750 مليون دولار هي الكلفة التي قدّرتها اللجنة الوزارية المكلفة معالجة التلوّث في حوض نهر الليطاني. أي بمعدّل 4.4 ملايين دولار للكيلومتر الواحد. 200 مليون دولار فقط هو المبلغ المتوافر حالياً، بحسب اللجنة، ما يعني أن إنجاز «المشروع المتكامل» يحتاج إلى 550 مليون دولار إضافية. وعلى الرغم من الاجتماعات المُكثّفة التي يُجريها المعنيون من أجل «استحداث» حلول لتدارك الوضع المأزوم، والمُباشرة ببعض التدابير المُتفرّقة من قبل السلطات المحلية أخيراً، إلّا أن إنقاذ النهر الذي يفيض سموماً سيبقى منوطاً، وفق «قناعة» الحكومة، بالجهات المانحة، المصدر الوحيد لهذه المبالغ التي يصفها بعض البيئيين بـ{الخيالية». لم تُعرف الآلية التي استندت إليها اللجنة لتحديد هذه الكلفة. تُفيد المُعطيات بأن الدولة كانت على علم بحجم التلوث الذي يفتك بالنهر منذ أكثر من ست سنوات، لكنها لم تتخذ أي تدبير للحدّ منه وتفادي تفاقمه
خلال السنوات الأربع الماضية، سُجّل في بلدة القرعون البقاعية وجود 92 حالة إصابة بمرض السرطان، بحسب الدراسة التي أعلنها أخيراً رئيس «الهيئة الصحية الوطنية» الدكتور إسماعيل سكرية.
في بلدة حوش الرافقة في البقاع الشمالي، حيث يخترق أراضيها مجرى نهر الليطاني، تبيّن وجود 44 إصابة سرطانية، بحسب سكريّة. بالمقارنة مع دراسة إحصائية أُعدّت عام 2012، يتبيّن أن هذه الأرقام تضاعفت خلال 4 سنوات. في القرعون، زادت نسبة الإصابة بنحو 4,5 أضعاف (بمعدّل إصابة نحو 23 فرداً من بين ألف شخص). أمّا في حوش الرافقة، فتُبيّن الأرقام ارتفاع نسبة الإصابات بالسرطان بزيادة تصل إلى 2.5 أضعاف (إصابة 12 فرداً من بين ألف شخص). تخلص الدراسة إلى وجود علاقة قوية بين الارتفاع في نسب الإصابة بالسرطان ومناطق حوض الليطاني الذي يمتدّ على مساحة تُقدَّر بـ 2175 كيلومتراً مربعاً، أي نحو 20% من مساحة لبنان.
يجري نهر الليطاني بطول 170 كلم من غرب بعلبك إلى البحر المتوسّط في شمال صور، وتبلغ سعة تخزين بحيرة سدّ القرعون نحو 220 مليون م3، يُستخدم 160 مليوناً منها سنوياً للريّ وتوليد الطاقة، ونحو 60 مليوناً كمخزون للموسم الجاف. الانطلاق من هذه المُعطيات يُعدّ ضرورياً للحديث عن حجم الضرر الصحي والبيئي الذي يُحدثه تلوّث النهر الأكبر والأطول في لبنان. هذا الضرر كانت “الدولة” على علم به منذ أكثر من ستة أعوام.
يؤكّد المسؤول عن الملف البيئي في برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP) إدغار شهاب، أن برنامج الأمم المتحدة أعدّ مسحاً شاملاً للمجرى عام 2010، وسلّم تقريراً للحكومة يعرض فيه مكامن الخلل والمشاكل التي يعانيها النهر، من ضمنها حالة محطّات التكرير التي كانت من مسؤولية مجلس الإنماء والإعمار.
عام 2013، أنجز المجلس الوطني للبحوث العلمية “خطّة متكاملة لتأهيل النهر من المنبع إلى المصبّ”. يقول الأمين العام للمجلس الدكتور معين حمزة، إن “هناك العديد من التقارير والدراسات التي أعدها المجلس وسلّمها للحكومة ومجلس الإنماء والإعمار”. أين هذه الخطط؟ يقول حمزة إنّ الإجابة عند المسؤولين، مُشيراً إلى أنه لم يكن هناك قرار سياسي بمعالجة النهر في تلك الفترة.
تقول وزارة البيئة إنه خلال هذه الفترة كانت تجمع الدراسات والتقارير، لافتةً إلى أنها أعدّت خطة عمل لمكافحة التلوّث عام 2013 بالتعاون مع الوزارات المعنية. في السنة نفسها، طلبت حكومة لبنان من البنك الدولي مُساعدات لتنفيذ الخطة، إلا أن البنك لم يُعطِ موافقته إلا الشهر الماضي، مُتأخراً بذلك عن طلب الحكومة ثلاث سنوات.
في 14/7/2016، وافق البنك الدولي على قرض بقيمة 55 مليون دولار لـ”مكافحة التلوث في بحيرة القرعون ونهر الليطاني ولاستكمال شبكات الصرف الصحي في زحلة والقرى المُجاورة، بالإضافة إلى عنجر والمرج والقرى المجاورة”، بحسب وزارة البيئة. تردّ الاختصاصية الأولى للبيئة والمياه في البنك الدولي ماريّا الصرّاف، سبب التأخير إلى “الشلل السياسي والتأخيرات الطويلة في تصديق البرلمان على مشاريع أخرى ممولة من البنك (كسدّ بسري مثلاً)، ما دفع البنك إلى تجميد المُساعدة لمدة عام”. وتُضيف في هذا الصدد: “عملية التفاوض جرت بنجاح بين وزارة المال والبنك الدولي في أيار من عام 2015″، مُشيرةً إلى أن إعداد مشروع البنك الدولي استغرق نحو 18 شهراً. وبحسب الصرّاف، إن الحصول على هذا المبلغ يتوقف على تصديق المشروع في البرلمان اللبناني.
يقول وزير البيئة محمد المشنوق، إن وزارة البيئة تعمل على مرحلة ثانية للمشروع بقيمة 80 مليون دولار، “نأمل من البنك الدولي أن يوافق عليها”، فهل يدرس البنك خيار إعطاء قرض أو مساعدات ثانية؟ تكتفي الصرّاف بالقول إن المبلغ المطلوب للحدّ من التلوّث في بحيرة القرعون يبلغ نحو 255 مليون دولار، مُشيرةً إلى أن القرض خُصّص للأولويات. “على سبيل المثال، المشروع سيموّل بناء شبكة الصرف الصحي، وهذا سيقلل من كمية مياه الصرف الصحي الخام التي تصبّ في نهر الليطاني. كذلك سيموّل المشروع أيضاً حملة تنظيف لإزالة القمامة من ضفة النهر، فضلاً عن التدخلات مع المزارعين في البقاع لتشجيع الحدّ من استخدام الأسمدة والمبيدات الحشرية في الزراعة”.
يقول المشنوق إن موافقة البنك على هذا القرض أعطى ثقة و”مشروعية” للخطة، آملاً من الجهات المانحة أن تحذو حذو البنك الدولي. وبحسب المشنوق، إن معالجة الحوض العالي لنهر الليطاني مخصص له 165 مليون دولار (55 مليوناً من البنك الدولي و110 ملايين من بعض الجهات المانحة). أما القسم الجنوبي للمشروع، “فإنّ الحديث يجري حول هبة مُقدّمة من الصندوق الكويتي ومُقدّرة بنحو 100 مليون دولار”، ما يعني أن المبلغ المتوافر حالياً 265 مليون دولار.
خلال اجتماع اللجنة الوزارية المخصصة لمكافحة التلوث، قدّرت اللجنة الكلفة المطلوبة لمعالجة النهر بـ 750 مليون دولار، لافتة إلى أن “الموجود من المبلغ مُقدّر بنحو 200 مليون دولار فقط”. اللافت أن خطة الحكومة لمكافحة تلوث بحيرة القرعون (التي استند إليها البنك الدولي) كانت قد حدّدت تكلفة معالجة التلوث في بحيرة القرعون بنحو 255 مليون دولار، فلماذا الحديث عن 750 مليون دولار؟
عام 2014، نال اقتراح قانون “تخصيص اعتمادات لتنفيذ بعض المشاريع وأعمال الاستملاك العائدة لها في منطقة حوض نهر الليطاني من النبع إلى المصبّ” موافقة لجنة المال والموازنة النيابية من أجل تخصيص اعتمادات بلغت نحو 1100 مليار ليرة (نحو730 مليون دولار)، على أن تُنفّذ الأعمال خلال مدة 7 سنوات وتُغطّي الاعتمادات من طريق الهبات والقروض والاعتمادات التي سترصد سنوياً في الموازنة.
فعلياً، زاد هذا القانون على الكلفة التي حددتها خطة الحكومة لمكافحة تلوث بحيرة القرعون أكثر من 400 مليون دولار. وإذا كان هذا القانون قد حدد الاعتمادات بنحو 730 مليون دولار، فلماذا قدّرت اللجنة الوزارية الكلفة المالية بـ 750 مليون دولار؟ وما مصير التقارير السابقة المعدة من قبل مركز البحوث العلمية وآراء الاستشاريين البيئيين وتقرير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي؟ وما هي الخطط الحالية التي ستعتمدها اللجنة وستستند إليها الحكومة؟
تُجمع التقارير العلمية الميدانية على مصادر التلوث الرئيسية الأربعة للنهر، وهي: مياه الصرف الصحي، النفايات الصلبة، النفايات الصناعية والمصانع (مخلفات المرامل والكسارات)، والمواد الزراعية الكيماوية.
يقول الخبير البيئي الدكتور ناجي قديح، المُكلف من قبل المدعي العام البيئي في الجنوب القيام بكشف ميداني على مصادر التلوّث وإعداد تقرير يتعلق بكيفية تغير نسب التلوّث، إن الحكومة ليست مُلزمة بأن تدفع تكاليف معالجة جميع مصادر التلوث. يتساءل قديح: “لماذا علينا أن ندفع نحن المواطنين، كي نعالج ما خلّفته المرامل والكسارات والمصانع التي جنَت ملايين الدولارات على حساب النهر؟”، مُشيراً إلى أن الأرقام التي يجري الحديث عنها كأكلاف لمكافحة التلوّث “خيالية”. يرى قديح أن الخطة التي تستند إليها الحكومة لمعالجة النهر غير واضحة المعالم، “ولا ندري كيف تتطور هذه الأرقام وترتفع تصاعدياً بهذا الشكل.
فعلياً، تُعَدّ “الدولة” هي المسؤولة عن مصادر التلوث. الإهمال المتعمد وغضّها النظر عن أكثر من 600 مصنع في منطقة البقاع تُرمى مخلفاتها في النهر، أو حتى “حماية” المرامل المنتشرة حول الحوض، أو تجاهلها لممارسات البلديات التي وجّهت مياه الصرف الصحي الخاص بها إلى النهر. هذه الإجراءات تجعلها المُسبب الأول لتلوّث النهر، وتطرح تساؤلاً جدياً عن الإرادة الفعلية للقوى السياسية من أجل التصدي لمكامن الخلل.
حالياً، يقتصر العمل على معالجة نهر الليطاني على بعض المبادرات التي تقوم بها السطات المحلية. جنوباً، يقول رئيس الحملة الوطنية لمكافحة التلوث في نهر الليطاني، رئيس بلدية زوطر الجنوبية حسن عز الدين، إن البلديات في تلك المنطقة تسعى إلى اتخاذ مبادرتها لإقامة محطات تكرير خاصة بها، واتخاذ إجراءات لتنظيف أرضية النهر وجزء من مجراه “بعدما أضحى النهر مجروراً للبلديات”.
بقاعاً، يقول محافظ مدينة بعلبك ــ الهرمل بشير خضر لـ”الأخبار”، إن البلديات عاجزة عن اتخاذ أي خطوات فردية، إذ “لا ميزانيتها تسمح، ولا هي على علم بالخطوات الواجب اعتمادها لمكافحة التلوث الذي يفتك بصحة أبناء البقاع”.
يقول حمزة في هذا الصدد إن معالجة تلوث نهر الليطاني لا تستقيم إلا بخطة متكاملة تبدأ من المنبع إلى المصب، “وأي حلول مجتزأة لا يعوَّل عليها”.
يقول الخبير الهيدروجيولوجي فتحي شاتيلا، إنه على مدى أربع سنوات، تجاهلت كل من وزارة الطاقة والمياه ومجلس الإنماء والإعمار كل الدراسات والتقارير التي أكّدت ارتفاع نسبة التلوث في بحيرة القرعون، “مُصرّةً على إمكانية معالجة هذا التلوث بطرق تقليدية غير مُكلفة”. هذا التجاهل ينبع، بحسب شاتيلا، من إصرار “الطاقة” على تنفيذ مشروع جرّ 50 مليون متر مكعّب سنوياً من مياه نهر الليطاني المخزنة في بحيرة القرعون والمحولة عبر نفق إلى نهر الأولي لتزويد بيروت الكبرى بالمياه بمبلغ قدره 200 مليون دولار. ويرى شاتيلا أن “من المدهش أن مجلس الإنماء والإعمار والمسؤولين الذين أثاروا مسألة تلوث نهر الليطاني أغفلوا الإشارة إلى أن مياه نهر الليطاني الملوثة هي نفسها التي أصرا على جرّها بواسطة نفق ينتهي العمل به عام 2017”.