انطلق قطار الانتخابات المحلية الفلسطينية قبل موعده، لجهة التوقيت الفعلي المتوقع تأجيله، أو لجهة الظروف الموضوعية لعملية «ديموقراطية» في أرض محتلة كالضفة، أو محاصرة كغزة. كل ما يجري يشبه تحدياً بين تنظيمين كبيرين أنهكتهما أخطاؤهما وحروب الإسرائيلي وكيده، أكثر من كونها انتخابات ستفرز مجالس خدماتية تعمل تحت شروط الاحتلال
رام الله ــ غزة | منذ أن أطلق رئيس السلطة الفلسطينية، محمود عباس، صفّارة العملية «الديموقراطية» المؤجلة في مناطق السلطة، يصرّ مَن هم حوله على إسماعه ضرورة أن تأجيل انتخابات البلديات والمجالس المحلية حتى تستعدّ حركته لها، فيما يبدو مصرّاً على بدئها في موعدها.
جاء الرد من حركة «حماس» بموافقة مشوبة بالحذر، خاصة أنها لا تريد أن تسلّم عباس حجة عرقلة الانتخابات بعدما وافقت على إجرائها في قطاع غزة، ولعل القرار الحمساوي غيّر في حسابات «أبو مازن» كثيراً.
ففي المعنى السياسي، إجراء الانتخابات في غزة هو بلا شك اعتراف بسيطرة «حماس» على القطاع، رغم أن حضور حكومة التوافق هناك، ومفاتيحها الرئيسية في رام الله. هذا يعني أيضاً أن أجهزة أمن «حماس» هي التي ستوفر الأمن للعملية الانتخابية، بل كذلك ستكون النتائج خاضعة للقرارات الصادرة عن المحاكم التي تعمل في القطاع، شأنها شأن الملفات الأخرى كالحج وامتحانات الثانوية المفروضة، بحكم الأمر الواقع.
لا تحمل هذه الانتخابات أهميتها من الناتج منها كمجالس بلدية ومحلية، بل لأنها الأولى التي تُجرى في فلسطين المحتلة بعد أحداث الانقسام الداخلي عام 2007، لذلك تختلف أهميتها بالنسبة إلى «حماس» و«فتح» ضمن اعتبارات عدة، فالأولى تصبّ جلّ اهتمامها في الضفة المحتلة، التي منعت من العمل السياسي والتنظيمي فيها طوال سنوات، ويتكرر هذا التقدير مع الثانية التي يُضيَّق عليها في غزة، وتعاني انقساماً داخلياً حاداً.
قبل أن تجهز صناديق التصويت أو يحدَّد موعد للانتخابات وحملاتها الدعائية، انطلقت عبر منابر الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي تصريحات وتصريحات مضادة، فضلاً عن إنتاجات دعائية مسبقة. بدا فعلاً أن كل طرف لا يألو جهدا في ضبط حساباته بدقة للظفر بأكبر قدر ممكن من النتائج، خاصة لو فهم أنها مؤشر على الرضى الجماهيري عن المشروعين المتناحرين في طرفي الوطن، وإن كانت ثمة تقديرات ترى أن البلديات قضية خدماتية لن تشبه نتائجها بالضرورة الحالة التشريعية والرئاسية.
وظهر للجمهور أن أجواء منافسة شديدة تدور رحاها، بداية في مواقع التواصل الاجتماعي، التي تصدرتها الوسوم الانتخابية، مثل (#غزة_أجمل) و(#جاهزين) و(#كيف_صارت)؟ لعرض «إنجازات حماس» في غزة خلال تسع سنوات من حكمها، فيما اعتمدت «فتح» أسلوب ردّ الفعل، واستعملت كلاً من (#قادرين)، و(#ح_نعمرها)، بالإضافة إلى استعراض بعض مشاريعها في الضفة.
مع ذلك، فإن الطريق أمام قطار الانتخابات لن تكون معبدة بالورود، لأنه سرعان ما اصطدم بأزمات بين الطرفين وداخلهما أو بينهما وبين الجمهور المحكوم لدى كل منهما، قد تشكل أي منها عائقاً في إجراء العملية، وهو ما دفع عدداً من المسؤولين في السلطة إلى محاولة إقناع عباس بالتأجيل، أقله من تشرين الأول المقبل إلى كانون الأول.
على صعيد «فتح»، بدلاً من أن تقلّ حدة الصراعات الداخلية بعد إعلان محمد دحلان تنازله عن الخلاف قليلاً مقابل المعركة مع «حماس»، كان العكس. أما على صعيد «حماس»، فثمة خوف متزايد من المشاركة بقوائم مباشرة في الضفة (قوائم منتمية إلى التنظيم) بفعل سيطرة السلطة عليها، وخوفاً من الملاحقة الأمنية وتعرضها للحصار المالي، على غرار تجربتها في عام 2006، فضلاً عن تدخلات إسرائيلية يمكن أن توجِّه الانتخابات إلى وضع يناسب تل أبيب، أول ملامحه كان اعتقال ممثل «حماس» في لجنة الانتخابات في الضفة المحتلة قبل أيام.
كذلك لم تلبث «حماس» أن اتهمت أمن السلطة بملاحقة عناصرها واعتقالهم، وهو ما أشار إليه القيادي في الحركة نادر صوافطة، الذي تحدث إلى «الأخبار»، عن «استدعاء العشرات من كوادر الحركة والناشطين في الدعاية الانتخابية، واعتقال عدد منهم واحتجازهم». تلك الاعتقالات طاولت أيضاً عناصر من «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين» في بيت لحم، جنوبي الضفة، ما دفع الأخير إلى التهديد باتخاذ إجراءات تصعيدية. الحال تكررت لدى «فتح»، التي اتهمت «أمن حماس» باعتقال واستدعاء عدد من عناصرها في غزة، رغم أن الفصائل في غزة وقّعت ميثاق شرف يتضمن 28 بنداً، نصت فيه على «تجريم الاعتقال السياسي».
والضفة حالياً يتصدرها مشهد أكثر فوضوية مما عليه في غزة، رغم أن مصادر فلسطينية أكدت، في حديث إلى «الأخبار»، أن «حماس انتهت من ترتيب قوائمها لخوض الانتخابات المحلية في غزة مقابل دعم قوائم مستقلة في الضفة، في حين أن خلافات فتح وتناقضاتها تحول دون قوائم موحدة، سواء في غزة أو الضفة».
أما في نابلس، فكان المشهد أكثر تناقضاً، حيث توحّد «العدوّان المنهكان»،«حماس» و«فتح»، في قائمة واحدة، في الوقت الذي وافقت فيه «فتح» على ترؤس عدلي يعيش (شخصية محسوبة على «حماس» وترأس قائمتها في 2006) لقائمة ستكون مزيجاً من الشخصيات الفتحاوية والحمساوية إلى جانب مستقلين، والأمر نفسه تكرر في بلدة عقربا، جنوب نابلس.
وعلمت «الأخبار» من مصادر أخرى أن «فتح» لجأت إلى «التحالف الضمني مع حماس» انطلاقاً من افتقادها شخصية مؤثرة يمكن أن تحصد بها الحد الأدنى من مقاعد المجلس البلدي، خاصة أنها تعرضت لهزيمتين متتاليتين في الانتخابات السابقة: الأولى أمام يعيش في 2006 (لم تحصد «فتح» سوى مقعدين)، والثانية أمام عضو اللجنة التنفيذية (المستقيل من «فتح») غسان الشكعة، الذي يتمتع بشعبية كبيرة (حصلت آنذاك على خمسة مقاعد فقط)، علماً بأنها بعد ثلاث سنوات على تسلُّم الشكعة زمام المجلس البلدي دفعت باتجاه استقالته عبر مسيرات نظمتها العام الماضي.
الاتفاق الجديد ينص على أن يتولى يعيش رئاسة البلدية لمدة عامين، ثم يتولى بعده الرئاسة شخصية فتحاوية لعامين، بالإضافة إلى فرض أربعة أسماء من المحسوبين على «فتح» ضمن قائمة يعيش (5 مقاعد)، مع أن هذه الشخصيات «غير مهنية بالقدر الكافي، ومن شأنها أن تعرقل نجاح المجلس المقبل»، تقول المصادر نفسها. وبينما يرفض يعيش هذا الطلب، يؤكد مقربون منه نيته الانسحاب من السباق الانتخابي إن استمرت فتح، ومن خلفها السلطة، بالضغط عليه لقبول التفاهمات السابقة.
ليس في نابلس وحدها تعاني «فتح» بشأن تشكيل القوائم، بل تتكرر الحال في الخليل (جنوب) وأريحا (شرق) اللتين تشهدان حراكاً مكثفاً لتشكيل «قوائم موحدة». ففي أريحا، وبرغم أنه أصلاً لا توجد قاعدة جماهيرية كبيرة لـ«حماس» هناك، فإن ما عرقل «فتح» هو اشتراط عشائر المدينة الستّ أن يكون رئيس البلدية من أريحا، وأن تكون غالبية المرشحين للقائمة من اختيارها، الأمر الذي ترفضه «فتح».
في المقابل، كانت حظوظ «فتح» في تشكيل «قوائم داخلية موحدة» أكبر في كل من جنين ورام الله (مركز الثقل السياسي) وغزة، برغم تصاعد الخلاف بين أنصار عباس ودحلان، الذي وصل إلى حدّ الاشتباكات بالأيدي في أحيان كثيرة، وانتهى حالياً إلى هدوء إعلامي بين الطرفين، مع انخراط لافت للوسائل الإعلامية المحسوبة على دحلان بالترويج للدعاية الفتحاوية.
وكان تيار دحلان، الذي تلقبه الحركة بتيار «المتجنّحين»، قد حسم موقفه من التحالف مع «حماس» في غزة، ورفض ذلك دحلان نفسه عبر كلمة مصورة نشرها على صفحته الشخصية، ما دعا هذا التيار إلى البحث عن مرشحين انطلاقاً من العائلات الكبيرة في القطاع، رغم بوادر «تمرد» من بعض قيادات «الأقاليم».
أيضاً، أكد القيادي الحمساوي محمود الزهار، أنه لا «قوائم مشتركة بين حماس وفتح»، حينما شدد على أنّ «من الممكن التحالف في غزة مع أي فصيل فلسطيني إلا فتح»، وهو ما تلاقى مع إعلان الحركتين إخفاق الجهود بين وفد «فتح» برئاسة صخر بسيسو، ووفد «حماس» برئاسة خليل الحية، لتشكيل قوائم موحدة.
وزاد على خلاف عباس ــ دحلان مشكلات أخرى، هي: تيار رئيس الوزراء رامي الحمدالله، وتيار مدير «المخابرات» ماجد فرج، وتيار مدير «جهاز الأمن الوقائي» زياد هب الريح، ومن بعدها صدور قرار بفصل خمسة من قيادات الحركة البارزين، هم: عدلي صادق، بسام زكارنة، نجاة أبو بكر، نعيمة الشيخ علي وتوفيق أبو خوصة.
وفي الأيام الأخيرة، تصاعدت الخلافات الفتحاوية بما قد يؤدي إلى تأجيل الانتخابات فعلاً، بسبب المواجهات المسلحة بين أجهزة أمن السلطة ومسلحي «فتح»، في كل من طولكرم ونابلس، واعتقال العشرات من كوادر الحركة، بجانب الاعتداء على عضو «المجلس الثوري لفتح» إبراهيم خريشة في طولكرم، والاستقالات الجماعية التي شملت أكثر من 120 شخصاً، احتجاجاً على ما تعيين القوائم الانتخابية بدلاً من ترشيحها، مع أنه خلاف في حقيقته على ملفات أخرى (راجع العدد ٢٩٥٥ في ٨ آب).
في السياق نفسه، شكلت «فتح» لجنة برئاسة عضو اللجنة المركزية لها جمال محيسن، من أجل فصل كل من له علاقة بـ«حماس» أو بمحمد دحلان، فيما قال عضو «المجلس الثوري لفتح» بلال النتشة، إن «مهمة اللجنة دراسة وضع المتجنحين، وسترفع توصيات بأسماء من يجب فصلهم إلى المجلس الثوري». كذلك شدد النتشة على أن «دحلان وجماعته لن يكونوا جزءاً من أي قوائم للحركة». لكن، حتى وقت قريب، أعلن في مدينة رفح، جنوبي قطاع غزة، وهي معقل انتخابي مهم للحركة، تنافس قائمتين، واحدة تتبع لعباس والثانية لدحلان.، بما يخالف تعهد الأخير.