استمرت أجواء الهدوء الحذر في عين دارة – قضاء عاليه طوال الأسابيع القليلة الماضية، بعد تحركات واتصالات ولقاءات شهدت مواجهات بين الأهالي وآل فتوش الذين حاولوا البدء بأعمال مصنع الاسمنت والمجمع الصناعي بالقوة، لكن يبدو الآن أن عين دارة موعودة بفصل جديد من المواجهة، خصوصا وأن معمل الإسمنت الذي رفضته زحلة، يصر آل فتوش على تمريره بسلطة الأمر الواقع.
ولجأ آل فتوش إلى مجلس شورى الدولة الذي أصدر القرار الإعدادي رقم 352/2015-2016، وجاء صادما، إذ قضى بوقف تنفيد قرار بلدية عين دارة واعتبار ترخيص بناء المجمع الصناعي نافذا وقانونيا ومستوفٍ كافة الشروط القانونية المطلوبة، ما يضع المجتمع المدني أمام تحدٍ جديد، وخيار صعب، فإما المجابهة والرفض، وأما الخضوع والإذلال، فهل هناك مسوغ لكل هذا الرفض من قبل أهل عين دارة والجوار؟ وما الدلائل العلمية على أن هذا المجمع الصناعي قد يتسبب بمشاكل بيئية لكل المنطقة؟ للإجابة عن هذا السؤال، يعود موقعنا greenarea.info لفتح الملف، بالتركيز على الحجة العلمية الدامغة حول معامل الإسمنت وضررها بالإعتماد على مراجع علمية، وتواصلنا في هذا المجال مع المهندس جان بدر الذي ساهم بشرح علمي مفصل حول عملية تصنيع الإسمنت، ومراحل التلوث فيه.
ثلاث شركات محتكرة في لبنان
تعتبر صناعة الإسمنت والمشتقات الإسمنتية من الصناعات الثقيلة والخطرة، وتتخوف العديد من المنظمات الدولية البيئية من مخاطرها البيئية والصحية، لجهة ما تساهم به من تلوث يطاول الهواء بشكل خاص عند تواجدها بالقرب من المناطق السكنية، وتساهم هذه المصانع بـ 5 بالمئة من انبعاثات الغازاتح ول العالم وخصوصا غاز ثاني أوكسيد الكربون المسبب للاحتباس الحراري، وتقارب قيمة انبعاثاتها ما تصدره معامل الكهرباء العاملة على الفحم، وينتج تصنيع طن واحد من الكلينكر وهي المادة الأساسية في الإسمنت بين 0,85 و1.15 من ثاني أوكسيد الكربون، وتصدر عن هذه المصانع العديد من الملوثات الغازية منها أكاسيد النيتروجين والكبريت وثاني أوكسيد الكربون وأول أوكسيد الكربون، بالإضافة الى الدقائق المحمولة PM2.5 و PM10 الناتجة من عملية الإحتراق على شكل غبار ذي أقطار صغيرة تقاس بـ “الميكرون”، وهذه الغازات، فضلا عن هذه الدقائق النانوية، تتسبب بتلوث كبير للبيئة المحيطة، فضلا عن المعادن الثقيلة كالزئبق والكادميوم.
في لبنان تم تقاسم السوق بين 3 شركات محتكرة، وهي “هولسيم”، “الترابة الوطنية” (السبع) و”ترابة سبلين”، وعندما نصف هذه الشركات بالمحتكرة لأنها تفرض سعرا يقدر بـ 110 دولارات لطن الإسمنت، بينما تصدره إلى الخارج بسعر لا يتجاوز 70 دولارا، وأسباب هذا الإحتكار معروفة، كون مصانع الاسمنت تملكها بصورة مباشرة أو غير مباشرة مرجعيات سياسية أو دينية، أو محميّة من زعماء سياسيين، وتستأثر “السبع” بالحصة الأكبر من السوق اللبنانية بـ 44 بالمئة، هولسيم بـ 38 بالمئة وسبلين بنسبة 18 بالمئة.
مراحل تصنيع الإسمنت
وفي اتصال مع المهندس جان بدر، قال لـ greenarea.info: “يتم تصنيع الإسمنت من مادة الحجر الكلسي Limestone CaCO3 بشكل رئيسي، بنسبة بين 80 و85 بالمئة، بالإضافة إلى الطين Clay بنسبة بين 15 و20 بالمئة، ومواد أخرى مثل الحديد والسليكون والألمنيوم، ويتطلب تصنيع طن من مادة الكلينكر المكون الرئيسي في الإسمنت 1028 كيلوواط طاقة”.
وقال: “تحتاج هذه الصناعة إلى عدة مراحل، وترافق كل منها أنواع مختلفة من الملوثات، في المرحلة الأولى، يتم القيام بعملية تفجير وحفر للصخور الكبيرة المكونة من الحجر الكلسي ونقله إلى المعمل لتكسيره إلى قطع صغيرة بقطر ما بين 20 و70 ميليمترا، وينتج عن هذه المرحلة ملوثات بسبب عملية التفجير، فضلا عن عملية نقل الصخور وطحنها وفصلها، وما ينجم عنها من تشقق الطبقة الحامية للمياه الجوفية، لتتبعه المرحلة الثانية، حيث يتم فصل الحجر الكلسي الجيد عن النوع السيء باستخدام المياه واستهلاك الطاقة، وهذه المرحلة تتسبب بتلوث المياه، فضلا عن المواد الملوثة الناتجة عن حرق الوقود”، وأضاف “أما المرحلة الثالثة من الإنتاج فهي طحن وخلط المواد الأولية، وينتج عنها أيضا المياه الملوثة، فضلا عن استهلاك الطاقة، والمرحلة الرابعة هي تسخين المزيج الأولي وما يرافق ذلك من مياه ملوثة واستهلاك للطاقة، بالإضافة إلى بعض الملوثات الغازية التي تنبعث نتيجة عملية التسخين”.
وقال بدر: “أما أهم المراحل وأكثرها تلويثا فهي المرحلة الخامسة، وهي عملية التكليس Calcination والتحويل إلى كلينكر، باستخدام الفرن والحراق الكبير Rotary Klin، وينتج عن هذه المرحلة كميات كبيرة من الجزيئات الدقيقة PM2.5 وPM10 والمرتبطة بأمراض الجهاز التنفسي والقلب، بالإضافة إلى الأمراض السرطانية، فضلا عن غازات ملوثة وبكميات كبيرة أيضا، منها ثاني أوكسيد الكربون، أوكسيد النيتريك، ثاني أوكسيد النيتروجين وغيرها، واستهلاك الطاقة، ولكن هناك أيضا بعض المواد الملوثة والخطرة في غبار مادة الكلينكر منها أوكسيد الكالسيوم، ومعادن سامة منها الزرنيخ Arsenic، الكروم Chromium، الكادميوم Cadmium، الأنتيموني Antimony، الباريوم Barium، البيريليوم Beryllium، الرصاص Lead، الفضة Silver، الزئبق Mercury وغيرها، ولا يجب أن ننسى ما يرافق هذه العملية من المركبات العضوية السامة والمسرطنة، وأهمها الديوكسينات Dioxins والفيوران Furans، لتتبعها المرحلة السادسة وهي عملية التبريد التي يرافقها، فضلا عن الجزيئات الدقيقة والغازات الملوثة السابقة استهلاكا كبيرا للمياه والطاقة وتلوث المياه نتيجة عملية التبريد”.
وأضاف “عند هذه المرحلة يتكون الكلينكر ليصار إلى طحنه، وما يرافق ذلك من استهلاك الطاقة، أما المرحلة الأخيرة فهي تعبئته ونقله، قد يصل إنتاجه إلى ما تنتجه المعامل الثلاثة مجتمعة، وقد تصل هذه الكمية إلى ستة ملايين طن سنويا، تتطلب 210 آلاف شاحنة لنقلها، أي بمعدل 600 إلى 700 شاحنة يوميا، فلنحاول أن ندرس إمكانية طرقنا المكتظة استيعاب هذا العدد من الشاحنات، وما يرافقها من ضرر عليها وحوادث وغيرها، فضلا عن التلوث الناتج عن استخدام هذه الشاحنات للديزل”، ولفت بدر إلى أن “مساهمة المراحل المختلفة في التصنيع في التلوث تقدر بين 50 و55 بالمئة في عملية التكليس، وتساهم عملية إحراق الوقود بين 40 و50 بالمئة بينما إنتاج الكهرباء بين صفر و10 بالمئة، وهنا نود التذكير أن المواد المخلوطة تحتاج إلى 1400 درجة مئوية لتتكون عبرها مادة الكلينكر”.
معارضة المشروع
وعن أسباب معارضة “هذا المشروع التنموي” كما يصفه آل فتوش قال بدر: “يعتبر هذا المشروع تنمويا في بلاد شاسعة، عندما يبنى في منطقة بعيدة منعزلة، وأن لا يكون على هذا الإرتفاع بحيث ينشأ ما يسمى بمظلة تلوث، وتنتقل الإنبعاثات فيها بشكل سريع بواسطة الرياح إلى مسافات واسعة، ولا نستغرب أن تنال زحلة وقرى عدة أخرى حصة من هذه الإنبعاثات وهي التي رفضت إنشاء المصنع هناك، وبنسبة أكبر عين دارة، ولكن ما نتخوف منه بالإضافة إلى هذا الخطر المحدق، هو تلوث المياه الجوفية، وتعتبر عين دارة خزانا جوفيا هائلا يغذي مناطق تصل إلى زحلة شرقا والساحل غربا والمنطقة تعتبر جزءا من محمية الأرز أيضا والتي تقدر مساحتها بـ 5 بالمئة من مساحة لبنان، عدا عن وجود أعداد هائلة من الشاحنات ستمر عبر قرانا، وقد تنثر مادة الكلينكر السامة المسرطنة، ومن النموذجي وجود هذه المصانع قريبة من مكان التصدير أو على الشاطئ، وهناك نقطة أخرى وهي أن عدد هذه المصانع حاليا بالنسبة لمساحة لبنان هي من أعلى النسب في العالم، وإن تم إنشاء هذا المصنع العملاق، فما نتخوف منه أن يعاني اللبنانيون من أمراض تنفسية وسرطانية بشكل كبير”.
وهنا نتساءل عن موافقة وزارتي الصناعة والبيئة على هذا المشروع، وكيف تم الحصول عليها على الرغم من كل هذه المعلومات المقلقة والتي من المؤكد أن من أعطى هذه الموافقة على علم بها؟ فهل تتفوق سلطة المال على الدراسات العلمية؟ وهل سيسمح أهل عين دارة وجوارها بإقامة هذا المصنع؟ وها سيرضون باستباحة أرض بلدتهم لتصبح منبعا للتلوث؟