لم تكن السدود يوما، حلا ذا طبيعة مستدامة من الناحية البيئية، وعلى الرغم من أهدافها “التنموية” لجهة توليد الكهرباء بسعر رخيص، وتوفير المياه للزراعة واستصلاح الأراضي لتوفير المحاصيل والغذاء، نجد آثارا كارثية على سكان أحواض الأنهر، لجهة تهجيرهم إلى مناطق أخرى كما حصل للنوبيين بعد بناء سد أسوان، فضلا عن الأثر الخطير للسدود على التنوع البيولوجي، إلا أن واضعي سياسات الدول تابعوا تغيير طبيعة الأرض وزعزعة التوازن والتنوع البيولوجي، القائم واصفين السدود، وخصوصا الضخمة منها وما تمثل من رمز للقوة والسلطة الوطنية والتفوق، في محاولة لتخدير الرأي العام عن آثارها السلبية المرافقة.

لمحة عامة

تقدر مساحة الأراضي التي تستوعبها أحواض السدود حول العالم بحوالي 400 ألف كيلومترا مربعا، وتشكل 0،3 بالمئة من اليابسة، أي بمساحة ولاية كاليفورنيا في الولايات المتحدة الأميركية، وتأتي الصين في المرتبة الأولى من حيث عدد السدود بـ 23 ألف سد، تليها الولايات المتحدة بـ 9200 سد، فالهند واليابان والبرازيل، وقد انخفض معدل بناء السدود من 1000 في السنة بين الأعوام 1950 و1970 إلى 260 في أوائل التسعينيات من القرن الماضي، بينما شهد العام 1994 حركة بناء سدود بشكل كبير، فقد وصل عدد السدود قيد الإنشاء في تلك الفترة إلى 1000 سد، وتعتبر الصين في المرتبة الأولى في عدد السدود الكبرى قيد الإنشاء تليها تركيا، كوريا الجنوبية فاليابان.
وقد تم تهجير ما بين 40 و80 مليون شخص بسبب السدود، معظمهم من الصين والهند، فعند الإبتداء بإنشاء السد، يترتب في هذه المرحلة استملاك مساحات كبيرة من الأراضي، مهددة السكان المحليين والمزارعين الفقراء في نوعية حياتهم، حيث يطردون من أرض استمروا عليها لآلاف السنين وبالقوة، كما حصل في غواتيمالا في العام 1982، وقتل حينها 369 من المايا الهنود، معظمهم من النساء والأطفال، بعد أن رفض المجتمع قبول التعويضات التي عرضت عليهم، وعادة ما يطرد السكان في حوض السد دون تعويض يذكر، وتحت تهديد العقوبات وبقوة السلاح، وحتى عند إعطاء التعويضات، فإن المدفوعات النقدية لا تكفي للتعويض عن فقدان الأراضي والمنازل والوظائف والشركات والأراضي، خصوصا للمزارعين، وهذه التعويضات عادة قيمتها أقل من المقتنيات الأصلية.
السدود… تهديد بيئي

لا يختلف إثنان على أن أي تغيير في جغرافية الأرض بشكل سريع كبناء السدود، أو حفر القنوات المائية على سبيل المثال قناة السويس، ساهمت في تغيير كبير في التوازن البيولوجي وبوقت قصير للغاية، مقارنة مع التغيير الجيولوجي في الأرض الذي يتطلب ملايين السنين، ما يشكل نوعا من الصدمة البيولوجية لكافة الأحياء، ما يهدد سكان المناطق الأصليين، عدا التغييرات التي تطاول طبيعة الحياة لسكان جوار السد، لا سيما لجهة المياه التي كانت تغذي الأراضي، وما يشكل شحها من انخفاض في الإنتاجية، وتغير في التنوع البيولوجي، وبالمقابل، فإن وجود السد على شكل كتلة مائية راكدة، تساهم في ازدياد انبعاث غازات الاحترار المناخي، ونمو طحالب تساهم في تلوث المياه، فضلا عن نفوق العديد من الكائنات على حساب أخرى.
وسد النهضة الإثيوبي The Grand Ethiopian Renaissance Dam على أحد روافد نهر النيل، وهو النيل الأزرق، أو “نهر أباي” كما يسمى في أثيوبيا، فإن تأثيراته ستكون أكبر في المدى المنظور، فالسد بطول يتعدى الـ 2 كيلومتر وارتفاع 170 مترا، وقد أحيط بالسرية في بداياته، وعلى الرغم من فوائده الجمة لإثيوبيا، فإنه قد يشكل تهديدا استراتيجيا وتنمويا وبيئيا لكافة البلاد على مجرى نهر النيل، وخصوصا مصر الواقعة عند مصب هذا النهر العظيم ولا سيما حضارتها التاريخية والحديثة التي اعتمدت وتعتمد بصورة رئيسية على ما يوفره النيل من مياه لكافة الوجهات الإقتصادية من زراعة وصناعة وسياحة، فضلا عن تأثيره على المناخ والبيئة، ومن المتوقع أن يبدأ تأثير السد على مصر ابتداء من العام المقبل مع بدء تخزين المياه، وفقا لوزير الري المصري الأسبق محمود أبو زيد.
وقال تقرير لفريق من خبراء من بلومبيرغ Bloomberg أن مصر قد تواجه نقصا بمعدل 6 بالمئة في قدرة توليد الكهرباء من سد أسوان، بالمقابل لن تواجه نقصا في معدل المياه إن تم ملؤه خلال موسم الأمطار العادية أو الغزيرة، إلا أن هذا الأمر قد يؤثر بشكل كبير على إمدادات المياه لمصر، ويتسبب في فقدان توليد الكهرباء في السد العالي لفترات طويلة، إن تم ملؤه في مواسم الجفاف”. وطالب الفريق “بدراسة إضافية شاملة للسد وتأثيره على موارد المياه”.
كما تشير العديد من التقارير إلى افتقار السد لدراسات مستفيضة حول الأثر البيئي، وخصوصا تأثيره على تغير المناخ، كما أن حجمه الكبير وتكلفته الباهظة، كان يمكن تجاوزها بسد أصغر، و”خصوصا أن نصف التوربينات قد لا تستعمل الا نادرا” وفقا للبروفسور في الهندسة الميكانيكية Mechanical Engineering في جامعة سان دياغو الحكومي San Diego State University في كاليفورنيا أصفاو بييني Asfaw Beyene، وأشار إلى أن “قدرة السد ليس كما يدعي الخبراء بحوالي ستة آلاف ميغاواط (5250 ميغاواط)، وقد تم احتساب قدرته في حال تدفق الذروة الذي يحدث فقط خلال شهرين إلى ثلاثة أشهر خلال موسم الأمطار، وأن الدراسات بمعدلات قريبة من معدل الذروة غير منطقي اقتصاديا، لذلك فإن قدرة السد لن تتجاوز ألفي ميغاواط من الكهرباء”.
ويبدو أن حجم التحديات أمام الدول على مسار النيل يزداد، فيما تتجه إثيوبيا في التوسع في انتاج وتوريد الطاقة المولدة من المشروعات الكهرومائية، ليس لإثيوبيا فحسب، بل للمنطقة الإفريقية المجاورة، وبدأت إثيوبيا بتبني سياسات وخطط تستهدف الأسواق الأوروبية والشرق الأوسط، وهو ما يضع مصر في موقف متخوف من تداعيات بناء السد على تسويق منتجاتها وحماية وتأمين امدادات المياه التي تصلها عبر النيل الأزرق الذي ينبع من مرتفعات اثيوبيا، أمام حماس الإثيوبيين لتبني حكومتهم هذا المشروع الضخم من أجل تحقيق التنمية ومحاربة الفقر، لا نستغرب مساهمتهم في الداخل وفي الإغتراب في بناء هذا السد لا سيما بعد اتجاه مصر للضغط لعدم حصول إثيوبيا على قروض ميسرة، ولجأت إثيوبيا بالتالي إلى الإستدانة من شعبها ومنها في السفارات الإثيوبية المنتشرة في أنحاء العالم، عبر سندات خزينة “إجبارية” عليها صور السد، وبقيمة 100 دولار لمدة خمس سنوات، عند تجديد جوازات سفر المغتربين، مع حملة إعلامية واسعة في البلاد لجهة ما سيحققه هذا السد من آثار إيجابية لإثيوبيا، مع التأكيد أن هذا السد بني بأموال الإثيوبيين.

image

وكانت صحيفة المونيتور الأميركية قد تابعت مؤخرا، حيثيات المحادثات بين مصر والسودان وإثيوبيا، بعد سنوات من التوتر على إثر وضع حجر الأساس لهذا المشروع في فترة رئيس حكومة إثيوبيا الراحل السابق ميليس زيناوي Meles Zenawi، وقد تعثرت الكثير من المحادثات بين القاهرة والخرطوم وأديس أبابا على المستويات كافة، بهدف تبني إثيوبيا سياسات تقلل من حجم المخاطر المرتقبة إن تابعت انفرادها بقرار تخزين المياه وتشغيل السد، على الرغم من حقوق مصر المائية وبلاد حوض النيل حسب اتفاقيات نهر النيل، والتي تهدد بأزمة مياه وتوترات قد تصل إلى حرب مياه بين أثيوبيا وبلاد الجوار التي تعتاش من نهر النيل وروافده.
وتتمثل أهم هذه المخاطر المرتقبة على الزراعة، والتي يساهم النيل بري 98 بالمئة من الأراضي الزراعية، وتبلغ مساحتها 8،3 مليون فدان (الفدان حوالي 4000 متر مربع)، وتعاني هذه الأراضي حاليا من عجز مائي مقداره 23 مليار مترا مكعبا، كما يعاني المصريون من حالة “فقر مائي”، إذ يبلغ حجم استهلاك الفرد المصري نصف المعدل العالمي والمقدر بـ 600 مترا مكعبا.
لذا ستقوم مصر والسودان وإثيوبيا يوم الإثنين المقبل 5 أيلول (سبتمبر) في عاصمة السودان (الخرطوم) بتوقيع عقود دراسات للشركة الفرنسية “مجموعة آرتيليا” Artelia Group، فضلا عن شركة BRL Ingénierie بعد انسحاب الشركة الدانماركية ديلتاريس Deltares بسبب شروط لشركة BRL والبلدان الثلاثة، ما يمنع إجراء دراسة نوعية للسد طبقا للشركة الدانماركية، وستباشر المجموعتين الفرنسيتين باستشارات تتعلق بتحديد الآثار السلبية للسد على هيدروليكية المياه وحركتها الداخلة والخارجة من السد، ومعدلات وصول المياه من السد الاثيوبي وحتى بحيرة السد العالي وقناطر الدلتا، بالإضافة إلى الآثار الاقتصادية والاجتماعية للمشروع على مصر والسودان.
وكان موقع المونيتور الأميركي وفقا لدراسة أعدتها جامعة “كيوتو” اليابانية في 20 كانون الثاني (يناير) قد وصف السد بأحد “السدود المسعورة”، وأنه يضاعف حجم الكوارث المحدقة بالدول الثلاث تحديدا مصر.
وتابع التقرير أن “السدود المسعورة التي أقيمت على عدد من الأنهار في العالم، هي التي تحجز المياه والطمي خلفها، وتحدث خللا كبيرا في اتزان النهر الطبيعي، ما يتسبب في تداعيات بيئية كارثية”.

تقرير أميركي

وهذه الكارثة تتمثل بأن ملء بحيرة السد يتطلب كميات هائلة من المياه، وفقا للدكتور علاء النهري ممثل مصر في لجنة الاستخدام السلمي للفضاء بالأمم المتحدة، وشغل سابقا منصب نائب رئيس الإستشعار عن بعد وعلوم الفضاء، ويقدر بـ 96،3 مليار متر مكعب، وليس كما أشار الخبراء الإثيوبيون بكمية 70 مليار متر مكعب، كما تخوف من “آثار الفيضان على السد، فقد وصلت المياه إلى 150 بالمئة زيادة عن العام الماضي، كما أثبتت ذلك صور فضائية لمصلحة الإدارة الوطنية للمحيطات والغلاف الجويNOAA National Oceanic and Atmospheric Administration
كما أكد النهري أن لا جفاف في نهر النيل خلال السنوات العشر القادمة، وأن هذا الفيضان سيؤدي إلى توقف العمل بالسد، إذ لن يتحمل الفيضانات الكبيرة، وأن الفيضان والأمطار ستؤثر على جسم السد، ولن يستطيع موقع سد النهضة تحمل فيضان كبير، وإذا شهدنا فيضانا عارما العام المقبل مثل الذى تشهده إثيوبيا الآن، ولو حاولت أديس أبابا حجز مياهه، فإن السد سيتعرض للتدمير بالكامل، وأن على المصريين ترشيد استهلاك المياه، خلال الفترة القادمة بكل الأحوال.
لكنه قال “إن 2 مليون فدان من الأرض في مصر مهددة بالجفاف خلال فترة ملء خزان سد النهضة الأثيوبي”، وأضاف أن “هناك دراسة تقوم بها الهيئة القومية للاستشعار عن بعد بدأت قبل عامين في العام 2013، تفيد نتائجها إلى أنه عند تخزين أثيوبيا للمياه في سد النهضة، فإن مصر ستفقد خلال أول عامين 20 مليار متر مكعب من أصل حصة مصر من مياه النيل التي تبلغ 55 مليار مترا مكعبا حسب آخر اتفاقية، ما سيؤدي إلى معاناة مساحات واسعة من الأراضي المصرية من الجفاف، وسترتفع نسبة ملوحة التربة الزراعية – حسب الدراسة – ما يعني تدهور في القطاع الزراعي المصري.

الناشر: الشركة اللبنانية للاعلام والدراسات.
رئيس التحرير: حسن مقلد


استشاريون:
لبنان : د.زينب مقلد نور الدين، د. ناجي قديح
سوريا :جوزف الحلو | اسعد الخير | مازن القدسي
مصر : أحمد الدروبي
مدير التحرير: بسام القنطار

مدير اداري: ريان مقلد
العنوان : بيروت - بدارو - سامي الصلح - بناية الصنوبرة - ص.ب.: 6517/113 | تلفاكس: 01392444 - 01392555 – 01381664 | email: [email protected]

Pin It on Pinterest

Share This