خلال لقائنا مع خبير الاقتصاد السياسي البيئي political ecology في مجال المياه الدكتور رولان رياشي، في منطقة الأشرفية – بيروت، للحديث عن واقع المياه في لبنان، والوقوف على بعض أبحاثه العلمية والسياسة المائية في لبنان، كان ثمة “صهريج” يزود المياه لبناية مجاورة، في مشهد أصبح اعتياديا، ليس في العاصمة بيروت فحسب، وإنما في مختلف المناطق المفترض أنها غنية بالينابيع ومصادر المياه الجوفية، وكأن هذا “الصهريج” لم يأتِ صدفة، وحضر ليكون “شاهدا” على ما يعاني منه قطاع المياه في لبنان، وما يواجه من تحديات وعقباب تحول حتى الآن دون الوصول إلى حلول ناجعة.

تفقير ممنهج

 

بدايةً، اعتبر رياشي أن “ملف المياه العذبة والمبتذلة ملف واحد، إلا أن السياسة هي التي تفصلهما، فملف المياه العذبة تضطلع به وزارة الطاقة والمياه، فيما تعالج مشكلة الصرف الصحي البلديات والتي تعتبر الأفقر مؤسساتيا، فضلا عن وزارة الأشغال العامة وهي غير معنية بالخطة الإستراتيجية للمياه، كما أن قانون المياه رقم 221/2000، والذي دمج 22 مصلحة مياه في أربع مصالح لم يلحظ قضية المياه المبتذلة إلا بعد سنوات”، ورأى أن “على مصالح المياه أن تدرس بالتوازي المياه المبتذلة، وما أجده في هذا المنحى هو تشعب لهذا القطاع العام  أسوة بغيره من قطاعات الخدمة العامة بهدف تفقير ممنهج لقطاع المياه وقطاعات الخدمات العامة الأخرى، والتي من المفترض أن تكون متوفرة للجميع وبأقل التكاليف الممكنة”.

وأشار رياشي إلى أن “سياسات المياه في لبنان تتجه نحو مشاريع السدود الكبيرة والخصخصة، والدولة لا تستطيع تأمين هذه الخدمة، وتتابع الحكومة مقولتها بأنها مفلسة، ولكن على الرغم من ذلك تقوم باقتراض الأموال للقيام بمشاريع كبيرة كالسدود، إنه فساد في الدولة ليتوصل المواطنون في النهاية إلى نتيجة أن الخصخصة هي الخلاص الوحيد لما نعاني منه في كافة الملفات وخصوصا المياه”.

وأضاف رياشي: “إن خطط المياه التي نعمل عليها ونتابعها اليوم، بدأت منذ أيام الإنتداب الفرنسي، وبعده البعثة الأميركية ولم تبدأ الإستراتيجية اللبنانية في مجال المياه عام 2000 أي في الخطة العشرية التي وضعها المدير العام للموارد المائية والكهربائية في وزارة الطاقة والمياه الدكتور فادي قمير، ولا في 2005 عندما وضع مجلس الإنماء والإعمار خطة National physical plan، وشارك بها الوزير السابق شربل نحاس، ولا في خطة الوزير جبران باسيل في 2010 وأسماها الخطة الوطنية، أو في 2013 مع مشروع Blue Gold الذي تقدم به فادي قمير أيضا، بل بدأت بفكرة  أننا لسنا بالوعي الكافي لاستغلال كمية المياه الموجودة لدينا، وأننا بحاجة لبعثة أجنبية توجهنا، خصوصا لجهة أن لدينا الكثير من المياه، وهي الفكرة التي أرساها الإنتداب الفرنسي، وبعده البعثة الأميركية، كما أسلفنا، وفي الحقيقة فإن معظم مشاريع المياه بدأت أيام الإنتداب الفرنسي بهدف استغلال المياه، ثم تبعتها البعثة الأميركية في الخمسينيات من القرن الماضي، وكانت عبارة عن جزء من الحرب الباردة بين الإتحاد السوفياتي السابق وأميركا، وأتت نتيجة لاتفاق بغداد، وكموطئ قدم لأميركا أيام الرئيس الراحل كميل شمعون الذي كان مقربا من الأميركيين، الذين قدموا من ضمن عدة مشاريع مشروع الليطاني وسد القرعون، وشبهوه يومها بسد هوفر في أميركا، بهدف ري واستصلاح الأراضي، ودرسوا كافة الأنهر في لبنان تقريبا، وفقا لتقنيات الخمسينيات في مجال الجيولوجيا وغيرها من العلوم، والتي لم تكن متقدمة كما هو الحال اليوم، وأشاروا عندها إلى إمكانية إقامة السدود في مناطق معينة، دون مراعاة – في معظم الأحيان – لأحوال طبقات الأرض والنشاط الزلزالي وغيرها من الأمور الضرورية لإقامة السدود، وكانت أهداف السدود في وعينا العام تمثل التطور والإنماء، وتغير الخطاب بعد ذلك إلى ضرورة إنشاء السدود نتيجة الجفاف، والحقيقة أن معظم مشاريع السدود والمياه هدفها الربح والصفقات”.

تقاسم سياسي ممنهج

وعما إذا كانت السدود ضرورية في لبنان، قال رياشي: “تبعا لحاجة المناطق، يتبين لنا أن من بين 18 سدا مقترحا، يمكن انشاء 3 فقط، أما الـ 15 الباقية، مثل: شبروح، جنة، بسري وغيرها فتعتبر سدودا غير منطقية ودون جدوى اقتصادية وخطرة، خصوصا وأنها موجودة على فوالق زلزالية، وطبيعة الصخور فيها غير مؤاتية فهي مكونة من “الكارست” Karst، والكارست من الصخور التي تتشقق وتحتوي فتحات، وهي غير قادرة على الإحتفاظ بالمياه، وتتكون عادة من الصخور الكلسية limestone والجبس وغيرها، وتعتبر المنطقة الممتدة من بالوع بلعا إلى الروشة (سد جنة)، ومنطقة شير حمانا (سد القيسماني) من هذه النوعية من الصخور، وبالتالي فإن إقامة السدود في مثل هذه المناطق يعتبر عملا غير مجدٍ وغير منطقي ودون جدوى إقتصادية، ولعل سد شبروح أكبر دليل على ما نقول، وبني بقصد الري، ولجمع مياه نبعي اللبن والعسل والمياه الناجمة عن ذوبان الثلوج، وقاع هذا السد يتكون من هذه الصخور وترشح مياهه، وبينما يستفيد المزارعون في المنطقة القائمة ما بعد السد من المياه، فقد حرمت بلدتي حراجل وفاريا، (الموجود فيها السد) من المياه، بينما في سد بسري، فهناك بلديات ستستفيد من السد ووافقت على المشروع، بالمقابل ثمة 30 قرية ترفضه تماما، برأيي سد جنة وسد بسري “توأمان”، فإن توافق الساسة سيمران، وإن لم يتوافقوا فسيجهضان معا، فهي عملية تقاسم سياسي ممنهج، ومصالح لفريقين من السياسيين”.

وقال: “لست ضد إقامة السدود بالمطلق، ولكن في الأمكنة المناسبة لذلك، فمثلا إقامة سد في منطقة نهر العاصي منطقي، كون البقاع يعتبر من المناطق القليلة في لبنان التي تخلو إلى درجة كبيرة من الصخور الكارستية، ويحتوي على الصخور البازلتية التي لا ترشح منها المياه، وليست هذه المنطقة قريبة من أي فالق زلزالي، إلا أن استغلال مياه العاصي يخضع للاتفاقات الدولية. وفي مجال إقامة السدود عموما علينا أن نلحظ طبيعة الصخور والنشاط الزلزالي كي لا يشكل بناؤه ضررا على المدى البعيد، إضافة إلى ذلك فثمة هدر متمثل بحجم جدار السد لتخزين كمية مياه قليلة نسبيا، فكلفة السد الأساسية في الجدار، فالسد العالي في أسوان رغم المشاكل التي تطاوله، فإنه بارتفاع 60 مترا فقط ويخزن المليارات المكعبة من المياه، بالمقابل في سد جنة مثلا، فمن المزمع بناء جدار بارتفاع 120 مترا لتخزين كمية تقدر بملايين مكعبة من المياه، وهناك ضرورة أن يكون السد بهذا الإرتفاع أو أكثر في مناطقنا لحفظ المياه نظرا للإنحدار ووعورة التضاريس وتدفق المياه بسرعة، فعلى الرغم من وفرة المياه لدينا، فالإستفادة منها ضئيلة، ما يترتب على ذلك من تكاليف كبيرة، فضلا عن أن معظم أراضي لبنان طبيعتها كارستية وترشح منها المياه، لذا يجب دراسة الجدوى الإقتصادية وطبيعة المكان قبل بناء السد”.

ثلث مياه الشفة توّرد إلى الخليج

أما عن مشاكل المياه في لبنان، فقال رياشي: “ثمة مشاكل عديدة في لبنان، وخصوصا في ملف المياه، وأهم أسباب شح المياه، برأيي الحل في إعادة الاعتبار للمياه الجوفية، وهذا الخزان الجوفي موجود فلماذا علينا إقامة السدود؟ وتأتي المشكلة التالية في عملية التوظيف في الدولة، وخصوصا في مجال المياه  لجهة ملء الشواغر، فضلا عن الهدر نتيجة عدم صيانة شبكة المياه أو الإتجاه لاستحداث شبكات جديدة، وخصوصا في بيروت ليتوقف الهدر، فمعظم شبكة المياه في بيروت مهترئة، و90 بالمئة من شبكة المياه في بيروت عمرها أكثر من 50 عاما ولم تخضع لصيانة خلال هذه الفترة، وقدرت نسبة الهدر في الشبكة بناء على دراسات جديدة بـ 49 بالمئة، وهناك معلومات عن تجديد بعض أقسام شبكة المياه طاولت 350 ألف متر، فلماذا لا نزال نتكلم عن هذا الهدر إذن؟ ومن يراقب هنا ومن ينفذ ومن يحاسب؟”.

وأضاف: “علينا بناء المزيد من خزانات المياه في المناطق وفي بيروت، وهذه الخزانات منتشرة في كافة انحاء العالم وتكلفتها قليلة للغاية بالمقارنة مع بناء السدود، وهناك المشكلة الرئيسية المتمثلة في قانون ملكية الأرض والموارد المائية من ينابيع وآبار، والعمل على تنظيم وتحديث هذا القانون لجهة فرض تعديلات وضرائب وشروط على أصحاب هذه الآبار، كما أن ثلث مياه الشفة توّرد إلى الخليج، على شكل فواكه وخضار، فنحن نروي بمياه الشفة وننتج ضعفين إلى ثلاثة أضعاف استهلاكنا من الفواكه وخصوصا التفاح، الليمون، البندورة والموز، وبدون ضوابط، لتأتي تاليا مشكلة التصدير بعد اقفال الطريق البرية للتصدير بسبب الحرب السورية، فضلا عن إرجاع كميات من هذه الفواكه من مناطق الخليج بسبب عدم مطابقتها للمواصفات المطلوبة، لذا فخلال الـ 5 سنوات الماضية أدت ظروف الحرب إلى أزمة اقتصادية كبيرة بين المزارعين، إضافة إلى الجفاف”.

مشاكل المياه

وعن الحلول المقترحة، قال: “برأيي، إن السبب الرئيسي لمشكلة المياه يكمن في قانون الملكية، وخصوصا لجهة تحكم الملك الخاص في حق المياه، فهناك حقوق مكتسبة على الينابيع في لبنان، فلا ضوابط عامة عليها، ولا يستطيع أحد مناقشة هذه الحقوق في الملكية وحق الإنتفاع، ولنعطي مثالا، فإن كان لدينا أرض، فإن حفر بئر في لبنان على عمق 150 مترا، وسحب 100 متر مكعب يوميا ليس ممكنا فحسب، بل وبدون الحاجة إلى إذن، ويحتاج الأمر فقط إلى علم وخبر، ما دام الشخص لم يتجاوز هذه الكمية، ولدينا حاليا في لبنان وبمساحة 10452 كيلومتر مربع 80 ألف بئر، أي أن هناك من 8 إلى 10 آبار في كل كيلومتر مربع، وهي من أكبر النسب في العالم، لذا فإننا نقوم بـسحب و”شفط” مياهنا الجوفية ما يؤثر على ينابيعنا ونوعية مياهها، وتدفق الأنهر، وبالتالي يخفض كمية المياه المتوفرة للمواطنين، كما أن هناك علاقة لهذا الموضوع بقانون البناء، فالمياه مورد، فإن حفر شخص بئرا واستخرج مياها ترتفع قيمة الأرض والبناء، وهناك مشكلة الموارد المالية، وهي تحل تبعا لمنطق المحاصصة والتي ستؤدي إلى الخصخصة مستقبلا، فبهدف الحصول على المياه وتوفيرها، يتجه المسؤولون لأخذ القروض العالمية والوطنية، على شكل مشاريع ضخمة، بدلا من حلها بمشاريع تنموية، فاعلة ومفيدة، وغير مكلفة، وتوجه هذه الأموال نحو مشاريع ليست ذات أولوية مثل بناء السدود بدلا من الحماية من الهدر الحاصل، كما أن هناك 90 بالمئة شغور في وظائف الدولة، فبدلا من 4500 موظفا في مؤسسات الدولة، لدينا ألف موظف ومعدل أعمارهم 60 سنة، وخلال سنوات سيحالون إلى التقاعد، وتصبح مؤسسات الدولة بلا موظفين، وحاليا يوظف مكانهم مياومون، والمياوم لا يحصل إلا على 26 ألف ليرة يوميا، بعقد سنوي، دون ضمان صحي أو غيره، ووضعهم المادي سيء للغاية، وكل هذا بهدف توجيهنا نحو خيار الخصخصة بدلا من توظيف أشخاص جدد، والحجة دوما “لا أموال”، مع أن الأموال تتوفر وبسرعة للقيام بمشروع سد، فضلا عن أن تكلفة تنظيف نهر الليطاني على سبيل المثال، قدرت بمبالغ تفوق أكبر أنهر العالم، والحقيقة أن المسؤولين يحضرون الأجواء لعملية الخصخصة وتقسيم البلد سياسيا، فكيف تستطيع مصلحة بيروت وجبل لبنان تأمين 300 مليون دولار لسد جنة وبسري، وبالمقابل لا تحاول صيانة الشبكة أو بناء خزانات صغيرة لتوفير المياه للمواطنين، والحقيقة فإن هناك خزانين (حاووزين) يزودان نصف حاجة سكان بيروت للمياه، أحدهما في الأشرفية، والثاني في تلة الخياط، أحدهما من أيام العثمانيين والآخر من أيام الإنتداب الفرنسي، فلما لا نبني حواويز وخزانات إضافية، ومن المناطق التي أقترحها الحازمية لتتدفق المياه بفعل الجاذبية، وحتى أن هذه الحلول ليست مطروحة بالاستراتيجية الوطنية كونها مشاريع صغيرة ولا ترضي المحاصصات، ولا نجد السياسيين يتكلمون إلا عن مشاريع كبيرة وسدود، بينما يمكننا بمشاريع صغيرة توفير المياه وبكثرة؟”.

دراسة بيئية

أما عن سد القيسماني في حمانا – المتن الأعلى، فقال رياشي: “طبقا لدراسات أجريت في الجامعة الأميركية هناك مخاطر في بنائه، فهو لن يحتفظ بالمياه كما يزعمون، كون قاع السد مكون من صخور كارستية (كلسية كربونية)، كما أنه يؤثر على نبع أساسي للمنطقة وهو نبع الشاغور، وبأي منطق يبنى سد على شير (مطلّ عال)، فلنتخيل المخاطر المحدقة، فهزة بسيطة قد تتسبب بكارثة، من جهة ثانية، فإنه في حالة سد جنة، ليس ثمة دراسة للجدوى الإقتصادية، بل هناك دراسة بيئية قامت بها شركة جيكوم، أكدت أن تكلفته البيئية ودون تشغيل 100 مليون دولار سنويا، فضلا عن أن وجود أي سد، يعني بقعة مياه في حالة ركود stagnant في المنطقة، تنتج الميثان وتكون بؤرة للطحالب الملوثة، وأمامنا سد القرعون كدليل، وقد أصبح بؤرة للتلوث بدلا من الإستفادة منه، فهناك ترسبات ومواد سامة بارتفاع ستة أمتار، فماذا سيحصل في سد جنة إذا، انهم يحولون المنطقة من جنة إلى جحيم”.

ولفت رياشي إلى نقطة أساسية، قائلا: “منذ بداية القرن العشرين كانت المشاريع الكبيرة تدل على قوة الدولة، فكانوا يعتبرون قوة الدولة بالمشاريع الكبيرة، وأهمها السدود، مثلا سدود: ناصر، ستالين، فرنكو، هتلر، روزفلت وأيزنهاور، ويهاجمنا الساسة بأن رفض هذه المشاريع رفض للحياة والتطور والحضارة، بينما في أميركا يزيلون 50 سدا سنويا! فتكلفة وجود هذه السدود لجهة الصيانة أكثر من جدواها الإقتصادية، كما أن السد وإن كان في منطقة جيدة جيولوجيا ويستفاد منه للدرجة القصوى، فإن عمره لا يتجاوز 30 سنة، فضلا عن أن معالجة مشكلة التسرب في السدود تتم بالمواد الكيميائية الملوثة، مثل الزفت ومواد أخرى، فضلا عن وضع طبقة على سطح السد من الزيت والمشتقات البترولية لمنع التبخر”.

وختم رياشي: “برأيي إن هذه الاستراتيجية في خطة المياه وحصر مصالح المياه في 4 بدلا من 22، تخدم جيوب المسؤولين وتهدف لتحويل القطاع إلى التفقير والخصخصة، ليشمل كافة مجالات الخدمات العامة، الحل في لبنان يتطلب التخلص من نظام المحاصصة السياسي، فلا بد من تغيير النظام السياسي لمعالجة مشكلة المياه في لبنان”.

الناشر: الشركة اللبنانية للاعلام والدراسات.
رئيس التحرير: حسن مقلد


استشاريون:
لبنان : د.زينب مقلد نور الدين، د. ناجي قديح
سوريا :جوزف الحلو | اسعد الخير | مازن القدسي
مصر : أحمد الدروبي
مدير التحرير: بسام القنطار

مدير اداري: ريان مقلد
العنوان : بيروت - بدارو - سامي الصلح - بناية الصنوبرة - ص.ب.: 6517/113 | تلفاكس: 01392444 - 01392555 – 01381664 | email: [email protected]

Pin It on Pinterest

Share This