خبران نشرا منذ أيام على علاقة وثيقة بكارثة تلوث نهر الليطاني وبحيرة القرعون، في قسميه الأعلى والأسفل، كانا شديدي الغرابة.
الأول، تقرير وزارة الطاقة والمياه إلى مجلس الوزراء، المؤرخ في 25 تموز (يوليو) 2016، المتضمِّن موضوع تلوث مياه نهر الليطاني بسبب الصرف الصحي والمخلَّفات الصناعية، ووجود مرامل ومغاسل رمول، والتسبب بأزمة مياه في بعض الأقضية.
والثاني، استدعاء النيابة العامة المالية لبلديات البقاع، بناء على شكوى وزارة الصحة ضد ملوِّثي حوض الليطاني من بلديات ومؤسسات صناعية ودباغات، وإعطاء البلدِيَّات مهلة شهر من الزمن لرفع ملوثاتها عن النهر وباقي المجاري المائية.
هكذا بكل بساطة، تختصر وزارة الطاقة والمياه مسؤولياتها التاريخية حيال النهر وحوضه وبحيرته، برفع تقرير يغلب عليه طابع طلب اعتمادات بمليارات الليرات، دون أية خطة واضحة تشرح أسباب التلوث ومعالجاته.
وببساطة أكثر إثارة للجدل، تختزل وزارة الصحة مسؤولياتها حيال سلامة الموارد المائية والمحافظة عليها بأن تحوِّل نفسها إلى مدَّعٍ يقوم برفع شكوى ضد الملوِّثين.
والأكثر غرابة أن النيابة العامة المالية تتعامل مع هذه الشكوى بأن تُمْهِل البلديات مدة شهر لرفع ملوثاتها عن النهر وباقي المجاري المائية.
لو تأملنا عميقا بالتفاصيل الثلاثة، تقرير وزارة الطاقة والمياه وشكوى وزارة الصحة، ومهلة الشهر التي أعطتها النيابة العامة المالية للبلديات، لوجدنا أنفسنا أمام لوحة “سوريالية” مقلقة فعلا، على مصير النهر والمؤسسات والوزارات والمسؤوليات والإدارات المتعلقة بحياة الشعب والدولة كلها.
تستحضر هذه اللوحة، سيلا من التساؤلات عن صلاحيات الوزارات والإدارات، وكل المؤسسات الموجودة، من مجلس الإنماء والإعمار، ومصالح المياه ومؤسسات المياه في كل المناطق، وأيضا، المؤسسات الناقصة، أي المطلوب قيامها لكي يستقيم كثير من الأمور ذات العلاقة بتلوث النهر وخراب منظومته البيئية، وإدارة الموارد المائية كمَّا ونوعا، على طول دورة حياتها، من المياه العذبة إلى المياه المبتذلة.
أيقظت فينا هذه اللوحة الحزينة استحضار تشريعات عالية الأهمية منذ العصر العثماني، منصوص عنها في المجلَّة العثمانية، وهي لا تزال سارية المفعول، لم تُلْغَ ولم يطرأ عليها أي تعديل.
فوفق هذه التشريعات الموجودة عندنا، وتشريعات مثيلة لها، بل أكثر قابلية على التطوير والتحديث، عند أمِّ تشريعاتنا اللبنانية الحديثة، أي التشريعات الفرنسية، هناك للينابيع والعيون “حرم”. منبع الأعين، يعني الماء المسستخرج من الأرض والجاري على وجهها، يكون حرمه دائرة شُعَاعُها 500 ذراع، أي حوالي 375 مترا.
ويكون حرم النهر يساوي عرضه، أو نصف عرضه من كل طرف، وحرم القناة الجاري ماؤها على وجه الأرض مثل العين، أي 500 ذراع (375 مترا) من كل طرف. ولاحقا سمِّي الحرم بـ “منطقة الحماية”، وصدرت بمرسوم في العام 1935.
ويبرز إلى الأذهان صارخا ومجلجلا مفهوم “المُلْكُ العام”، لناحية اعتبار الموارد المائية ملكا عاما.
وتضمنت المجلة العثمانية عناوين على أهمية بالغة، مثل حماية المصادر المائية من التلوث، واعتبار حظر الدخول إلى الحرم، جزءا لا يتجزأ من هذه الحماية.
تضمن القرار 320 للعام 1926 تطويرا لمفهوم “الحماية” من خلال تأكيده على الجانب النوعي للحرم، بحيث يمنع أي إجراء أو عمل من شأنه أن يدنِّس العين أو النبع. هذا ما يقابله في التشريعات الفرنسية ما ينص عليه القرار الفرنسي للعام 1902، حيث يؤكد على أن منطقة الحرم تهدف لمنع تلوُّث الينابيع، وكذلك وضع القانون اللبناني رقم 1245 للعام 1964 ثلاثة أنواع من مناطق الحماية حول الينابيع المخصصة للشرب بهدف حمايتها، ومنع العبث بها وتعريضها للتلوث.
فالتشريع الفرنسي، الذي غالبا ما يرجع إليه علماء القانون والتشريع في لبنان، يمنع جميع الأشغال التي تكون سببا للتلوث، في حرم النبع وعلى مقربة من الأنهار وأي مورد مائي آخر.
يشكِّل قانون حماية البيئة رقم 444 للعام 2002 تطورا كبيرا في مسار التشريع البيئي في لبنان، وضمنا لناحية حماية الثروة المائية. وكذلك في سنوات لاحقة، صدرت سلسلة من القوانين والمراسيم تتعلق بالثروة المائية حُدِّدَت فيها بوضوح لا يقبل التأويل صلاحيات كل وزارة، وكل إدارة وكل مؤسَّسة، في حماية الثروة المائية من التلوث.
فوزارة الصحة على سبيل المثال، هي مسؤولة مع وزارة الطاقة والمياه عن تطبيق القوانين والأنظمة المتعلقة بالمحافظة على المياه العمومية واستعمالها.
وتنص القوانين والمراسيم المحدِّدة لصلاحيات وزارة الطاقة والمياه على حماية الموارد المائية من الهدر ومن التلوث. أي مسؤولية مزدوجة الأبعاد. فهي مسؤولة عن إدارة الموارد المائية لناحية الكمِّية، ومنع الهدر ومكافحة تبديد الثروة المائية، أي تطوير استراتيجيات إدارة رشيدة وحكيمة وفعالة للمياه من الناحية الكمية من جهة، وكذلك من جهة أخرى، مسؤولية واضحة لا تقبل الجدل عن حماية الموارد المائية من التلوُّث، أي المحافظة على الموارد المائية من الناحية النوعية.
هذه الصلاحيات الواسعة والواضحة لوزارة الطاقة والمياه لا تلغي ولا تتعارض أو تتضارب مع صلاحيات وزارة البيئة بشأن السهر على نقاوة وسلامة المياه السطحية والجوفية وحماية حرم الأنهر والينابيع من المواد الكيميائية والمياه المبتذلة والنفايات المنزلية والصناعية.
يتناول قانون تنظيم قطاع المياه رقم 221 للعام 2000 والمصحَّح بالقانون رقم 241 للعام 2000 إعادة التأكيد على صلاحية وزارة الطاقة والمياه ودورها في تقييم نوعية المياه، أي في رصد ومراقبة نوعية المياه لكي تبقى خالية من التلوث ونظيفة، ومتوافقة مع المواصفات الملائمة لكل أنواع إستخدامات المياه. وكذلك لصلاحيات وزارة البيئة بالتعاون مع وزارة الطاقة والمياه، ووزارة الصناعة بالتعاون مع وزارة البيئة.
وزارة الطاقة والمياه أيضا لا يمكنها غسل يديها من فوضى انتشار المقالع والمرامل، حيث أناط بها القانون إعطاء إفادة تثبت موافقتها على الإستثمار المطلوب في قطاع المقالع والكسارات والمرامل، بالإضافة إلى وزارة البيئة و”المجلس الوطني للمقالع والكسارات” وضمنا المرامل، حيث أن المرامل هي وجه من وجود المقالع، التي تستخرج موادا من الطبيعة، تستعمل في أعمال البناء والمشاريع الإنشائية.
يشترط القانون أيضا وضع دراسة لتقييم الأثر البيئي توافق عليها وزارة البيئة قبل الشروع بأي استثمار، ولا سيما الإستثمارات الكبرى ذات الأثر الكبير على البيئة وعناصرها ومكوِّناتها، والتي في غالب الأحيان، تكون تأثيرات غير قابلة للتصحيح، بل خاضعة لمفهوم “إعادة التأهيل”.
يطلب القانون بشكل واضح ولا يقبل التأويل أو التجاهل، في موضوع المقالع والمرامل، حضر التعدي على الينابيع وعلى مجاري المياه الظاهرة والمياه الجوفية ضمن الموقع، أو في المناطق المجاورة لها، وأوجبت وضع سور صخري لمنع تساقط الصخور والأتربة والرمول في مجاري المياه الشتوية، ومجاري الينابيع، فكيف بمجاري الأنهر نفسها.
يحدِّد القانون الجهات الرقابية، أي المسؤولة عن القيام بأعمال الرقابة والرصد ومنع التعدِّيات والتلوث بالوزارات التالية: وزارة الطاقة والمياه، وزارة الصحة، وزارة البيئة، وزارة الزراعة، وزارة الأشغال العامة، المحافظون والبلديات أي وزارة الداخلية.
لم يعطِ القانون صلاحية الترخيص للمقالع والكسارات والمرامل لوزارة الداخلية، بل للمجلس الوطني، الذي تشارك فيه وزارة الداخلية جنبا إلى جنب مع وزارات أخرى برئاسة وزارة البيئة.
لم يلحظْ القانون ما يطلق على تسميته “مُهْلَة إدارية”، التي تعطى من قبل وزارة الداخلية لمدة ثلاثة أشهر قابلة للتجديد. وأحيانا تحت تسميات مموَّهة وملتفَّة على القانون، مثل تراخيص “إستصلاح أراضٍ”، يتم تحتها استثمار مرامل ومغاسل رمول ومقالع، أو تراخيص “نقل صخور” أو “نقل رمول”، يتم تحتها إزالة جبال بكاملها عن الوجود، ونهش جبال لاستخراج الرمول من كل نوع.
ما يلفت الإنتباه في تقرير وزارة الطاقة إلى مجلس الوزراء، أن تحت عنوان إزالة التلوث يتم طلب اعتمادات ضخمة متعلقة بإزالة التعديات على مجرى النهر وتوسعته، أو إعادة درس ومعالجة جميع الجسور والعبَّارات الموجودة على مجرى النهر، وتأمين اعتمادات لإحياء الخطة الثلاثية لمعالجة مشكلة فيضان مجاري الأنهر بما فيها نهر الليطاني.
وبعد هذا الاستعراض السريع لصلاحيات لم تُمارَسْ، ومسؤوليات لم تُنفَّذْ، وواجبات أُهملت على مدى عقود من السنين من وزارات وإدارات ومؤسسات حكومية، أوصلت إلى ما وصل إليه نهر الليطاني وبحيرة القرعون من تدهور شامل، في قسميه الشمالي والجنوبي، ولو بنسب متفاوتة، وتنوع مختلف للتلوث، وآثاره المدمرة على المنظومة البيئية للنهر وحوضه، وكذلك على صحة السكان ورفاه عيشهم.
هل يعرف اللبنانيون أن “مجلس الإنماء والإعمار” قد أنفق ما يقارب المليار دولار من العام 1992 حتى العام 2004، منها حوالي النصف بتمويل خارجي، من الدول والمؤسسات والصناديق المالية العربية والدولية، على مشاريع في قطاع الصرف الصحي؟
ماذا كانت النتيجة؟ شبكات مجارير غير مكتملة تفتقر لمحطات للمعالجة، ومعظم القرى والمجمعات السكنية الصغيرة غير مزودة بشبكات ومحطات. وهذا أكبر دليل على فوضى الإنفاق في لبنان وعدم كفاءته، وذلك بالطبع بسبب غياب الهيكليات المؤسسية المناسبة لإدارة الموارد المائية، بشقَّيها العذب والمبتذل.
وهناك أيضا، ضعف في التفكير الاستراتيجي، أو غياب كامل لهذا التفكير، مع غياب وزارة التصميم والتخطيط، وحصر كل المهمات في مجلس الإنماء والإعمار، الذي يرى أولوياته، وليعرف اللبنانيون، في ظل كل ما نعانيه مع كوارث بيئية في نهر الليطاني وحوضه وبحيرة القرعون، أنه “يركز على أعمال التأهيل الطارئة للتجهيزات القائمة وخصوصا محطة الغدير…” (ورد هذا الكلام في مقالة لبسام القنطار منشورة في greenarea.info في مقابلة مع أحد مسؤولي مجلس الإنماء والإعمار).
من يسمع هذا الكلام يظن أن محطة الغدير هي محطة تعالج المياه المبتذلة لكل لبنان معالجة ثلاثية، ومن يعرف أنها محطة صغيرة للقيام بعمليات ما قبل المعالجة PRETREATMENT، وليس معروفا إن هي أدخلت حيز التشغيل أم لا تزال تنتظر ربطها بالشبكة منذ إنشائها في العام 2002، يصاب بالذهول أمام ضحالة التخطيط الاستراتيجي لهذه المؤسسة، التي تحتكر تنفيذ كل مشاريع لبنان. وتطاول الأولويات أيضا استكمال المشاريع المتوقِّفة. ويسأل اللبنانيون، لماذا هذه المشاريع، التي أنفق عليها عشرات ومئات ملايين الدولارات متوقِّفة بالأساس؟
ما هي حصيلة هذا الإنفاق كنتائج محققة اليوم؟ شبكات مجارير موجودة ولكن دون محطات معالجة، ومحطات موجودة دون شبكات مجارير، وهي بالطبع لا تعمل.
هدر أموال طائلة دون فعالية، وغياب خطة حقيقية، وضعف بنيوي ومؤسسي قاتل، في ظل غياب كامل للسلطة السياسية ووزارات الدولة، بل بتواطوء فاضح منها.
وأخيرا نتساءل ببراءة المواطن اللبناني، الذي تقع عليه وعلى جيبه وصحته وبيئته كل هذه التبعات، ماذا لو تعاونت وتكاملت وزارات الدولة على تطبيق القوانين المحدِّدة لصلاحياتها، بدل تقاذف المسؤولية، أو التحجُّج بتضارب الصلاحيات، لكي تدير ظهرها إلى كل صلاحياتها ومسؤولياتها، وترك الموارد المائية، وأهمُّها نهر الليطاني، سائبة ومعرَّضة لكل أنواع التعديات والتلوث الآتي من كل حدب وصوب، على مدى عقود من الزمن، دون أن تحرِّك ساكنا، أو تمارس دورا في القيام بواجباتها وصلاحياتها، التي ينيطها القانون بها وحدها أحيانا، وبالتعاون مع وزارارت أخرى أحيانا أخرى.