تُجمع كل الدراسات والتقارير بشأن تلوث نهر الليطاني وبحيرة القرعون، وكذلك كل الباحثين والمتابعين لهذا الموضوع في لبنان، على أن أسباب ومصادر التلوث معروفة.
تدفقات المياه المبتذلة من شبكات المجارير، التي تخدم حوالي نصف سكان منطقة حوض الليطاني الشمالي، أي من منابعه وروافده حتى بحيرة القرعون، والجنوبي، أي من سد القرعون حتى مصبه في القاسمية، وغير المربوطة بمحطات للمعالجة، مما يؤدي إلى رمي ملايين الأمتار المكعبة من المياه الملوثة في حوض النهر. وكذلك تسربات المياه المبتذلة، المصروفة في حفر يطلق عليها إسم “صحية”، وهي ليست كذلك، لا هندسيا ولا بيئيا ولا صحيا، لما تبقى من السكان.
انتشار واسع لمكبات النفايات الصلبة المنزلية وغير المنزلية العشوائية في مختلف المناطق، حيث تتسرب عصارتها وملوثاتها، بشكل مباشر وغير مباشر، في حوض النهر. وكذلك عصارة المكبات المسماة مراقبة، أو المطامر “الصحية”، التي ترمى دون معالجة في حوض النهر ومجراه وروافده.
النفايات الصناعية الصلبة، حيث يرمى معظمها مع النفايات المنزلية، ويكون مصيرها نفس المصير، في المكبات العشوائية أو المطامر، أو الحرق العشوائي هنا وهناك في الطبيعة وخلف التلال وفي السهل. ولكن ما هو مصير تدفقات النفايات الصناعية السائلة؟ فهي ترمى في المنخفضات أو في روافد النهر أو في مجراه مباشرة، مما يشكل ثقلا كبيرا من التلوث العضوي والجرثومي، يضاف إلى التلوث الآتي من المياه المبتذلة وعصارة النفايات الصلبة من كل أنواع المكبات المترامية في المنطقة. إضافة إلى أن تدفقات النفايات الصناعية السائلة تشكل مصدرا مهما للتلوث بالمواد الكيميائية والمعادن الثقيلة ومركباتها العضوية وغير العضوية، الذائبة وغير الذائبة، مسببة تلوثا كيميائا هاما للنهر والبحيرة معا.
مياه المطر المتسربة من المزارع والأراضي الزراعية، حيث الإستعمال الواسع وغير الرشيد للأدوية والأسمدة الزراعية، مما يؤدي إلى الإسهام الكبير في تلويث النهر وحوضه.
الرمول وترسبات الطين والطمي الناتجة عن عمل المرامل ومغاسل الرمل على ضفتي نهر الليطاني في قسمه الجنوبي، من سد القرعون حتى مصبه في القاسمية، وكذلك المرامل التي تنهش الجبال الواقعة في حوض النهر، وترتبط مائيا بمجراه عبر الينابيع الجارية، وعبر مجاري السيول المتوجهة إليه.
كيف نتصدى للكارثة البيئية والصحية المتأتية عن التلوث الكبير الذي وصل إليه نهر الليطاني بقسميه الشمالي والجنوبي وبحيرة القرعون؟
نرى أن ثمة ضرورة لتطبيق خطة فورية لوقف مصادر التلوث بكل أنواعها، والإرتكاز على التشريعات والإحتكام للقوانين والأنظمة البيئية وغير البيئية، التي تنظم عمل كل تلك القطاعات الملوثة، ولا سيما منها قطاعي الصناعة واستخراج الرمول. إضافة لمعالجة المياه المبتذلة في كل المناطق، منعا لرميها دون معالجة في مجاري النهر وروافده وحوضه. وترشيد استعمال الأدوية والأسمدة الزراعية، وتشجيع استعمال البدائل البيولوجية غير الملوثة، واستراتيجيات مكافحة نباتية متكاملة أقل تلويثا للبيئة عموما، وللنهر وحوضه بشكل خاص.
يبدو أن تفاؤلنا الذي عبرنا عنه في الأسابيع الماضية كان في محله، وهذا مدعاة للإرتياح، ونعيد التأكيد عليه الآن مع تقديرنا لمبادرات وزير الصناعة، ومعه وزير البيئة في خطوتين جريئتين في الإتجاه الصحيح. الأولى، دعوة الصناعات الكبيرة من الفئة الأولى، وهي محدودة العدد، ولكنها مساهم كبير في توليد كميات من تدفقات النفايات الصناعية السائلة، التي تُصرف، بمعظمها دون معالجة فعَّالة في الطبيعة، بحرا ونهرا وتربة، وتسبب بذلك تلويثا هاما لهذه الأوساط وللبيئة عموما، بما يترافق مع تهديدات جدِّية للصحة البشرية في العديد من المناطق، بما فيها مناطق حوض الليطاني بقسميه الشمالي والجنوبي وبحيرة القرعون.
نحن نرى في هذه الدعوة، خطوة سليمة، مترافقة بسياسة مُواكَبَة، قوامها سلسلة من المحفِّزات والتسهيلات، بما فيها تسهيلات مالية هامة عبر وزارة المالية ومصرف لبنان، وكذلك البنك الدولي ووكالة التعاون الإيطالية، لتوفير قروض ميسَّرة، بل ومعفية من الفوائد، تسهِّل على الصناعيين القيام بواجباتهم، وبما يمليه عليهم القانون، بأن يعالجوا نفاياتهم السائلة وغير السائلة قبل التخلص منها في الطبيعة وفي الأوساط البيئية المختلفة، بحرا ونهرا وحوضا مائيا. وذلك في إطار تنفيذ مشروع “دعم مكافحة التلوث البيئي في لبنان”، الذي يتلخَّص بدعم الصناعة اللبنانية على معالجة نفاياتها وتخفيف التلوث، الذي تحدثه للبيئة، والإلتزام البيئي الشامل من جهة، ومن جهة أخرى، تطوير قدرات وزارة البيئة على الرصد والمراقبة والإلزام.
والثانية، تتلخص باجتماع وزير الصناعة اليوم مع الصناعيين في منطقة البقاع، ليبحث معهم خطة معالجة نفاياتهم الصناعية السائلة قبل التخلص منها ورميها في النهر وحوضه. وكذلك دعوتهم للإستفادة من تقديمات وتسهيلات المشروع المذكور.
مع ترحيبنا بهذا الجهد، ولو أنه جاء متأخِّرا جدا، لا بد من التأكيد على أنه من غير المقبول الإستمرار بالسكوت على تلويث البيئة، بحرا ونهرا وهواء وطبيعة ومواد غذائية، من قبل مصانع ترمي نفاياتها السائلة وغير السائلة دون معالجة.
لا أعذار ولا حجج مقبولة، بل نقول للجميع، إن المصنع الذي يعجز عن معالجة نفاياته، هو غير جدير بالإستمرار بنشاطه الصناعي، فليقفل مصنعه ويذهب لممارسة أي عمل آخر.
لم يعد مقبولا أن تحقق المصانع، كل المصانع، كبيرة ومتوسطة وصغيرة، أرباحها وميزانها المالي على حساب تلويث البيئة ومواردنا المائية والطبيعية، وتهديد السلامة العامة والصحة العامة أيضا بأكبر المخاطر.