قبل نحو ثلاثين سنة، لم تعرف المناطق الجبلية في لبنان “مكيفات الهواء” Air conditioners، لسبب بسيط، وهو أنه لم تكن ثمة حاجة إليها، ولعل كثيرين يتذكرون أن السهر ليلا في مناطق الاصطياف كان يتطلب ارتداء “كنزة الصوف” لاتقاء البرد، وفي مناطق قليلة الارتفاع نسبيا.
إن مقارنة بين الأمس واليوم، تؤكد أن تبدل المناخ بات واقعا ملموسا بكل تبعاته، دون الحاجة إلى دراسات واستنتاجات، وفرض على الناس التكيف معه، خصوصا بالنسبة لمن عايشوا مرحلة ما قبل السبعينيات.
جنة مصطنعة!
من أجواء مفعمة بالحياة من على مصاطب البيوت العتيقة والجنائن والشرفات ومقاهي الصيف، إلى العيش في غرف مقفلة مكيفة، تبدلت أنماط الحياة، فصار الهروب من الحر في الجبال إلى أجواء تلطف من حرارة الصيف داخل البيوت، نوعا من استحضار “جنة مصطنعة”، وخسرنا ميزة سيترتب على فقدانها الكثير من الأمراض، دون أن ننسى أن تغير المناخ ترافق منذ الحرب الأهلية (1975) بخسارة لبنان مساحات شاسعة من الغابات والأحراج.
ولم يعد ثمة اصطياف كما عهدناه سابقا، بمعنى أن من يقصد الجبال هربا من الحر ينطبق عليه القول العربي المعروف “كالمستجير من الرمضاء بالنار”، وبات الاعتماد على جذب “المصطافين” يفترض اعتماد معايير جديدة، كالترفيه وغير ذلك من خدمات سياحية، فيما كان طيب المناخ هو الجاذب للناس ليس من لبنان فحسب، وإنما من مختلف دول العالم، وبشكل خاص من دول الخليج العربي.
صيف بائس
ولكن، وسط الواقع القائم تتبدى حقيقة صادمة، وهي أن مكيفات الهواء تعمل ضد طبيعة الجسم البشري، فالتبريد الصناعي، بحسب عالم البيئة ستان كوكس Stan Cox، جعل الصيف يتحول إلى “صيف البائس”.
ويرى كوكس وهو مؤلف كتاب “فقدان البرودة: حقائق غير مريحة حول تكييف الهواء” أن تشغيل مكيفات الهواء يطلق 100 مليون طن من ثاني أوكسيد الكربون كل عام وكمية أكبر من الـ “هايدروفلوروكاربون” hydrofluorocarbon (HFC) الذي يساهم في زيادة مشكلة الاحتباس الحراري.
ويؤكد أن “تراكم هذا الغاز يؤدي إلى فصول صيف أكثر حرارة – فقد كانت آخر 6 فصول صيف الأكثر حرارة منذ 120 عاما”، ويضيف “لذلك، عندما تحاول التغلب على الحر من خلال تشغيل مكيف الهواء، فأنت في الحقيقة تزيد الأمور سوءا، وذلك أن أجسادنا تتأثر أيضا بنظام تبريد الهواء، ما يجعلنا نشعر أن أيام الصيف الحارة قد أصبحت أكثر حرارة. إن درجة الحرارة المريحة والمناسبة لنا متغيرة بناء على ما اعتدنا عليه، وهذا يفسر اللغز وراء شعورنا بالراحة عندما يأتي يوم ربيعي بدرجة حرارة 20 مئوية بعد شتاء بارد، ولكننا نسارع الى ارتداء معاطفنا عندما يأتي يوم بدرجة حرارة 20 مئوية بعد فصل صيف حار”.
تكاثر البكتيريا
وبحسب كوكس، يمكن لتكييف الهواء أن يجعلنا بدناء أيضا، وذلك لأن هرمون الكورتيزول الذي يفرزه الجسم عند الاستيقاظ من أجل تنشيط الجسم يتم إفرازه بعد ساعتين من الاستيقاظ عند الأشخاص الذين يعيشون تحت رحمة مكيفات الهواء طوال اليوم كما اكتشفت دراسة يابانية.
أما المشاكل الصحية التي يمكن أن تتسبب بها أنظمة التبريد فهي مخيفة إلى حدا ما، حيث يمكن لوحدات التكييف التي لا يتم تنظيفها بشكل دوري ان تصبح وسطا مناسبا لتكاثر البكتيريا والعفن الاسود والفطريات التي يمكنها تدمير صحتك اذا ما أصبحت تنتقل عن طريق الهواء. وإذا ما عدنا بذاكرتنا الى الوراء نستطيع أن نستذكر كيف كان نظام التكييف في فندق جنوب برونكس مسؤولا عن تفشي “مرض الفيالقة القاتل” deadly legionnaires disease الصيف الماضي، ما أدى إلى مقتل 12 رجلا.
وعلى الرغم من أن هذه الحالة متطرفة نوعا ما – إلا أننا نسمع عن الكثير من الناس الذين يعتقدون أن تكييف الهواء هو السبب وراء مضاعفة أعراض الحساسية او الربو لديهم، أو تجفيف أعينهم او التسبب بالصداع والشعور بالتعب بشكل عام. هؤلاء الاشخاص ليسوا متوهمين، فقد أظهر العلم أن الأشخاص الذين يعملون في المباني المكيفة يشكون من هذه الأعراض أكثر من غيرهم. ويقول كوكس: “إن الأشخاص الذين يعملون في المكاتب المكيفة يزورون الأطباء أكثر من غيرهم ويبقون في المستشفيات لمدة أطول. يبدو أنهم يتمتعون بصحة أضعف نوعا ما مقارنة بغيرهم”.