لا شك أن عالم الإنترنت الواسع أتاح مساحة وإمكانيات كبيرة للحصول على المعلومات، فضلا عن التواصل، ما لم يكن متاحا للباحثين والأفراد، خصوصا في التعبير عن آرائهم والوصول إلى المعلومة بشكل أسهل وأسرع، وكان الإنسان يعتمد على ذاكرته، أما الآن فإن هذه العملية تتم بالإعتماد على التكنولوجيا، فلم يعد مطلوبا تذكر أرقام الهواتف، الإتجاهات والعناوين، تواريخ أعياد الميلاد والمعلومات الطبية، فهي على بعد كبسة زر من الهاتف أو الكمبيوتر، عبر محرك البحث “غوغل” Google وغيره من محركات البحث.
ولكن مع الاعتماد المتزايد على شبكة الإنترنت وسهولة الوصول إلى المواد الهائلة المتاحة من دراسات ومعلومات، فإن هذا الأمر بدأ يؤثر على عمليات التفكير الإنساني، وخصوصا لجهة حل المسائل، فضلا عن التذكر والتعلم، ولذلك، فإن دراسة الذاكرة حصرا في حالة عدم وجود شبكة الإنترنت من شأنه أن يوفر نسخة محدودة لمعرفة كيفية التخزين والوصول الى المعلومات.
وفي دراسة جديدة، نشرت في مجلة “ذاكرة” Memory وجد الباحثون في “جامعة كاليفورنيا – سانتا كروز” the University of California, Santa Cruz، و”جامعة إلينوي – أوربانا شامبين”University of Illinois Urbana Champaign أن عملية “التفريغ المعرفي” cognitive offloading، وتعني الميل إلى الاعتماد على أشياء مثل الإنترنت كمساعد للذاكرة تزداد بعد كل استعمال لهذه الشبكة.
وقد نعتقد أن الذاكرة هي ما يحدث في الدماغ فحسب، ولكنها أصبحت على نحو متزايد تحدث بالمساعدة مع أشياء خارجه، وأجرى بنجامين ستورم Benjamin Storm، وشون ستون Sean Stone وآرون بنجامين Aaron Benjamin التجارب لتحديد احتمال توجهنا إلى جهاز الكمبيوتر أو الهاتف الذكي للإجابة على بعض الأسئلة.
وفي الدراسة التي جمعت 140 طالبا من الجامعتين، تم تقسيم المشاركين إلى مجموعتين، للرد على 16 سؤالا تافها انما صعبا، واستخدمت المجموعة الأولى من المشاركين الذاكرة فقط، والمجموعة الثانية استخدمت “غوغل”. ثم أتيح للمشاركين خيار الإجابة على الأسئلة الأسهل لاحقا عبر اختيارهم أي طريقة يرغبون بها.
وكشفت النتائج أن المشاركين الذين استخدموا سابقا الإنترنت للحصول على معلومات، كانوا أكثر استعدادا للعودة إلى Google للإجابة عن أسئلة طرحت عليهم لاحقا من أولئك الذين يعتمدون على ذاكرتهم فقط، كما أمضى المشاركون وقتا أقل لاستخدام ذاكرتهم قبل استخدام شبكة الإنترنت، ولم يكن من المرجح أن يقوموا بذلك مرة أخرى فحسب، بل كانوا من المرجح أن يقوموا ذلك بسرعة أكبر، وفشل 30 بالمئة من المشاركين باستخدام الإنترنت وبشكل ملحوظ، في محاولة الإجابة عن سؤال واحد بسيط بالاعتماد على الذاكرة.
ويعمل الإنترنت كشريك في ذاكرة مؤقتة transactive memory partner أو “وسيلة مرتبطة بالذاكرة”، حيث نتذكر كيفية الوصول إلى المعلومات لا المعلومات نفسها، ما يعني أن المشاركين وعند مواجهتهم سؤالا لا يعرفون الإجابة عليه، يتجهون إلى محركات البحث، ويختارون كلمات البحث ليجدوا إجاباتهم، وهذا الإتجاه في اعتماد الإنترنت كوسيلة رابطة للذاكرة تتأثر بتجاربهم الأخيرة في استعمال الإنترنت، خصوصا لجهة سهولة وسرعة الحصول على المعلومات.
وعلق معد الدراسة الرئيسي الدكتور بنجامين ستورم أن “الذاكرة تتغير، وأبحاثنا تشير إلى أنه عند استخدام الإنترنت لدعم وتوسيع ذاكرتنا نصبح أكثر اعتمادا عليه، وكنا في السابق نحاول أن نتذكر أمرا ما، أما الآن فلا نحاول ولا نتحمل عناء التذكر، ويعتبر توافر المزيد من
المعلومات عبر الهواتف الذكية وغيرها من الأجهزة، سببا بأننا أصبحنا تدريجيا أكثر اعتمادا عليها في حياتنا اليومية”.
وتشير نتائج الدراسة إلى أن استخدام الإنترنت كمصدر للمعلومات يؤثر على مدى استخدام الشخص للإنترنت كمصدر للمعلومات في المستقبل، خصوصا أولئك الذين استخدموا شبكة الإنترنت من المرة الأولى، وسرعة الاتجاه للحصول على المعلومات عبر الشبكة، وبمعدل الضعف عن أولئك الذين اعتمدوا على الذاكرة، ويبقى السؤال إن كان الإعتماد على الإنترنت في الحصول على المعلومات يؤثر على استخدام المصادر الأخرى للمعلومات مثل الكتب، والأشخاص الآخرين؟
وعلى الرغم من احتواء الإنترنت على معلومات خاطئة أحيانا كثيرة، إلا أن المعلومات تتجدد بشكل مستمر مع تجمع المزيد منها، كما أن فهم الطرق التي تسمح للناس بتجربة الإنترنت دون زيادة الاعتماد عليه، والطرق التي نستخدم فيها التكنولوجيا لتفريغ الذاكرة والإدراك، سيكون بالغ الأهمية في بناء نماذج لفهم كيفية عمل وظائف الذاكرة في الظروف الطبيعية، ومع “تمدد” وتوسيع الذاكرة، على هذا النحو، يؤكد الباحثون ضرورة تطوير النماذج المستعملة لفهم هذه العملية وتأثيراتها، فضلا عن تحديد معالم التكاليف والفوائد المترتبة من استخدام الإنترنت بوصفه مصدرا للمعلومات، وهو ما يشكل توجها هاما للبحث في المستقبل.