ما من شيء بديهي أكثر من أن يحلم المرء بعيش كريم في محيطه الطبيعي. قد يكون الحلم بعيد المنال. قد يتمكن أصحاب المصالح وأهل الحل والعقد من إعدام فرص تحقيقه كلها. لكن هنا في عكار يستطيع هؤلاء فبركة أحلام وتحديات وهمية، صانعوها غير معنيين بتحقيقها، لكنهم ينجحون بتحويلها إلى مطالب شعبية، «تناضل النخب» عبثاً من أجل الفوز بها، علماً بأنها إن لم تكن عديمة الفائدة، فهي على الأقل ليست أبداً في سلم الأولويات النافعة
صحيح. توفّر الزراعة في عكار، بالإضافة إلى صناعات تحويلية خفيفة، فرص عيش كريم لمعظم سكان عكار. لا يحتاج هذا “الاكتشاف” إلى خبراء من صندوق النقد الدولي، ولا إلى الندوات التي تضجّ بها جمعيات “المجتمع المدني” و”الانجي اوز” أو المنظمات غير الحكومية، ولا إلى تدريس أساليب الحوكمة الحديثة.
يكفي لفت النظر، على سبيل المثال لا الحصر، إلى أن العكاري يشتري بصمت مطبق كيلو اللوبياء بستة آلاف ليرة في عزّ مواسم الخضار الصيفية، وبالمقابل يخرج في احتجاجات واعتصامات منادياً بتشغيل مطار رينيه معوض في بلدة القليعات!
هموم عكار في مكان، ونشاط العكاريين في مكان آخر. وعوض العمل على حلّها، يجري تسلية أهل المنطقة بفقاعات وتقليعات تسمى إنجازات:
سنوات عدة ولم يفلح مزارعو البندورة في إنتاج موسم طبيعي، لكن العوض كان بالإنارة العامة في طرقات أكروم ووادي خالد بواسطة الطاقة الشمسية.
ملايين صناديق التفاح كاسدة في عكار العتيقة وفنيدق، والتنافس محموم لفوز عكار العتيقة في مسابقة أفضل بلدة لبنانية سياحية وهي قد فازت به.
مشروع الإسكان الماروني في القبيات ينتهي بحسب المتهكمين الفيسبوكيين عام 2055 أو 2098، والشباب القبياتي هاجر ويهاجر من دون التفكير في العودة.
شهر من التركيز الإعلامي على مهرجانات القبيات، المردود الرئيسي يعود للفنانين، وأسبوع اصطياف لن يجعل القبيات وعكار على خريطة السياحة البيئية.
مزارعو سهل عكار يقتلعون أشجار الليمون، ومؤسسة الصفدي تقيم التجارب والندوات بمركزها في بلدة دير دلوم حول الزراعة المائية الاصطناعية.
في سياق منجزات التيار الوطني الحر في وزارات الطاقة والمياه، ولا سيما سد جنة، مشروعه السلحفاتي في تطوير بحيرة الكواشرة جعلها صحراء قاحلة منذ عام 2013 وموعد الإنجاز على مزاج الشركة المتعهدة.
تيار المستقبل يستحدث شعبة للجامعة اللبنانية/كلية العلوم في عكار، ومشروع المبنى الجامعي الموحد في الشمال ينتظر استكمال إنجازه منذ عشرين سنة.
ليس معيباً المطالبة بتشغيل مطار القليعات، وليس كثيراً على ابن أكروم ووادي خالد الاستفادة من الطاقة النظيفة في إنارة شوارع المنطقة. وتستحق عكار بمنطق الإنماء المتوازن حصتها في كلية واحدة على الأقل من كليات الجامعة اللبنانية وبخاصة كلية الزراعة. ولا ضير من الاستفادة مما بقي من بيئة نظيفة في عكار، وإقامة مشاريع سياحية فيها، على قاعدة نبش آثارها المدفونة في غير مكان ومنطقة. ولا شك في ضرورة الاستفادة من شاطئها الأقل تلوثاً على امتداد الشاطئ اللبناني.
لكنّ أمرين بديهيين يسترعيان الانتباه: الأمر الأول هو الجدوى الاقتصادية وتوزيع العائدات. الأمر الثاني، وهو الأهم، مَن هي الفئات الاجتماعية، وقوى الضغط، التي تملك المصلحة في إقرار المشاريع، أو تنظيم المطالبة بها؟ وأكثر ما يزعج السياسيين بالنسبة إلى الأمر الثاني هو تداعيات تولي الفئات الاجتماعية ذات المصلحة زمام مصيرها. وما معنى أن يَصدُق قول شعبي مأثور “فلاح مكفي سلطان مخفي”؟ وأين سيذهب باقي السلاطين من المدافعين عن حقوق الطوائف؟ كيف ستملأ دارات النواب والمرشحين بالزوار من الباحثين عن وظيفة، أو عن معاملة عالقة في أدراج الدوائر الرسمية المهترئة؟ وماذا عن المجالس البلدية عندما لا يعود الفوز برئاستها، مدخلاً لإقناع أصحاب النفوذ بزيادة الحصة من الوظائف والمنافع؟ وما الذي ستفعله المنظمات “غير الحكومية” في ندواتها حول تمكين المرأة وأساليب الحوكمة، إذا نشطت الزراعة وتشكلت التعاونيات الزراعية ونقابات المزارعين الحقيقية؟
بالعودة إلى ما ينفع عكار، انطلاقاً مما تقدمه ميزاتها الطبيعية، وما توفره من مجالات العيش ــ ولا نقول فرص العمل، فالتمييز بين فرصة العمل وإمكانية العيش ضروري جداً ــ وليس من قبيل متعة التفلسف في مجال الألفاظ والمفاهيم، بقدر الحاجة إلى مواجهة التجهيل بأبسط قواعد التنمية. فكَم من مقومات الحياة الكريمة يجري التفريط بها، لمصلحة الحصول على وظيفة لا يساوي مردودها جزءاً يسيراً مما كان يحصل عليه صاحب بستان صغير يوم كان العمل الزراعي وما يدور حوله من اقتصاد منزلي بسيط سائداً؟ والمفارقة العجيبة، وفق منطق تسليع كل شيء وإحكام ثقافة السوق، وبعد تحقير العمل الزراعي وملحقاته، نشر موضة منتجات الزراعة العضوية مقرونة بترجمتها الأجنبية Produits organiques، وهنا سرّ التعمية في فن التسمية.
قبل البدء بالزراعات العضوية (بتسميتها المودرن) وتحويلها إلى تجارة فائقة الربح، كان أي مزارع يمارس تلك الزراعة من حيث لا يدري، إذ يقوم بتخمير روث الحيوانات المتوافر في كل القرى. نجح السماسرة في جعل العمل الزراعي ملحقاً بحركة السوق، وأدخلوا المزارعين في سباق محموم لزيادة الإنتاج عبر المبالغة في استخدام الأسمدة الصناعية، فغرقوا في الديون. والأنكى من ذلك، فسدت الأراضي، وصارت المنتجات الزراعية تحتوي على مواد مسرطنة. دار المزارعون بحلقة مفرغة، لم يعد بإمكانهم العودة إلى نمط الزراعة التقليدي، إذ من دون استخدام مواد كيميائية لا يمكنهم تحقيق قدر من الإنتاج يصلح للمنافسة، وأعباء الاستدانة جعلتهم غير مكترثين بصحتهم وصحة أبنائهم. الصحة حق محصور بالأثرياء وببعض أبناء الطبقة الوسطى. هؤلاء الأخيرون انصرف كل منهم إلى ترتيب بستان يوفر لهم منتجات صحية، كما يوفر له أبهة تقريبه من أكابر القوم.
وللأثرياء نشأت مزارع عضوية خاصة، مثل مزرعة إبراهيم أبو كدل في بلدة ببنين، منتجاتها ليست لأهل ببنين إطلاقاً، بل هي للخاصة من الناس، تصلهم إلى بيوتهم بأسعار خيالية، أو للعرض في متاجر خاصة لا يقصدها عموم الناس.
(مروان بوحيدر)
ولأن السوق هي الناظمة لحركة المزارعين في عكار، حوّل مزارعو سهل عكار بساتين الليمون إلى بيوت محمية لزراعة الخضار، وعاشت جرود عكار أزمات مستدامة، تستعرضها من دون طائل دورياً المقالات الصحفية التي تطل موسمياً على معاناة أهالي الجرد. ففي مجال زراعة التفاح وحدها، لحظت جريدة الديار عام 1997 أن فنيدق أنتجت مليون صندوقة تفاح، ورأت جريدة اللواء أن فنيدق وحدها أنتجت عام 2012 أكثر من مليون صندوقة تفاح، وتحدثت الوكالة الوطنية للإعلام عام 2013 عن موسم مخيبٍ للآمال، لتعود صحيفة النهار العام الفائت وتخبرنا أن مليوني صندوقة “بانتظار تصريفها للخارج”.
عندما يدور الحديث عن مليوني صندوقة تفاح، يعني بحساب بسيط نحو مئة مليار ليرة لبنانية. وهو مبلغ قريب من الهبة التي وعدت الدولة اللبنانية بتقديمها لعكار مقابل نقل زبالة لبنان إليها. طبعاً، مع حفظ كرامة عكار الأبية.
لا جديد في سلوك الدولة هذا المسلك تجاه عكار، ولا استغراب فيه. لكن الغرابة في تماهي مطالب “ممثلي” الفئات الشعبية في عكار مع خطاب أركان السلطة. فباستثناء حالات “النق والدق” خلف الأبواب المغلقة، وفي اللقاءات الحميمة بين الأصدقاء والجيران، لا تتجاوز حالات الاعتراض المواقف الشكلية والشكاوي العابرة التي تزين خطابات ممثلي السلطة من نواب عكار ووزرائها ومسؤولي أحزابها الممثلة لأطراف السلطة. كالحديث الدائم عن الحرمان في عكار، وعن حقها في الإنماء المتوازن، وهو حديث يتساوى فيها الحاكم والمحكوم في عكار. وسرعان ما يتساوى الحاكم والمحكوم أيضاً في التعبير عن منجزات، ستنقل عكار من حال إلى حال.
ومن تلك المنجزات، ومن أشكال التعبير عنها، على سبيل المثال لا الحصر: لافتة على مدخل محافظة عكار، بجانب مفرق بلدة ببنين العكارية “آن لعكار أن لا تشتكي فقد نالت حقوقها”، والمناسبة تعيين ابن بلدة العوينات زياد شبيب محافظاً لبيروت!!
انتصرت عكار عندما اختيرت بلدة عكار العتيقة باختيارها “القرية المفضلة لدى اللبنانيين”، بحسب المسابقة التي أطلقتها صحيفة لوريان لوجور على مستوى مجموعة قرى وبلدات لبنانية. التصويت لعكار العتيقة شارك فيه على السواء عامة الناس ونواب عكار ومرجعياتها التي تشكو منها عامة الناس. وقد احتفل بالنصر في 16 آب بمهرجان سُمِّي “مهرجان فوز عكار العتيقة ــ القرية المفضلة لدى اللبنانيين”، بعد أن اعتبر البعضُ الفوزَ بمثابة ثأر من الإجحاف التاريخي اللاحق بعكار.
مهرجان القبيات السنوي إنجاز في عالم التنمية السياحية. ففي سنته الثانية أربع حفلات غنائية، نُشِّطت الحركة السياحية. الحفلات الغنائية الأربع ستزيد مبيعات المحال التجارية، وإشغال الشقق المعروضة للإيجار، وستعدل نسبة الحجز في الموتيلات المبنية حديثاً في القبيات، فضلاً عن تنشيط حافلات النقل وسيارات الأجرة، ناهيك بالسمعة السياحية التي ستخلق مناخاً لمصلحة التعريف بالمواقع البيئية في القبيات وجوارها. هنا أيضاً يتماهى خطاب سياسيي عكار مع خطاب العامة. وهنا أيضاً، تنطلق اعتراضات خجولة، إذ يقول رئيس اتحادات بلديات جبل أكروم، في إشارة إلى المبالغة بتقدير أهمية المهرجان على مستوى تنمية المنطقة: “الحمد لله الذي سخّر زوجة سعادة النائب هادي حبيش السيدة سينتيا لتقيم لنا مهرجانات القبيات لننعم بالتيار الكهربائي”. ففي الواقع، تزامنت مهرجانات القبيات لصيف عام 2016 مع حركة تقنين قاسٍ جداً للكهرباء، إذ اقتصر تزويد القبيات وسائر مناطق عكار بما يراوح بين الساعة والساعتين يومياً، وكان لافتاً الارتفاع المفاجئ لنسبة التغذية بالتيار الكهربائي على مدى أيام المهرجان، لعلّه لا يليق بالزوار من الوزراء والنواب وعلية القوم أثناء تأدية واجباتهم في تنمية السياحة الفنية في عكار أن يمروا بشوارعها وهي خالية من الإنارة العامة. ومع ذلك، اقتصر الاعتراض الشعبي على اعتصام يتيم في ساحة حلبا، لم يتجاوز عدد المعتصمين فيه بضع عشرات الأشخاص من محافظة يقارب عدد سكانها من دون النازحين السوريين نحو نصف مليون.
وداعاً لأشجار الليمون في سهل عكار
يترحم فلاحو سهل عكار على حكم البكوات، بالمقارنة مع الاستعباد الذي يمارسه السماسرة وتجار الأسمدة والمبيدات الزراعية، يقول علي طه عضو مجلس بلدية تلحياة، وهو يتنقل بين البساتين التي كانت لأيام معدودة مغمورة بأشجار الليمون المعمرة، ثم استحالت صحراء جرداء، تمهيداً لتحضيرها لزراعة الخضار في البيوت المحمية. سنوات من كساد المواسم، آخرها وأفظعها الموسم الأخير: سعر كلغ ليمون الفالنسيا (أفضل أنواع الليمون) مئتا ليرة. أما المشموشي (الإيفاوي) فيا ليته كان “ببلاش”، إذ دفع رئيس بلدية تلحياة أجوراً للشغيلة لرمي ما يقدر بـ12 ألف صندوقة أرضاً، لأن أحداً لم يأتِ لشرائها. هذه هي حال سهل الليمون الذي شهد طفرة في زراعته منذ خمسينيات القرن الماضي، والآن ما عادت المواسم تغطي جزءاً يسيراً من كلفة الإنتاج. لذلك تشهد مئات الهكتارات في سهل عكار اقتلاع أشجار الليمون ويُستبدَل بها أنواع جديدة في البيوت المحمية. طفرة البيوت المحمية بلغت بتقدير طه 8000 بيت للزراعة المحمية، بدأت تتراجع جدواها الاقتصادية، فالتحق المزارعون بموضة جديدة، هي زراعة أنواع مهجنة من العنب، تثمر في نيسان. ترعى زراعة العنب الجديدة إحدى الشركات الزراعية بكلفة 80 ألف دولار للهكتار الواحد. الشركة الزراعية توفر البنية التحتية والشتول للمشاريع، مع وعد بأرباح مجزية. لكن طه يشكك في دوام الأرباح الموعودة، ويتوقع أن يصبح المزارعون عبيداً للمصارف المقرضة، وهي عبودية أين منها عبودية ملاك الأراضي في زمن الإقطاع الزراعي.
نهر الأسطوان غريق بمستنقعات الصرف الصحي
توفي الثامن من آب الجاري الفتى محمود غسان عزام (16 عاماً) من نهر البارد غرقاً في نهر الأسطوان. وفاة الفتى الفلسطيني مرّت ضمن باقة الأخبار السريعة على صفحات بعض وكالات الإعلام. لا سؤال عن ظروف الوفاة، لا احتجاج، ولا تحقيق. مواقع التواصل الاجتماعي في مخيم نهر البارد فقط، نقلت صور آلاف من مشيعي الفتى الغريق إلى مثواه الأخير في جبانة الشهداء الخمسة.
قبل أسبوع واحد على موت محمود عزام، أحدثت وفاة الطفل كيفن متلج في البترون ضجة عارمة. تصدرت نشرات الأخبار ألوان التقصير الذي أدى إلى الوفاة، لم يبقَ لبناني إلا وتأثر بالفجيعة. طاولت المساءلة والتحقيقات السيدة المشرفة على تنظيم رحلة الأطفال إلى المسبح، وطاولت مسؤولي منتجع الصواري. في البترون مخيم ترفيهي، وفي البارد مخيم للبؤس والمرض والموت. وجهة ترفيه أبناء المخيم نهر الأسطوان، ونهر الأسطوان يرفده نبعان ومئات قنوات الصرف الصحي.
في البترون مساءلة وتحقيق ورقابة صحية ووقائية فيها الكثير من التقصير والفساد. (بالمناسبة، ليس القصد التقليل من مأساة وفاة الطفل). أما في عكار، فلا حاجة لأي فحوصات مخبرية: لون نهر الأسطوان أسود ورائحة الصرف الصحي واضحة للأنوف، ومع ذلك تحاذيه المطاعم والمتنزهات، وتستخدم مستنقعاته مسابح.
الصرف الصحي في عكار
إلى الوديان والأنهار دُرْمشروع الري الذي يجري من نهر البارد باتجاه قرية قبة بشمرا وجوارها في سهل عكار، ترفده مجارير ببنين والمحمرة وبرج العرب. مجارير قرى وبلدات الحاكور وعرقا وكرم عصوفر والقنطرة تصبّ في نهر عرقا. نهر عرقا تصبّ فيه مجارير قرى وبلدات الحاكور وعرقا وكرم عصفور والقنطرة. النهر الكبير الجنوبي يبدأ بتجميع الصرف الصحي من معبر البقيعة الحدودي مروراً بمنطقة العبودية الحدودية لينتهي ببحيرة من المياه الآسنة تحت جسر العريضة.
أما نهر الأسطوان الأكثر شهرة، لتميزه بالمطاعم والمتنزهات والمسابح، فـ”من دهنه سقّي له” نأكل ونشرب ونرمي الفضلات في النهر، والأولاد يسبحون في مياه ملأى ببراز الأهل بكل طمأنينة وسلام.