظم هذه المحطات معد للقيام بعمليات ما قبل المعالجة، وعدد محدود جدا، لا يزيد عن ثلاثة محطات مجهزة لمعالجة متقدمة ثنائية وثلاثية. ولكن على أرض الواقع كل هذه المحطات، إما متوقفة عن العمل كليا، وإما تعمل جزئيا وبقدرة منخفضة جدا عن قدرتها الفعلية، وفي كل الحالات تكون نوعية المياه المعالجة الخارجة منها لا تتوافق مع لوائح المعايير اللبنانية لمياه الصرف المسموح رميها في البحر أو الأنهار، لناحية مؤشرات التلوث العضوي والجرثومي والكيميائي.
يعاني قطاع المياه في لبنان من ضعف شديد في إدارته على مستوى الوزارات ومؤسسات الدولة المعنية، تنظيما وتخطيطا وتنفيذا وتشغيلا وإدارة. وهذا يتجلى بأبشع صوره في قطاع إدارة المياه المبتذلة، إن صح الحديث عن إدارة لهذا القطاع المسيَّب إلى حدٍّ كبير.
إن واقع الصرف الصحي في لبنان، وطرق التخلص من المياه المبتذلة المتولدة من كل المصادر، يشكل تهديدا حقيقيا لسلامة البيئة والصحة العامة، ويشكل واحدا من أكبر التحديات التي تواجه المنظومات البيئة وصحة الإنسان ورفاهية عيشه.
في العالم، تتزايد نسبة وفيات الأطفال تحت الـ 5 سنوات بسبب أمراض ناتجة عن تلوث المياه. لا يوجد عندنا في لبنان إحصاءات دقيقة مماثلة، ولكن كل المؤشرات تدل على أن لبنان لا يشكل استثناء لهذا الميل العالمي، نظرا لتفاقم الأزمات والمشاكل البيئية، ولا سيما منها تلك المرتبطة بإدارة النفايات والمياه المبتذلة، وتأثيراتها على جودة الهواء وجودة البحر والمياه العذبة والتربة وسلامة الغذاء.
يشهد لبنان أزمة كبيرة تتعلق بجودة المياه، وكذلك تزايدا في النمو السكاني والمديني، وزيادة في حاجات القطاعات الزراعية والصناعية للمياه. يشكل كل هذا ضغطا على الموارد المائية، وازديادا في رمي المياه الملوثة بطريقة غير منظمة وغير شرعية في مختلف المناطق، وفي مختلف الأوساط. وهذا ما يترافق بتهديد شامل للصحة البشرية ورفاهية الإنسان، مع آثار مباشرة وبعيدة المدى على مستوى معيشة معظم السكان في كل المناطق.
من الواضح أن مصادر المياه العذبة، السطحية والجوفية، وكذلك المنظومات البيئية الساحلية، تواجه تهديدات متنامية. وبالتالي، لا يمكن تلبية إزدياد الطلب على الموارد المائية في المستقبل إلا بإدارة للمياه المبتذلة أكثر تقدما وأكثر جدية وشمولية.
إن واقع المياه المبتذلة في لبنان، لناحية طرق التخلص منها والتعامل معها، يرتب آثارا كبيرة وثقيلة على البيئة وعلى الصحة العامة ورفاه المواطنين.
إن التخلص من المياه المبتذلة دون معالجة، أو في حالات قليلة جدا، بعد معالجات أولية وضعيفة الفعالية، في البحر والأنهار والأراضي، وكذلك أحيانا استعمالها غير المنظَّم وغير الشرعي في الري، بالإضافة إلى ما تواجهه شبكات المجارير من سوء إدارة وتشغيل وصيانة، ومن مشاكل وفيضانات للمياه الآسنة في شوارع المناطق السكنية في المدن والبلدات والقرى، كل ذلك يؤدي إلى التسبب بمشاكل صحية كبيرة.
تظهر المشاكل الصحية في انتشار الأمراض التنفسية والإسهالات والأمراض المَعِدِيَّة-المعوية، عند السكان، وخصوصا عند الأطفال، مما يرتب كلفات صحية عالية للإستشفاء والطبابة. وكذلك انخفاض في إنتاجية العمل والغياب عن العمل بسبب المرض.
يؤدي هذا الواقع أيضا إلى تأثيرات سلبية كبيرة على جودة المياه، وتلوث الموارد المائية، مما يرتب كلفات اقتصادية هامة على مستوى المجتمعات المحلية وعلى المستوى الوطني العام. ويؤدي أيضا إلى انخفاض في دخل الأسرة، وإلى زيادة احتمال وقوع نزاعات بين الأهالي بسبب الإدارة غير السليمة للمياه المبتذلة وطرق التخلص منها.
يشكل واقع الصرف الصحي في لبنان سببا رئيسا لتلوُّث الأنهار، وله أثر ثقيل ضاغط على جودة المياه السطحية، حيث أن هذه التدفقات تصب مباشرة في الأنهار والمجاري المائية ومجاري السيول الشتوية. وهذا ما يرتب آثارا على الصحة تظهر بانتشار الأمراض والإلتهابات الجلدية والهضمية.
ولا يسلم الهواء من التلوث، فسوء إدارة المياه المبتذلة يؤدي، في المدن، إلى تلوث الهواء. ويحصل غالبا أن تتدفق مياه الصرف الصحي في الشوارع، حيث تفيض المجارير على الطرقات نتيجة سوء صيانتها، وسوء إدارة النفايات الصلبة المنزلية أيضا، ما يؤدي إلى إقفالها وإعاقة سيل المياه فيها. فتنتشر الروائح الكريهة، ويتهدد السكان بالتعرض للمياه الملوَّثة والحاملة للجراثيم المُمْرِضَة. وكذلك ينتج عن ذلك انخفاضا في القيمة الجمالية للمدينة أو البلدة والقرية. وتتسبب الروائح الكريهة بآثار سلبية هامة على مرضى الربو ومرضى الجهاز التنفسي والحساسية، وكذلك إنخفاض مناعة الجسم تجاه التعرُّض للرشح والبرد.
يرتبط سوء إدارة مياه الصرف الصحي في لبنان والتخلص من المياه المبتذلة دون معالجة فعَّالة بتهديد سلامة الغداء والأمن الغذائي وإنتاج الغذاء. بالإضافة للأمراض التي ترتبط بالتلوث الجرثومي للمياه، كما سبق القول، هناك التسمُّمات الكيميائية الناتجة عن تلوث المياه بمواد عالية السُمِّيَّة، مثل المبيدات الزراعية وبعض المواد الكيميائية المعروفة بقدرتها على تخريب النظام الهرموني والغدد الصماء، وكذلك بالمستحضرات الصيدلانية والمعادن الثقيلة.
تتسبب المياه المبتذلة المرمية في الطبيعة دون معالجة بتخريب وظيفة المنظومات البيئية، وتؤثر على سلامة وصحة المنظومات البيئية المائية في البحر والأنهار والجداول والبحيرات. وهذا ما يهدد غنى التنوع البيولوجي، حيث أن التلوث يؤدي إلى قتل أو هجرة أو تخريب تكاثر أنواع عديدة من الأحياء المائية، البحرية، وتلك التي تعيش في المياه العذبة.
يؤدي هذا التلوث أيضا، إلى تأثير على وظيفة المنظومات البيئية لناحية الخدمات التي يستفيد منها الإنسان، من نشاط إقتصادي وترفيهي.
ربما يكون للتلوث العضوي والنيتروجيني، المسبِّب لزيادة المغذِّيات في الوسط المائي Eutrophication، الأثر الأكبر على سلامة المنظومات البيئية البحرية والمائية العذبة. تؤدي هذه الزيادة إلى تنامي كبير جدا للنباتات المائية، ويترافق ذلك باستهلاك كبير للأوكسجين يستنزف كميته في الماء، مما يهدد حياة الأسماك والحيوانات المائية الأخرى، ويؤدي إلى موتها أو هجرتها.
لغياب الإدارة السليمة للمياه المبتذلة أثر هام على الإحتباس الحراري وتغير المناخ، بسبب انبعاثات غاز الميثان CH4 المتولد عن عمليات التفكك اللاهوائي للمواد العضوية، وكذلك غاز أوكسيد النيتروز N2O، وهما من أهم غازات الدفيئة المسببة لتغير المناخ.
أمام هذا الواقع، لبنان بحاجة ملحة لأن يضع ويطبق إدارة متكاملة ومستدامة للمنظومات البيئية البحرية والمائية العذبة.
إن الإزدياد في كميات المياه المبتذلة المتولِّدة في لبنان، مع التزايد السكاني، ومع فوضى استخدام المياه، يتطلب إستثمارات مباشرة في هذا القطاع. ويتوقع أن يكون هناك فوائد عديدة لهذه الاستثمارات في المستقبل، تنعكس في تحسين الوضع البيئي والصحي وفي تخفيف الفقر.
نحن أمام حاجات وتحديات لا تحتمل التأخير، في مقدمتها إنشاء بنية تحتية من المجارير ومحطات المعالجة. واستكمال الشبكات غير المنجزة وربطها بمحطات للمعالجة الفعَّالة. وكذلك تنويع طرق المعالجة حسب طبيعة الأرض والموقع. معالجة تعمل على مباديء متنوعة، وتطبيق تجارب ناجحة في بعض البلدان، تصلح عندنا في بعض المناطق الجبلية والريفية، مثل زراعة القصب وغيرها من النباتات المعروفة لهذا الهدف.
ويبرز رفع الوعي بين السكان باعتباره حاجة ذات أولوية، حول مخاطر سوء إدارة المياه المبتذلة والتخلص غير السليم منها، واستعمالاتها المحفوفة بالمخاطر، مثل استعمالها في ري المزروعات، ولا سيما الخضار والفواكهه.
لا بد من تشجيع مشاركة القطاع الخاص في هذا القطاع، ووضع التشريعات والحوافز المناسبة، وكذلك تسهيل وتشجيع مشاركة منظمات المجتمع المدني على كل المستويات، في التوعية وفي أعمال المراقبة والمتابعة. وكذلك العمل على رفع مستوى وفعالية التنسيق بين كل الأطراف والأجهزة المعنية بهذا القطاع، على مستوى إدارات الدولة والمجتمع.