محمد صالح – السفير
«إن النظر الى الماضي وفهمه بات ضروريا أكثر من اي وقت مضى في مجتمعنا المنقسم، لأن الرواية التاريخية توفر لنا نظرة علمية الى الجذور الفريدة للشعب اللبناني الذي سكن هذا الساحل في شكل متواصل وبلا انقطاع منذ الالفية الرابعة قبل الميلاد». هذه الخلاصة هي نتاج المكتشفات التي عثر عليها مؤخرا في باطن أرض صيدون القديمة، خلال أعمال التنقيب في موقع حفرية «الفرير» من قبل «بعثة المتحف البريطاني»، قرب القلعة البرية لصيدا.
الحقبة الفينيقية النادرة
تشير رئيسة البعثة الدكتورة كلود ضومط سرحال الى «انه تم في هذا الموسم اكتشاف مرحلة تاريخية مهـــمة جدا، وتحديدا القرن الحادي عشر قبل الميلاد. فخلال هذه الحقبة تعرض شرق المتوسط، بما فيه رأس شمرا ـ أوغاريت، للتدمير على يد شعوب البحر. غير ان المعــبد الذي يشهد اعمال التنقيب في صيدا يظهر بشكل واضح استمرار النشاط البشــري فيه، اي انه على عـكس باقي المنطقة، لم يتعرض للتدمير خلال تلك الفترة، وان المدينة كانت مأهولة بشكل متواصل حتى القرن السابع قبل الميلاد».
شهد المعبد مظاهر احتفالية نشطة تشهد عليها كمية الأواني الفخارية، وكذلك الاكتشاف الخاص جدا لملعقة من المرمر (الرخام) تستخدم في الطقوس الدينية على شكل زهرة لوتس ملونة بالاحمر، وقطعة منحوتة قطعة من عظم الحيوان، ومشط فريد من نوعه يستعمل في مرحلة الاستعداد من أجل الدخول الى المعبد. بالاضافة الى ذلك وجدت مجموعات من أواني الطعام اليونانية، بما في ذلك اطباق صنعت خصيصا للتصدير الى الشرق. وتعود هذه الأواني الاحتفالية المكتشفة في معبد صيدا الى ما قبل انتشار هذه الممارسات في منطقة بحر ايجه وايطاليا.
كما عثر أيضا هذا العام على «معبد مصغّر، ومحارق بخور وأواني طعام جديدة لطقوس العبادة (2000 و 1000 ق.م.)، كما اكتشفت غرف جديدة في معبد الألفية الثانية من الحقبة الكنعانية البالغ طوله 48 متراً. وفي احدى هذه الغرف مذبح مغطى بخشب محروق، كان يستخدم على الارجح في طقوس تقديم الأضاحي. وتؤكد بقايا الحيوانات التي عثر عليها قرب المذبح على تناول لحم الاضحية خلال المراسم الدينية. ويمثل المعبد المصغر شبه بديل من المعبد الفعلي، يوضع فيه تمثال لإله. وفي معظم الحالات يكون التمثال لإلهة الخصب عشتار المعروفة ايضا باسم أنات والتي تقرن عادة بنقش أسد او حمامة او هلال.
متحف فوق الحفرية
تتابع سرحال «وبهدف ضمان طهارة الموقع، كان يتم اشعال مواد طيبة الرائحة، مثل البخور، وهو ما يشير اليه اكتشاف محارق بخور قابلة للحمل حيث أن خفة وزنها وتقارب مقبضيها تسمح بوضعها بسهولة في راحة اليد لاستخدامها.
ويرجح ان استخدام محارق عطور أو مباخر من الطين تطور لاحقا الى صنع محارق مماثلة من البرونز في مشاغل الفينيقيين، وتصديرها الى اماكن واسعة وبعيدة عبر البحر المتوسط». كما عُثر على إناء مزين بما يشبه العقد، في قبر يعود الى بداية الالفية الثانية قبل الميلاد، ويضم رفات شخصين. اما الإناء الذي وضع معهما، فجرى تحويره الى مجسم انساني باضافة ثديين عند عنقه بهدف الايحاء بمرافقة الأم لولديها الى مثواهما الاخير.
وكان رئيس بلدية صيدا محمد السعودي قد أعلن أن المتحف الذي يتم تشييده في المدينة حاليا من قبل «الشركة العربية للاعمال المدنية» في مكان حفرية موقع «الفرير» التابعة للمديرية العامة للاثار، قد يكون فريدا من نوعه في العالم، لأنّه يشيد على حفرية لا تزال أعمال التنقيب جارية فيها. وقال السعودي «اننا اليوم أمام حدث هام تاريخي وحضاري يعني لصيدا وأهلها وللبنان..ما نراه يصيب كل إنسان بالذهول أمام حضارة صيدا وتاريخها العظيم».