إدارة المياه المبتذلة ومعالجة الصرف الصحي واحدة من كبريات التحديات في لبنان أمام الحكومة ومؤسساتها والبلديات وكل المجتمع. فهي شكلت على امتداد العقود الماضية وحتى الآن مصدرا هاما لتلوث البيئة، وعلى وجه الخصوص تعريض الموارد المائية العذبة، السطحية والجوفية وكذلك الينابيع، والبحر، والتربة أيضا، لمخاطر التلوث الجرثومي والعضوي والكيميائي، وتهديد الصحة العامة بكثير من المخاطر الجدية، حاليا ومستقبلا.
الكارثة الوطنية الكبرى التي يعيشها لبنان مع تلوث نهر الليطاني وبحيرة القرعون تختصر المأساة البيئية المترتبة عن سوء إدارة المياه المبتذلة، وفشل السياسات والاستراتيجيات المعتمدة حتى الآن من قبل الحكومات المتعاقبة و”مجلس الإنماء والإعمار” في هذا الملف بالتحديد.
تشير التقارير إلى أن “مجلس الإنماء والإعمار” أنفق حوالي 900 مليون دولار على مشاريع إدارة الصرف الصحي، بين شبكات مجارير ومحطات للمعالجة. فما هي النتيجة الواقعية المحققة اليوم؟ لكي نحكم على ضوئها إن كانت هذه السياسات والاستراتيجيات مجدية، أم هي ضرب من ضروب هدر الأموال العامة في مشاريع غير فعالة وغير ذات جدوى.
اليوم نحن “ننعم” بمجموعة من الشبكات غير المكتملة في عدد من مدن وبلدات وقرى لبنان، بمعظمها غير متصلة بمحطات للمعالجة، أي متجهة لتصب في البحر أو في الأنهار وأحواضها، ولا سيما في نهر الليطاني وبحيرة القرعون وحوضيهما، أو موجهة للتدفق في الوديان محدثة جداول من المياه الملوثة، مهددة التربة والمياه السطحية والجوفية بالتلوث، والصحة العامة بانتشار الأوبئة والأمراض المعدية والخطيرة. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، “ننعم” أيضا بعدد من المحطات لمعالجة المياه المبتذلة غير الموصولة بعد بشبكات مجاري الصرف الصحي، أو المتوقفة عن العمل كليا، أو التي عملت لفترات قصيرة وتوقفت بعدها لأسباب عديدة، أو التي تعمل بدون أي جدوى بيئية أو صحية أو مائية أو تنموية بشكل عام. فمحطة النبطية مثلا، تقوم بالمعالجة الثانوية Secondary treatment كما يقال، ومن ثم ترمي المياه المعالجة في المجرور الذي يتدفق تحتها على بعد أمتار قليلة متجها نحو وديان النميرية. أو أنها محطات صممت بالأصل دون أي جدوى، مثل محطة الغدير لتقوم بعملية ما “قبل المعالجة” Pretreatment وترمي المياه المبتذلة في البحر دون أي معالجة. لكي لا نحمل ضميرنا بظلم المعنيين بشأن هذا الموضوع، نطالب “مجلس الإنماء والإعمار” بنشر بيان يوضح فيه بشفافية وجرأة حالة محطات المعالجة الواقعية اليوم.
نحن أمام كارثة بيئية حقيقية مع تلوث الليطاني وبحيرة القرعون، ولا بد من وضع خطط المعالجة الفعالة، من إنشاء وتشغيل عددا كافيا من محطات معالجة المياه المبتذلة ذات القدرة الكافية، لكي تقوم بمعالجة كل كميات المياه المبتذلة المتولدة في مدن وبلدات وقرى ضفتي نهر الليطاني على امتداد مسيره من المنبع في غرب بعلبك وحتى المصب في القاسمية شمال صور. يمكن لهذه الخطة أن تتحقق بأشكال مختلفة، إما عن طريق إنشاء “أنبوب جامع” Collector تصب فيه شبكات مجارير المدن والقرى والبلدات، لينقلها إلى محطة مركزية، أو أكثر، لمعالجتها معالجة ثانوية على الأقل، لكي تصبح متوافقة مع مواصفات المياه الصالحة للري دون قيود irrigation without restrictions، أي لكل أنواع المحاصيل بما فيها محاصيل الخضار والفواكه المستهلكة نيئة. أو إنشاء عدد من المحطات الصغيرة والمتوسطة حسب المجمعات السكنية للقرى والبلدات أو لمجموعات منها.
المشكلة الكبرى التي واجهت تاريخيا محطات معالجة المياه المبتذلة عالميا، ولا سيما في البلدان النامية، هي كيفية التخلص من الوحول الناتجة عن عمليات المعالجة. وهي مجموع المواد الصلبة التي تبقى بعد كل مراحل معالجة المياه، وهي بمعدل حوالي 30 طن لكل ألف مواطن بالسنة، وتكون بالغالب غنية بالجراثيم، وغير صالحة للاستعمال الزراعي دون إخضاعها لمزيد من المعالجة.
يمكن لهذه الوحول، كما للمكونات العضوية من النفايات المنزلية، أن تكون مصدرا لإنتاج الطاقة عبر إخضاعها لعمليات الهضم اللاهوائي وإنتاج البيوغاز.
هذه التقنية بصورتها التقليدية، أصبحت معروفة عالميا، وهي منتشرة في كثير من البلدان المتقدمة والناشئة والنامية أيضا. وهنا في لبنان يشكل معمل صيدا للهضم اللاهوائي المعمل الكبير الوحيد في لبنان حتى الآن.
التقنية التقليدية ترتكز على اعتماد مفاعل وحيد للهضم اللاهوائي. أي إدخال الوحول إليه وتركها لنشاط الجراثيم اللاهوائية لتفكك المادة العضوية التي تحتويها وتنتج البيوغاز الغني بالميثان، والذي يستعمل لتوليد الطاقة بواسطة مولدات للطاقة الكهربائية خاصة تعمل على هذا الغاز. أو بتقنيات أخرى إذا كانت الكمية كبيرة وتسمح بتشغيل مراجل وتوربينات لتوليد الطاقة الكهربائية أو المياه الساخنة.
معمل صيدا، أو أي معمل مماثل يقام للهضم اللاهوائي في لبنان، بإمكانه أن يرفع قدرته وفعاليته الإنتاجية عدة أضعاف إذا اقتصر استقباله للنفايات على المكونات العضوية وحدها بعد فرزها، في معامل للفرز أو من المصدر، وإذا استقبل الوحول الصلبة المتولدة عن عمل منتظم لمحطات معالجة المياه المبتذلة.
وبالتأكيد سوف تزيد الفعالية الإنتاجية لهذا النوع من المعامل بنسبة تتراوح بين 20 و30 بالمئة إذا انتقلت إلى تطبيق التقنية الجديدة للهضم اللاهوائي المكتشفة حديثا، والمطبقة بنجاح كبير في انكلترا وأستراليا ونيوزيلاندا، والمسماة “تقنية الهضم اللاهوائي المتقدمة” Advanced anaerobic digestion.
هذه التقنية المستحدثة تؤدي إلى زيادة ملحوظة في كمية البيوغاز المنتج، أي كمية الطاقة المستخرجة من الوحول، وتؤمن نسبة عالية من احتياجات محطة المعالجة نفسها من الكهرباء ويفيض عن حاجتها أحيانا.
التقنية التقليدية للهضم اللاهوائي هي عملية تفكك المواد العضوية بفعل نشاط الجراثيم في وسط فقير أو خال تماما من الأوكسجين، وتتم هذه العملية في مفاعل واحد.
تقوم التقنية المستحدثة الأكثر فعالية وإنتاجية على استبدال المفاعل الواحد بعملية من خطوات عدة. فالمرحلة الأولى من عملية الهضم تتم في عدد من المفاعل، حيث يصار إلى تحلل الوحول مائيا hydrolyze، أو تكسيرها إلى مكونات صغيرة وتحميضها Acidify. في هذه المرحلة الأولية يتم تسخين الوحول واحتجازها لوقت محدد. هذه الشروط لمعاملة الوحول ستؤدي إلى زيادة في كمية البيوغاز المنتجة في المرحلة الثانية. المرحلة الثانية من عملية الهضم اللاهوائي تتم على حرارة دافئة mesophilic temperatures بين 35 و40 درجة مئوية، ووقت احتفاظ أطول بحيث تتحول الأحماض العضوية إلى بيوغاز.
بنتيجة هذه العملية تتولد كمية أكبر من البيوغاز بحوالي 20-30 بالمئة عن التقنية التقليدية، وتتحقق درجة أعلى من تفكك المواد العضوية، أي كميات أقل من المتبقيات الصلبة، وهذا ما يؤدي إلى تخفيض ملحوظ في كلفة إنجاز العملية.
الكميات الصغيرة من المتبقيات الصلبة يمكن أن نقوم بـ”بسترتها” Pasteurization، أي تعقيمها بتعريضها لدرجة حرارة معينة لفترة محدودة من الزمن، مثلا 63 درجة مئوية لمدة 30 دقيقة، أو 72 درجة مئوية لمدة 15 ثانية، تصبح بعدها صالحة للاستعمال كسماد زراعي غني بالفوسفات ويحتوي على كمية مقبولة من النيتروجين، وهذان عنصران أساسيان لغذاء النباتات.
إن اعتماد هذه التقنية المستحدثة (2014) يسمح بتخفيض كلفة إدارة المياه المبتذلة والنفايات المنزلية عبر استرداد نسبة عالية من هذه الكلفة، تصل إلى ما يقارب 40 – 45 بالمئة.
يمكننا اعتبار هذه التقنية الجديدة تطويرا مهما في مجال توسيع مفهوم الطاقة المتجددة، ويجعل منها مسارا موثوقا باتجاه التنمية المستدامة.
هل سنراها قريبا في لبنان؟ ربما بعد إحداث تغيير جذري في السلطة السياسية، الواضعة لسياسات الهدر البيئي والصحي والمالي حتى اليوم.