تتولد مياه الصرف الصحي من مصادر متعددة، فهي خليط من مياه المراحيض ومياه الغسيل والجلي والإستحمام وغسل الثياب، وكل أعمال التنظيف في البيت والمؤسسات والشوارع ومياه الأمطار، وتتكون من ما يزيد عن 95 بالمئة من المياه، و5 بالمئة فقط من ملوثات مختلفة النوع والطبيعة والكمية.

هذا التنوع في مصادر تولدها يؤدي إلى تعدد أنواع الملوثات التي تحتويها، تحتوي المياه المبتذلة على المواد العضوية والأجسام الدقيقة المُمْرِضَة والأملاح والمعادن والأمونيا ورواسب المبيدات وبقايا الأدوية الصيدلانية ونواتج أيضها، وملوثات كيميائية عالية السمِّية لجهة تعطيلها لجهاز الغدد الصماء. من بين كل هذا التنوع بالملوثات، يمكن اعتبار المعادن الثقيلة والجراثيم الممرضة هي الأكثر خطورة على الصحة العامة والبيئة. أما مواد النيترات والفوسفور فهي ملوث مهم إذا كانت المياه بعد المعالجة سيتم رميها في الأوساط المائية السطحية والبحر، حيث تؤدي إلى تلويث بالمغذِّيات، التي بدورها تخرب جودة المياه وتؤثِّر على الأحياء المائية عبر تخفيض كبير لكمية الأوكسجين الذائب فيها. وهي تكون موادا مقبولة، بل مغذِّية إذا كان الهدف استعمال المياه المعالجة في الريِّ الزراعي. وعليه يمكننا القول، أن وجهة استعمال المياه بعد المعالجة تحدد إلى درجة كبيرة نوع ومستوى المعالجة، ومستوى عمليات إزالة أو تخفيض تراكيز بعض الملوِّثات.

في كثير من الحالات، يتم رمي المياه المعالجة في أوساط مائية مستقبِلة، مثل النهر والبحيرة والبحر، حيث يجب أن تتوافق لناحية تراكيز الملوِّثات فيها مع لوائح المواصفات للتدفُّقات المسموح رميها في هذه الأوساط المائية، ولا سيما لجهة احتوائها على مؤشر “الحاجة البيولوجية للأوكسجين” BOD، الذي يحدد درجة التلوث بالمواد العضوية، ومؤشر المواد الصلبة العالقة الكلِّيَّة Total Suspended Solids TSS، والإس الحمضي pH، وعدد جراثيم “الكوليفورم”، ومستوى المغذِّيات (النيتروجين والفوسفور والبوتاسيوم).

إن بعض أنواع الملوِّثات، مثل المعادن الثقيلة والرواسب الصيدلانية والمواد الذائبة الكلِّية Total Dissolved Solids TDS، يمكن أن لا تشملها لوائح المواصفات، وهي مؤشرات ناشئة يجري درسها حديثا منذ سنوات قليلة لجهة آثارها على البيئة والصحة البشرية ووجهات استعمالها، وهي تؤثر على سلامة استعمالات المياه بعد المعالجة.

إن عمليات معالجة مياه الصرف الصحي هي مصمَّمة وموجَّهة بالمبدأ لكي تحسِّن نوعية المياه، بحيث تستجيب لمتطلِّبات أمان وسلامة وجهة الإستعمال المحدَّدة لهذه المياه بعد المعالجة.

تؤدي مختلف عمليات المعالجة إلى تخفيف تراكيز الملوِّثات في المياه. فهي تخفِّف محتواها من المواد الصلبة العالقة، التي من شأن جزيئاتها أن تلوِّث الأنهار وتعيق حركة المياه في القنوات والأنابيب بعد ترسُّبها.

وهي تخفِّف أيضا من محتوى المواد العضويَّة القابلة للتحلُّل الحيوي، التي تقاس بمؤشر “الحاجة البيولوجية للأوكسجين” Biological Oxygen Demand BOD. هذه المواد تشكِّل موادّاً غذائية للأجسام الدقيقة في الأوساط المائية، وعملية تحلُّلها تستهلك الأوكسجين الذائب في المياه، هذا الأوكسجين الضروري لحياة الأسماك والأحياء البحرية الأخرى. وهكذا، فإن الأوساط المائية الغنيَّة بالملوِّثات العضوية القابلة للتحلُّل الحيوي تكون غير ملائمة لحياة الأسماك، وبالتالي هي أوساط ميتة وخالية من الحياة المائية.

وتخفف كذلك من أعداد الأجسام الدقيقة المُمْرِضَة في المياه المبتذلة، وغيرها من مسبِّبات الأمراض من ديدان ويرقاتها وبيوضها. هذا النوع من عمليات المعالجة ضروري إذا كانت المياه المعالجة ستكون بشكل أو بآخر على تماس مع الإستعمالات البشرية.

وتخفِّف المواد المغذِّية، ولا سيما النيتروجين والفوسفور، التي تؤدي إلى نموٍّ كبير للطحالب، التي بدورها تصبح ثقلا تلويثيا إضافيا بالمواد العضوية القابلة للتحلُّل الحيوي، وبالتالي مستهلكا إضافيا للأوكسجين الذائب في المياه، الذي يعتبر شرطا رئيسيا لاستمرار الحياة في المنظومات البيئة المائية.

يمكن لعمليات المعالجة أيضا، أن تُزيل أو أن تُبطِل مفعول neutralize العديد من الملوِّثات الصناعية والكيماويات السامة. من حيث المبدأ، عمليات معالجة النفايات الصناعية والكيماويات السامة، يجب أن تتم في المؤسسات الصناعية نفسها، وأن لا ترمى في مجارير مياه الصرف الصحي دون معالجة، ودون أن تكون متوافقة مع لوائح المواصفات الخاصة بالتدفُّقات الصناعية المسموح رميها في مجاري الصرف الصحي.

في مجال إدارة المياه المبتذلة ومعالجتها، نتحدث عن ثلاثة مستويات رئيسة من المعالجة، كل مستوى منها يتضمن مجموعة من العمليات، ويستهدف نوعا محدَّدا من أنواع الملوِّثات الموجودة في هذه المياه. هناك من يتحدَّث عن عمليتين إضافيتين، واحدة في البداية وواحدة في النهاية، فيصبح عدد عمليات المعالجة خمس عمليَّات.

أولا، المعالجة التمهيدية (أو مرحلة ما قبل المعالجة) Preliminary treatment, pretreatment phase، تعنى هذه المرحلة بإزالة الأجسام الصلبة كبيرة الحجم عبر استعمال أشباك لالتقاطها ولإزالتها، وكذلك لترسيب الرمال والحصى من خلال تمرير المياه عند دخولها المحطة عبر هوَّة تسقط فيها المواد الصلبة الثقيلة قبل أن تتابع تدفُّقها إلى المرحلة اللَّاحقة. هذه المرحلة هي على أهمية بالغة لجهة حماية تجهيزات محطة المعالجة من الأعطال وخصوصا الأنابيب والمضخات.

ثانيا، المعالجة الأولية Primary treatment، وتسمَّى أيضا المعالجة الميكانيكية، وهي مرحلة ترسيب المواد الصلبة في أحواض الترسيب الأولية. وعادة تكون هذه الأحواض عريضة بشكل يسمح للمواد الصلبة الخفيفة والدهون والزيوت بأن تطفو على سطح الماء، بحيث يسهل كشطها وتنحيتها. إن الهدف الرئيس لهذه المرحلة من المعالجة هو الحصول على سائل متجانس قابل لأن يعالج بيولوجيا في مرحلة لاحقة، من جهة، ومن جهة أخرى، الحصول على وحول قابلة للمعالجة بشكل منفصل. تكون أحواض الترسيب عادة مجهزة بتجهيزات ميكانيكية تساعد على تجميع الوحول في قاع الحوض، ومن هناك يتم ضخَّها إلى المعالجة في المراحل التالية. وكذلك لإزالة المواد الطافية وتنحيتها من دفق المياه التي يتم معالجتها. وكذلك تجهيزات ميكانيكية لنقل المياه المتجانسة إلى المراحل التالية من المعالجة. تستعمل في هذه المرحلة الأولية بعض المواد الكيميائية لمساعدة المواد على الطَّفو على سطح الماء، وكذلك مساعدة المواد الصلبة على الترسب في القاع. تسمى الوحول المتولِّدة عن المعالجة الأولية، الوحول الأولية.

يمكن لهذه العملية أن تخفِّف مؤشِّر “الحاجة البيولوجية للأوكسجين” BOD، أي مستوى التلوُّث بالمواد العضوية القابلة للتحلُّل البيولوجي بما يزيد عن 20-30 بالمئة، وأن تخفِّف مؤشِّر المواد الصلبة العالقة الكلية TSS بما يزيد عن 50-60 بالمئة. المعالجة الأولية هي المرحلة الأولى من عمليات المعالجة، التي يليها عمليات أخرى.

ثالثا، المعالجة الثانوية Secondary treatment، وتسمَّى أيضا المعالجة البيولوجية Biological treatment. يمكن لها أن تزيل أكثر من 90 بالمئة من المواد العضوية الموجودة في المياه المبتذلة من خلال عمليات معالجة بيولوجية. وتزيل أيضا المواد العضوية الذائبة، التي تتفلَّت من مرحلة المعالجة الأولية. عملية المعالجة البيولوجية تقوم بها مجموعات من الأجسام الدقيقة (جراثيم) التي تستهلك المواد العضوية كغذاء لها، وتحوِّلها إلى النواتج النهائية لعمليات الأيض، ثاني أوكسيد الكربون والماء والطاقة، هذه الطاقة ضرورية لنمو الجراثيم وتكاثرها. تتم عملية المعالجة البيولوجية بالترافق مع عملية تهوية فعَّالة تزوِّد الحوض بكميات كبيرة من الهواء (الأوكسجين) لتسهيل عملية التفكُّك الهوائي للمواد العضوية.

بعد عملية المعالجة البيولوجية، يتم ضخ المياه إلى أحواض ترسيب ثانوية، حيث تنزل إلى القاع المواد الصلبة المتبقِّية والأجسام الدقيقة الحيَّة (الجراثيم). يتم التعامل معها بطريقة منفصلة عن السوائل التي تتابع انتقالها ليتم إخضاعها لعمليات التعقيم.

رابعا، المعالجة الثلاثية Tertiary treatment، تشمل عمليات المعالجة النهائية، التي تتم بهدف تحسين نوعية المياه لكي تستجيب لمستويات محددة. تتحقق هذه المرحلة المتقدِّمة من معالجة المياه عبر تقنيَّات متفاوتة التعقيد والدقَّة، مثل التخثُّر Coagulation، الترسيب Sedimentation، الرشح Filtration، التناضح العكسي Reverse osmosis. يمكن أن تشتمل على توسعة نطاق المعالجة الثنائية (البيولوجية) بعملية إزالة المغذِّيات. وهكذا يمكن الحصول على نوعية متقدمة من المياه باستخدام عمليات هادفة لإزالة ملوثات معينة، ولمزيد من تحسين جودة المياه.

تزيل مرحلة المعالجة الثلاثية ما يزيد عن 99 بالمئة من الملوِّثات الموجودة في المياه المبتذلة. يمكن لهذه العمليات عالية الكلفة أن تساعد على الحصول على مياه تتوافق مع مواصفات مياه الشرب.

أهم عملية من عمليات المعالجة الثلاثية هي عملية التعقيم. وهي الخطوة الأخيرة قبل أن تخرج المياه من محطة المعالجة. الوسيلة التقليدية لتعقيم المياه المعالجة هي “الكَلْوَرَة”، أي إضافة كمية مدروسة من الكلور، أو مركب كلوري، مثل هيبوكلوريت الصوديوم أو ما يسمى “ماء جافيل”، أو هيبوكلوريت الكالسيوم. الكلور يقتل طيفا واسعا من الجراثيم المُمْرِضَة. ولكن بالمقابل، هناك تحفُّظات كثيرة على استعمال الكلور للتعقيم، حيث أنه يتفاعل مع بقايا المواد العضوية في المياه المعالجة ليكوِّن بعض المركبات الكلورية العضوية، التي تتميز بنشاط مسرطن.

يستعمل أيضا، تعريض المياه للأشعة ما فوق البنفسجية، كوسيلة للتعقيم، ولكن هذه الطريقة لا تتمتع بالفعالية الكافية، وخصوصا عندما تكون المياه غير صافية كفاية، أو لا تزال تحتوي على بعض الجزيئات الصلبة.

يعتبر التعقيم بالأوزون الطريقة الأحدث والأعلى فعالية.

 

 

الناشر: الشركة اللبنانية للاعلام والدراسات.
رئيس التحرير: حسن مقلد


استشاريون:
لبنان : د.زينب مقلد نور الدين، د. ناجي قديح
سوريا :جوزف الحلو | اسعد الخير | مازن القدسي
مصر : أحمد الدروبي
مدير التحرير: بسام القنطار

مدير اداري: ريان مقلد
العنوان : بيروت - بدارو - سامي الصلح - بناية الصنوبرة - ص.ب.: 6517/113 | تلفاكس: 01392444 - 01392555 – 01381664 | email: [email protected]

Pin It on Pinterest

Share This