يحيرنا الجسم البشري بحسن تنظيمه، وبألغازه الكثيرة المثيرة لاهتمام العامة والعلماء على حد سواء، وعلى الرغم مما تساهم به الاكتشافات الحديثة من فك رموز هذه الألغاز، وإن كان هذا الأمر يتم بوتيرة بطيئة للغاية، وبشكل لا يفي بمتطلبات البشرية من علاجات مستحدثة بهدف القضاء على الأمراض، وتحسين نوعية حياة الناس، فإن اكتشاف نوع من البكتيريا في التجويف الأنفي تساهم في الحد من الأمراض الناتجة عن إصابات بكائنات مجهرية تقاوم المضادات الحيوية وخصوصا في المستشفيات Nosocomial Infections، والتي يؤدي انتشارها إلى حالات مستعصية من الإلتهابات، يعتبر حدثا كبيرا في مجال الطب وعلاج الأوبئة السارية وخصوصا في المستشفيات.
تعد هذه الالتهابات من الحالات الصعبة للغاية، وتؤدي في كثير من الأوقات لتسمم الدم، والتهابات جلدية قد تصل إلى العظم والأجهزة الداخلية، وقد تؤدي أحيانا إلى بتر الأعضاء، كما حصل منذ فترة للطفلة اللبنانية إيلا، وقد تؤدي أيضا إلى الوفاة.
بكتيريا تنتج مضادا حيويا للالتهابات
في هذا المجال تعتبر البكتيريا العنقودية المكورة الذهبية، أو البكتيريا الجبارة Superbug، ومنها MRSA، Methicillin-resistant Staphylococcus aureus، من أسوأ الكائنات المجهرية المتسببة للالتهابات المستعصية على أي علاج معروف، إلا أن عدد من العلماء الألمان من “جامعة توبينغن”the University of Tübingen، تمكنوا من إكثار بكتيريا تعيش في أنوف الكثير من البشر، وهي من أنواع البكتيريا العنقودية واسمها Staphylococcus lugdunensis، وزرعوا إلى جانبها “مرسا” MRSA، وقد تمكنت إفرازات هذه البكتيريا وهو نوع من مضاد حيوي أسموه lugdunin من القضاء على كل مستعمرات “مرسا” المجاورة، ونشر هؤلاء الباحثون دراستهم في مجلة “الطبيعة” Nature العلمية في 28 تموز (يوليو) 2016.
ويتسبب الإفراط في استخدام مضادات الإلتهاب، وضعف الإلتزام بالجرعات الموصوفة في مقاومة البكتيريا لهذه المضادات، وتتسبب جرثومة “مرسا” وحدها بأكثر من 20 ألف وفاة سنويا، و11 ألف وفاة في الولايات المتحدة وحدها، مع العلم أن هذه البكتيريا تتواجد في أنوف 30 بالمئة من البشر حاليا، دون التسبب بمشاكل، إلا أن ما نسبته 2 بالمئة من الأفراد، تعبر هذه الكائنات المجهرية فتحات الجسم لتصيبهم بالأمراض، ويعتبر الأنف ممرا معروفا للالتهابات نتيجة هذه الجرثومة بينما تحتوي تجاويف الأنف لـ9 بالمئة من الأشخاص على البكتيريا من النوع الثاني المفرزة للعقار الجديد S.lugdunensis.
رأي الخبراء
وقال الأستاذ في علم الأحياء الدقيقة في كلية الطب بـ “جامعة هارفارد”، والخبير في مقاومة المضادات الحيوية مايكل غيلمور Michael Gilmore “لقد اعتمدنا مقاربة في علاج الإلتهابات بالقضاء على كل شيء”، وأضاف “إلا أن بعض الناس عرضة لالتهابات المكورات العنقودية بينما غيرهم يقاومون نسبيا”، وأشار إلى أن “هذا جزءا من نظام المناعة لدينا، وجزءا منه هو الميكروبات الأخرى التي نحملها داخلنا”، وبالتالي فهذه الكائنات المجهرية الأخرى والميكروبات هي التي اكتشفها الفريق الألماني.
وقال غيلمور “نستخدم الآن أدوية عن طريق الفم واسعة النطاق في مفعولها، ما يمكن أن يقضي على microbiome (الكائنات المجهرية الموجودة في الجسم) الخاصة بنا من أجل علاج عدوى في الأسنان أو التهاب الأذن”، ويعتقد غيلمور أن الوقت قد حان لإعادة النظر في استراتيجية مضادة للميكروبات، وأكد أن هذه الدراسة تشكل اتجاها واعدا، وقال “أعتقد أننا نتجه نحو الإدارة الفعالة للعلاقة بين الميكروبات والبشر في كل من الصحة والمرض”.
وقال الطبيب المختص في الأمراض المعدية في “جامعة جورج واشنطن” جون باورز، أنه يأمل أن “تصبح مادة lugdunin في نهاية المطاف مضادا حيويا مفيدا للاستخدام البشري”، ولكنه يود أن “يرى كيفية عملها لدى البشر، والتجارب في أنابيب الاختبار التي أجراها الفريق الألماني لا يمكنها التنبوء بما اذا كانت المقاومة للمضادات الحيوية سوف تتطور لدى البشر”.
الدراسة
وقام الفريق الألماني بالتجارب على “فئران القطن”cotton rats ، وتبين أن المضاد الحيوي الجديد يمكنه علاج الإصابات الجلدية من البكتيريا المقاومة للمضادات الحيوية، بما فيها “مرسا”.
وقال مؤلف الدراسة بيرنارد كريسمر Bernhard Krismer، إن “بعض الحيوانات شفيت تماما ولم يُعثر فيها للبكتيريا على أثر. في حين تضاءلت أعراض الإصابة في حيوانات أخرى. كما تمكن العقار الجديد من اختراق أعمق طبقات الجلد”، ما يعتبر أمرا هاما في علاج هذا النوع من الالتهابات الذي تعتبر سمة التجذر في أعماق الجلد سمة مميزة له.
وقال رئيس فريق البحث أندرياس بيشيل Andreas Peschel “عندما تم ترك (مرسا) مع محلول lugdunin لمدة 30 يوما، لم تستطع هذه البكتيريا تكوين مواد مقاومة له، ما يعني إمكانية الإنتصار والقضاء على هذا النوع من الالتهابات المستعصية على العلاج بالمضادات الحيوية المعروفة”.
ومع ذلك، قال بيشيل إن “البكتيريا S.lugdunensis ليست بكتيريا مثالية من أنواع البروبيوتيك، لأنها قد تجعل بعض الأشخاص مرضى”، لذا يخطط الباحثون الألمان لجعل هذه البكتيريا أكثر آمانا عبر تعديلها وراثيا بجمعها مع بكتيريا أكثر اعتدالا.
والغالبية العظمى من المضادات الحيوية هي عبارة عن جزيئات صغيرة تهاجم إنزيمات البكتيريا، والبروتينات التي تنسق التفاعلات الكيميائية داخل الخلية، ووجد الباحثون أن عمل lugdunin مميز بأنه أكبر من ذلك بكثير، فطريقة عمله تنطوي على مهاجمة الغشاء الخلوي للبكتيريا، وهي طريقة غير مفهومة تماما. وقد يكون أسلوب عمل هذه المادة السبب بأن سلالات البكتيرية العنقودية الذهبية القادرة على تطوير مقاومة للمضادات الحيوية في التجربة لم تستطع خلال شهر في أنبوب اختبار تكوين مضادات، وأضاف بيشيل “لم يتم العثور على أي طفرات”.
عقاقير انتقائية
ثم قام الباحثون بفحص المادة المخاطية من أنوف 187 من مرضى المستشفيات، ووجدوا أن أنوفهم مستعمرة بـبكتيريا (مرسا) أو بكتيريا S. lugdunensis، ولكن ليس الإثنين معا، ويعتقد الباحثون أن نمو نوع منهما يمنع نمو النوع الآخر.
ووجد الباحثون السبب يكمن في عقار lugdunin، فعندما عبثوا بالجين المسؤول عن إنتاج هذا العقار في البكتيريا، لم تجد “مرسا” صعوبة في النمو والتكاثر. وبصورة أخرى فحدائق الإنسان الحيوية أو ما يسمى Microbiome، يوجد فيها نباتات عدة، ومنها هذه المادة تقضي على الأنواع الضارة والقاتلة.
وقال بيشيل “يمكن البحث في جسم الإنسان عن مضادات حيوية جديدة، وقد يصبح عقار lugdunin مثال على هذا النوع من العقاقير، وبدأنا بالفعل برنامج مسح كامل لجسم الإنسان”.
ولم يكن بيشيل وفريقه يبحثون عن مضادات حيوية جديدة في بداية أبحاثهم، بل كانوا يدرسون البكتيريا العنقودية الذهبية في بيئتها الطبيعية، وخصوصا في الأنف البشري، وقال بيشيل في هذا المجال “إذا كنت تريد أن تمنع تكاثر البكتيريا، تحتاج إلى فهم نمط حياتها”، وأضاف “لفهم ذلك، فنحن نبحث عن منافسيها”، وأشار إلى أنهم فحصوا “90 نوعا من البكتيريا الموجودة في الأنف البشري، وقد وجدوا أن الجرثومة S. lugdunensis تقتل الـ (مرسا) فقط”.
وتمكن هذا العقار بالإضافة إلى القضاء على هذه الجرثومة، من القضاء على البكتريا المكورة العنقودية البرتقالية S. aureus المقاومة لـ glycopeptide كما قضت على البكتيريا المقاومة للفانكومايسين vancomycin-resistant Enterococcus.
وقد تم الحصول سابقا من microbiome الإنسان على عدد قليل من المضادات الحيوية، مثل lactocillin، ويأتي من البكتيريا المهبلية، ولكن بالإجمال تعتبر بكتيريا التربة المصدر النموذجي لمضادات حيوية جديدة.
ويحتاج العلماء لمضادات حيوية جديدة عدة، إذ يواجهون إصابات مقاومة للعديد منها، وقد يستحيل علاجها في ما بعد، وقد تقدم العلماء الألمان بطلب براءة اختراع للعقار، على أمل تطويره وانتاجه صناعيا بالتعاون مع شركات دوائية، كما يحتاج عقار lugdunin إلى المزيد من الاختبارات لحين إتاحته للمرضى، ويمكن أن يثبت عدم نجاحه.