تتناقل الأخبار نبأ وفاة أحد المواطنين في القاسمية وهو يسبح في النهر. خبر مأساوي بكل الأبعاد، وهو دليل إضافي على فوضى وارتباك إدارة أزمة الليطاني من قبل كل الوزارات المعنية بها وفق القانون والصلاحيات، وفي المقدمة منها وزارة الطاقة والمياه، وطبعا المصلحة الوطنية لنهر الليطاني.
لن نناقش هنا أسباب تراكم التلوث الشامل على امتداد عقود من الزمن في الحوض الأعلى لنهر الليطاني وبحيرة القرعون من جهة، ومؤخرا في السنوات القليلة الماضية في الحوض الأسفل لنهر الليطاني، من السد وحتى القاسمية من جهة ثانية. بل سنكتفي بالإشارة إلى الإرتباك الشديد الذي نشهده حيال التعامل مع أزمة تلوث النهر والبحيرة، في حوضيه الأعلى والأسفل، من قبل كل السلطات المعنية بالتعامل مع هذه الأزمة.
هنا نرى قرارات بموازنات بمئات ملايين الدولارات، والبعض يذهب إلى أرقام تتجاوز المليار دولار، وهناك من يختزل دوره إلى رفع دعاوى على هذا وذاك، و”كفى المؤمنين شر القتال”. وهناك من “يهدِّد” الصناعيين بحرمانهم من شهادات الإلتزام، بدل إلزامهم بمعالجة نفاياتهم السائلة على نفقتهم، وفورا في مهل قصيرة لتنفيذ هذا الإجراء، الذي تأخروا عن القيام به سنوات طويلة، وهناك من يكتفون بالتصاريح المملَّة كلَّ يوم، أو عقد المهرجانات والضجيج الإعلامي، في حين تستمر أسباب التلوُّث بالتدفُّق على النهر وروافده وبحيرة القرعون، اللَّهُمَّ إلَّا ذلك القرار الجريء والسليم للقضاء بوقف العمل بالمرامل ومغاسل الرمل إلى إشعار آخر.
الكلُّ يعترف الآن بأن مياه النهر والبحيرة ملوَّثة إلى درجة لم تعد صالحة معها لشيء، حتى للري لم تعد صالحة. وأصبح مرور قنوات نقل مياه البحيرة في مشروع الـ 900 متر يشكل إزعاجا للمواطنين لا يحتمل، حيث الروائح الكريهة تنتشر في المنطقة، وصولا إلى إقفال القناة بالحجارة وفرض وقف الضخِّ بالقوة. يرافق هذا الإعتراف إرتباك فظيع بالخطوات التي تتخذ، وبالقرارات التي يتم تنفيذها فورا دون تطبيق إجراءات الطوارىء الضرورية بشأن إبلاغ البلديات المعنية، وإعلام المواطنين من خلال كل وسائل الإعلام وعلى مدى بضعة أيام، تفاديا للمخاطر التي تترتب على أي تبديل فجائي في وضع مجرى النهر في حوضه الأسفل.
كان على السلطات المعنية، التي اتخذت قرار فتح مخارج جدار سد القرعون لتدفق عدة أمتار مكعبة بالثانية من مياهه في مجراه الجنوبي، أن تحيط كل البلديات في هذا الحوض علما بذلك، وأن تعلن في كل وسائل الإعلام عن هذا الإجراء ولعدة أيام، حيث أن إجراءً كهذا سوف يكون له تبعات كبيرة، تُغيِّر واقع هذا المجرى الذي كان موجودا قبل هذا الإجراء.
كيف كان واقع مجرى النهر في حوضه الأسفل قبل فتح مخارج السد؟
- بضعة كيلومترات من جدار السد جنوبا خالية تماما من المياه، مجرى النهر جاف كليا.
- مجارير “سحمر” تصب مباشرة في مجرى النهر الجاف من مياهه، وتسيل لمسافة تقارب 3 كيلومتر، وتُشبِع مجراه.
- بعد “نهر” مجارير سحمر هناك مجرى جاف كليا لمسافة تقارب 1.5 – 2 كلم.
أول مياه تتدفق إلى مجرى نهر الليطاني هي المياه الخارجة من نفق معمل مركبا للكهرباء، وهي خليط من مياه البحيرة ومياه نبع عين الزرقا، الواقعة جنوب جدار السد والمحبوسة عن التدفق في مجرى النهر لاستخدامات أخرى. تقدر كمية المياه الخارجة من النفق بحوالي 2 – 2.5 متر مكعب بالثانية.
تتدفق مياه النهر في مجراه باتجاه الجنوب، وتنحرف نحو الغرب بالقرب من دير سريان، حيث تصب فيه مياه عدد من الينابيع الصغيرة والمتوسطة، لتصل كمية المياه السارية في النهر إلى حوالي 4 – 4.5 متر مكعب بالثانية.
عند مشروع الزرايرية، يتم تحويل كامل كمية المياه السارية في مجرى النهر إلى قناة مشروع ري القاسمية ورأس العين، حيث يتم إبقاء مجرى النهر، بعد سد التحويل، خاليا تماما من المياه. وهكذا يبقى مجرى نهر الليطاني جافا تماما من الزرايرية حتى مصبه في القاسمية، أي لمسافة حوالي 9 كيلومترات. تذهب كامل مياه النهر في القناة إلى ري بساتين صور وصيدا.
نتيجة رمي وجرف الرمول والطين والطمي، الناتج عن عمل العديد من المرامل ومغاسل الرمل، ليس فقط لتلك المرامل الواقعة مباشرة على ضفتي النهر، بل أيضا تلك الواقعة في الهضاب والجبال في حوض النهر، والمرتبطة مائيا به عبر ينابيع جارية، أو عبر مجاري السيول الشتوية التي تتجه كلها نحو النهر، قد جرى تشويه مجرى النهر، حيث تراكمت كميات هامة من الرمل والطين والطمي في مختلف أقسام مجرى النهر، وتفاوت ارتفاع هذه الترسبات الطينية والرملية من بضعة عشرات من السنتيمترات إلى أكثر من متر في بعض المواقع. هذا الواقع غيَّر كثيرا من طبيعة النهر ولون مائه، وجعل من السباحة فيه أمرا محفوفا بمخاطر الغرق، إضافة لمخاطر التعرض لمياه عالية التلوُّث الجرثومي نتيجة صرف المياه المبتذلة في مجراه وفي حوضه.
ماذا حصل عند فتح مخرج جدار سد القرعون ليسمح بتدفق كمية مياه في مجرى النهر، قدرت بحوالي 2 مترمكعب بالثانية، إضافة إلى الإفراج عن كمية قليلة من مياه نبع عين الزرقاء أيضا، حسب ما تناقلته الأخبار؟ هذا يعني أن كمية تقدر بالحد الأدنى بـ 3 أمتار مكعبة بالثانية، تدفقت إلى مجرى النهر، مما أدى إلى المتغيرات التالية:
-تدفق المياه في الأقسام الجافة من مجرى النهر جنوب جدار السد مباشرة، أي لمسافة تقدر بحوالي 7 كلم من جدار السد حتى مخرج نفق معمل مركبا. هذه المياه جرفت معها كميات هائلة من المياه المبتذلة والملوثات الجرثومية وغير الجرثومية المتراكمة على مدى سنوات في “نهر” مجارير سحمر، وضمتها إلى مياه النهر المتدفقة بقوة بعدما أصبحت كميتها حوالي ضعف ما كانت عليه قبل فتح مخارج البحيرة.
-زادت كمية المياه المتدفقة في مجرى النهر، وزادت عن قدرة قناة ري القاسمية عن التحمل فسارت في مجراه الذي كان جافا، أو أنها حُوِّلت إلى مجرى النهر لتتابع تدفقها نحو المصب في القاسمية. هذا الجزء كان جافا كليا، فإذا بكميات تقارب كميات مياه النهر تتدفق فيه، حاملة كميات كبيرة جدا من الملوثات الجرثومية وغير الجرثومية من المياه المبتذلة المتراكمة، ومياه بحيرة القرعون هي أصلا عالية التلوث، وكذلك جارفة معها كميات كبيرة من الرمول والطين والطمي، مما جعل السباحة مغامرة خطيرة في أماكن كانت سابقا صالحة لذلك.
آخذين بالعلم أن انحدار مجرى النهر في حوضه الأسفل هو انحدار كبير في كثير من المواقع، وبشكل عام، يمكن القول أن الإنحدار قويا، إذ أن مياه السد تتدفق من ارتفاع 800 متر عن سطح البحر حتى البحر (مستوى صفر)، على مسافة قصيرة نسبيا، لا تتجاوز الـ 60 كلم من السد حتى المصب في القاسمية.
السؤال الكبير، هل يمكن أن نقوم بعمل له هذا التأثير، ويؤدي إلى كل هذه المتغيرات الخطيرة دون إعلام مسبق وفق خطط الطوارىء المعمول بها عالميا في مثل هذه الحالات؟
لماذا لم يتم إشعار البلديات؟ ولماذا لم يتم الإعلان في كل وسائل الإعلام ولأيام عدة عن نية فتح مخارج البحيرة؟
سيل من الأسئلة المشروعة تنتظر الإجابة عليها، لكي يخرج المسؤولون عن إدارة هذه الأزمة من حالة الإرتباك الخطير، الذي يدفع ثمنه في كل الحالات المواطن اللبناني.