لن يستطيع عاصم عصام أبو رافع ضم ولديه إليه بعد اليوم، لن يستطيع أن يعود إليهم منتصرا على نيران التهمت أحراجا وأشجار، استطاع بيديه العاريتين واندفاعه إخمادها، وإبعادها عن المواطنين وبيوتهم وأرزاقهم، فقضى عن عمر 37 عاما، بالاختناق بدخان الإطارات المشتعلة بعد الحريق الأخير المفتعل لحرق نفايات في خراج بلدة شارون الجبلية في قضاء عاليه.

لم تكن المرة الأولى التي يقارب فيها أبو رافع الموت، فمنذ سنوات انقلبت به شاحنة الدفاع المدني وسط الحرائق، ونجا منها بأعجوبة بوسام تضحية متمثل بآثار حروق طاولت ذراعيه، ولم تحد هذه الحادثة من اندفاعه، وهو المتطوع دون مقابل لتبقى بالنهاية آثار الحروق على جسده وداخل رئتيه عنوانا للبذل اللامتناهي ودون حدود.

وغصت قاعة عيناب العامة بالرفاق والأهل والأقارب والمواطنين في وداع الشهيد أبو رافع، فلم تكفِ المقاعد الموجودة رغم كثرتها ليبقى في ساحة القاعة عديدون من محبيه وقوفا، ليُحمل بعدها على الأكف وسط تحية رفاقه في العطاء، ونثر الأرز والورود والدموع، وهو مسجى في سيارة اسعاف تابعة للدفاع المدني.

من عيناب بلدة جدته لأبيه التي ولد فيها إلى مثواه الأخير في بلدة الهلالية جبل لبنان قريته الأم، وضمن موكب مهيب من سيارات الدفاع المدني وعناصره من كافة المناطق اللبنانية وأهله وأصدقائه، علت أصوات أبواق سيارات الدفاع المدني، لتفسح لها السيارات الأخرى المجال، في عرس الشهيد الكبير.

وهنا يتبادر سؤال كبير إلى الأذهان، ما الذي يدفع هؤلاء المتطوعين والمتطوعات، وعديدهم يتجاوز 90 بالمئة من أفراد الدفاع المدني، للذود عنا في وجه المخاطر، في مهنة من أخطر المهن، ودون مقابل؟ إنه البذل والتضحية والعطاء بلا حدود.

Abi Rafeh

وأسوة بكل متطوعي هذا القطاع الحيوي، لم يتقاضَ أبو رافع أجرا على أي مهمة ومنها مهمته الأخيرة، بل دفع من ماله الخاص للوصول من عيناب إلى مركزه في صوفر، وتناول طعامه وشرابه من جيبه، ليدفع عن أهله في شارون مخاطر حريق كبير، وانبعاثات من إطارات مشتعلة بقيت آثارها في رئتيه، لتكون سبب وفاته.

إنه يوم حزين، أدمعت فيه عيون الرجال والنساء، على شاب قضى 16 سنة من حياته في خدمة بلاده، ولم تلتفت إليه وإلى زملائه الحكومات المتعاقبة، على الرغم من توقيع قرار تثبيت هؤلاء الأفراد ضمن الفئة الرابعة من موظفي الدولة، وامتدت المماطلة لتبقى عائلة شهيد الواجب الإنساني دون معيل، أو راتب، أو تعويض من تأمين أو ضمان يقيها شبح العوز والحاجة، وهو الذي كان يملك محلا لبيع المناقيش، ويعتاش منه دون منة الدولة.

وفي الدفاع المدني وبطولة رجاله ونسائه أخبار كثيرة، وفي معاناتهم أكثر، ومنها في يوم 23 تموز (يوليو) تعرض الأجير سهيل منذر لحادث خطير وهو يطفىء حريقا هائلا شب في أحراج بلدة دفون – قضاء عاليه، وكادت أن تصعقه الكهرباء خلال اطفائه النار باستعمال المياه، وكان قد مدد مواطنون شريط كهربائي لإمداد بيوتهم البعيدة بالكهرباء وقد ساعده رفاقه بالنجاة، ليتم نقله إلى المستشفى، ليبقى فيها ليومين تحت المراقبة الطبية الحثيثة من مراقبة لوظائف القلب وغيرها، وهو أقصى ما يناله هؤلاء الأجراء، وتحسم عطلة الأيام من رواتبهم، إن لم تكن بتقرير طبي، وإن أصيبوا بحروق واضطروا للعلاج في البيت، وخصوصا بعد إخراجهم من المستشفى بقرار طبيب الضمان، واضطروا لاستعمال الضمادات الطبية الخاصة بالحروق، فهذه تكون على نفقتهم الخاصة، فضلا عن أجور الأيام التي يتغيبون فيها قسرا.

خلال التشييع، اعتذر العديد عن الإدلاء بتصريح، وآثرنا عدم إحراج الكثيرين، ولكن سألنا متطوعات رفيقات لأبو رافع في الكفاح، منهن سالي بغدادي، نتالي نصر، ونغم حمية، ووسط تأثرهم بالمصاب الجلل قالت نصر: “لن تردعنا الحرائق والمخاطر وتخيفنا، ولكن دم أبو رافع برقبة وزير الداخلية والسنيورة وكل الذين ماطلوا في تثبيتنا جميعا، اللعنة على كل من ساهم بهذا الأمر”.

وعلى الرغم من الحزن والتأثر، لم ينس هؤلاء الأفراد واجباتهم، واتجه بعض أفراد الدفاع المدني ونقلوا مريضين إلى مستشفى قريبة بعد فقدانهم الوعي.

أمام المواطنة الصالحة والبذل، نجدنا بين نقيضين، من يقوم بواجبه على الرغم من كل العقبات، وبين من يدعي عدم وجود سيولة لدعم المواطنين، بينما يتم هدر المليارات على مشاريع وهمية، وفي قنوات الفساد، ونتساءل إلى متى؟ ومع فتح ملف الدفاع المدني ومعاناة أفراده ومتطوعيه وأجرائه فللحديث تتمة.

 

 

 

الناشر: الشركة اللبنانية للاعلام والدراسات.
رئيس التحرير: حسن مقلد


استشاريون:
لبنان : د.زينب مقلد نور الدين، د. ناجي قديح
سوريا :جوزف الحلو | اسعد الخير | مازن القدسي
مصر : أحمد الدروبي
مدير التحرير: بسام القنطار

مدير اداري: ريان مقلد
العنوان : بيروت - بدارو - سامي الصلح - بناية الصنوبرة - ص.ب.: 6517/113 | تلفاكس: 01392444 - 01392555 – 01381664 | email: [email protected]

Pin It on Pinterest

Share This