سعدى علوه
سواء كان اسمها حُشبة، أو مربع خراج طليا وطاريا ـ حزين ـ شمسطار ـ وحدث بعلبك، غيّر أهــالي ذلك السهل الممتد في غرب مدينة الشـمس، وتحــديداً من الحد مع حزين إلى حدود حوش الرافقة، عند المنعطف نحو بدنايل مروراً بحوش سنيد وحوش النبي، اسم منطقتهم إلى «المربع المنكوب».
عندما اشترى فياض حميّة نحو 300 دونم من الأراضي مــن آل الجــبلي قبــل نحو خمسين عاماً من اليــوم، ضمنها تل الليطاني «الغناء» كما كان مشــهوراً، وبالقرب منه طاحونة حزين الجــميلة، لم يكــن يعــرف أن تركته القيّمة، والتي حسده عليها كثيرون، ستتحوّل نقــمة على ذريته من بعده.
اليوم تعيش ذرية فياض حمية من ولديه حسين وعباس، نقمة جيرة الليطاني بعينها، وتحديداً منذ العام 2000، كما يقول زاهي حمية، ابن حسين.
يومها اكتمل إيصال مياه الصرف الصحي غير المعالجة إلى الليطاني من بلدات وقرى بدنايل والحمودية وحزين وحوش العرب وحوش النبي والحلانية والنبي شيت والشحيمية وحوش باي وشمسطار. ولم تقصّر المعامل أيضاً من معمل رولان سعادة إلى «ليبان ليه» على يسار حُشبة ويمينها، كما معمل أحمد توفيق سليمان ومعمل فيصل يزبك (أحجار باطون). حوصر أهل المربع بين الروائح والنفايات، سائبة وصلبة، التي تلوث النهر.
بعدما جفت الينابيع التي كانت تغذي الليطاني صار المجرى فارغاً إلا من النفايات السائلة والصلبة على أنواعها.
وحدها رؤوس الغنم التي امتلكها شقيق زاهي حمية كانت المؤشر الأول على الخطر الذي يحيط بسكان حُشبة. كان حمية يملك 150 رأس غنم. بعد وصول تلوث الليطاني إلى حده صارت رؤوس الأغنام تموت الواحدة تلو الأخرى كلما شردت إحداها وشربت من النهر.
لم ينتبه حمية إلى سبب موت أغنامه إلا عندما راقب إحداها التي نفقت بعدما شربت من المستنقع الآسن الذي كان اسمه الليطاني. تغيّرت مهمة الراعي، لم يعد يركز على الحفاظ على القطيع أو حمايته من الذئاب، كما قال، بقدر حراسته من الاقتراب من النهر.
في المكان الذي كانت ترعى فيه أغنام حمية يقف أحد الرعاة السوريين الذي كان يهتم بحراسة قطيع بقر صغير، على حافة النهر. يقول الراعي إن مسؤوليته الأساسية هي في منع البقرات من الاقتراب من الماء الأسود المتجمع في المكان. يترك العجول والثيران تقترب فيما يحرص على حماية البقرات «لم يمت البقر من النهر، هو أقوى من الأغنام، ولكن طعم حليبه يتغيّر».
يذكّر كلام الراعي بما قاله أحد أبناء قرى غرب بعلبك عن شتول الحشيشة التي زرعت في مكان ما على مجرى الليطاني «أصلاً بضاعة هيدي الحشيشة مضروبة بالمجارير، ولا نجد مَن يشتريها إذا عُرف مصدرها».
واحة حشبة..
تتوزع منازل حُشبة مع حدائقها حول الليطاني. يبدو المربع من بعيد أشبه بواحة جميلة مع أشجار الحور والصفصاف المروية بمياه الآبار. تصل إلى حُشبة فتلاقيك الروائح الكريهة والكثيفة ومعها كوارث العيش في المكان.
تبدو الأراضي الموزعة على ضفتي النهر خضراء. هنا دخان وهناك بطاطا ولوبيا وأنواع أخرى من الخضار. أما حقول القمح فقد حصدها حزيران.
لن يلزم المرء الكثــير من الوقــت ليلحظ ما يسمّونه «المشاريع»، مشاريــع الري على مجارير القرى ومعاملــها، وليــس الليطاني في الحقيقة. هناك حَفَر كل مزارع حفرة كبيرة تنساب إليها مــياه الصرف الصحي عبر الحاجز الترابي، أو ســد النهر ببعض الردميات الترابية ليشكل خزاناً صغيراً لنفسه.
يضع المزارعون مضخات تقذف بمياه الصرف الصحــي إلى حقولهم. وعندما يتم تشــغيل مرشــّات المــاء، وهي إحدى طرق الري المعتمدة غــير «التنقيط»، تتضاعف الروائح بطريقة لا تُحتَمَل. يحرص معظم المزارعين على الابتعاد عن الحقول عند تشغيل المرشّات لأن أي ملامســة لمائها تعــني الإصــابة بمرض جلــدي يســتغرق علاجــه أشــهراً.
هناك كان محمد حمية قد أعاد ابنته الصغيرة من بيت جدها في بعلبك قبل يومين فقط. تعرّضت ابنة السنتين لعقص البعوض فامتلأ جسدها بالحبوب الكبيرة الملتهبة. قال لهم الطبيب الجلدي فوراً «ساكنين حد مجرور مفتوح؟». وأضاف أنها تحتاج إلى علاج وحجر صحي عن النهر «لا تردّوها إلى البيت حتى تتعافى كلياً». وعليه، حملت الصغيرة حقيبتها وسكنت في دار جدها لأمها شهراً كاملاً مع أدوية مضادة للالتهابات والحساسية.
يقول زاهي حمية إن سكان حُشبة لا يتناولون خضارها ومنتجات أرضها «حتى لو كانت الماظ». يشترون حاجاتهم من حزين أو من أراضي منطقتهم التي «تروى لناحية الشرق من الآبار الارتوازية». حمية نفسه يعرض بعض أرضه اليوم للبيع ليشتري حافلة صغيرة لنقل الركاب إلى بيروت ومنها «كنا أولئك الذين ينطبق عليهم المثل: فلاح مكفي ملك مخفي، بينما صرنا اليوم نتندر ع القرش، بعدما قتل التلوث مواسمنا والنهر وكل حياتنا المرتبطة به وتسبب لنا بالأمراض».
يقول قريب حمية، وهو شاب ثلاثيني، إنه مريض مع جميع أطفاله بالربو. يبدأ الداء المرتبط بالجهاز التنفسي والرئة بالظهور على الصغار بعد ولادتهم بأشهر «ولا حيلة لنا بالسكن بعيداً». يقول عباس حمية إن بعض مناطق النهر القريبة من معامل الألبان تبدو كما منظر الثلج على الجبال من رغوتها البيضاء السامة. بعد المجارير الصناعية بقليل وزوال الرغوة يظهر اللون الأســود والأخضــر المتعــفّن للمــياه جلياً: إنهــا مــياه المجــارير، «وهــنا نعــيش»، وفــق ما يخــتم بأسى.
ليس بعيداً عن حُشبة، وتحديداً في طليا التحتا أصيبت الطفلة بتول المصري (13 سنة) بحساسية كادت تودي بحياتها. تناولت الصغيرة صحن تبولة من بقدونس مروي من مياه الليطاني جلبته لهم جارتهم على النهر. كان البقدونس غضاً وطرياً فلم تتنبه أمها لخطر ريه. بعدها بساعات تورم فم الصغيرة وفي الصباح بدأ القيح بالخروج من نيرة أسنانها، فيما نزف الدم من تحت أظافرها. فوراً حددت الطبيبة السبب «من خضار مروية بمياه الليطاني، لديّ الكثير من الحالات المشابهة، توقفوا عن تناول تلك المزروعات فوراً». عانــت بتــول الكثــير، كانت تغسل فمها بالدواء المضادّ للبكتيريا فيرشح الدم من نيرتها وشفاهها فتبكي وتبكي من دون توقف. اليوم لم تعُد بتول تطيق النظر إلى التبولة ومعها كل الخضار. بقيت لأشهر كاملة لا تأكل غير الأرز والأجبان واللحوم.