بات تلوث الهواء الناجم عن أنشطة بشرية يشغل حيزا واسعا من الإهتمام، خصوصا لارتباطه بالعديد من الأمراض لدى البشر والكائنات الحية، ما يحتم علينا تعديل أنماط حياتنا وترشيد استهلاكنا لموارد الكوكب، ومواكبة التكنولوجيا العصرية بالتوازي مع تعديل هذه التكنولوجيا بشكل يحمي البيئة المحيطة، وهذا ما دعت إليه العديد من الدول وما تزال، وفي مقدمتها الصين مؤخرا، لسن قوانين بيئية وقيود تشمل مجالات الحياة كافة، بهدف الحفاظ على نوعية البيئة والحياة واستدامتهما.
دراسة صادمة ومخيفة
وفي هذا السياق، صدرت نتائج دراسة حديثة وصفت من قبل الباحثين بأنها “صادمة ومخيفة”، لما أثارته من تساؤلات حيال المخاطر الصحية لتلوث الهواء، وعلى الرغم مما ركزت عليه دراسات سابقة عدة حول أثر الهواء الملوث على الرئتين والقلب، إلا أن هذا البحث الجديد يقدم أول دليل على أن الجزيئات الدقيقة لما يسمى أوكسيد الحديد الأسود، أو المغنيتايت magnetite، يمكن أن تجد طريقها إلى خلايا الدماغ.
ويذكر في هذا المجال، ما سبق وحذرت منه “منظمة الصحة العالمية” في وقت سابق من هذا العام (2016)، من أن تلوث الهواء قد يؤدي إلى ما لا يقل عن ثلاثة ملايين حالة وفاة مبكرة سنويا.
الدراسة الصادمة
وقام علماء في جامعة لانكستر Lancaster University بالتعاون مع علماء مكسيكيين بهذه الدراسة، تترأسهم المديرة المساعدة في “مركز المغناطيسية البيئية والباليومغنطيسية”Centre for Environmental Magnetism & Palaeomagnetism البروفيسور باربرا ماهر Barbara Maher، ونشرت نتائجها في “دورية الاكاديمية الوطنية للعلوم” the Proceedings of the National Academy of Sciences.
وقام فريق العلماء بتحليل عينات من أنسجة أدمغة تعود لـ 37 شخصا، 29 منهم في مدينة مكسيكو Mexico City المعروفة بنسب التلوث العالية، وتراوحت أعمارهم بين 3 و85 سنة، بينما المرضى الثمانية الآخرون من مدينة مانشستر البريطانية تراوحت أعمارهم بين 62 و 92 سنة، وكان بعضهم يعاني من حالات متفاوتة من الأمراض العصبية التنكسية الحادة neurodegenerative diseases مثل مرض ألزهايمر Alzheimer’s disease.
ووجدت ماهر جسيمات المغنيتايت سابقا في عينات من الهواء جمعت بجانب طريق مزدحم في لانكستر وخارج محطة لتوليد الكهرباء، واشتبهت الباحثة في إمكانية وجود جزيئات مماثلة في عينات الدماغ، وهذا ما حدث بالفعل، وعلقت قائلة “انها صدمة مخيفة عند دراسة الأنسجة ورؤية جزيئات المغنيتايت موزعة بين الخلايا، وعندما قمنا بالإستخراج المغناطيسي للعينات، وجدنا الملايين من الجسيمات، بل الملايين في غرام واحد من أنسجة المخ”، وأشارت إلى “ضرورة القيام بدراسة وبائية واختبار للسمية، لأن هذه الجزيئات موجودة بكثرة ويتعرض لها الناس بشكل مباشر ومستمر”.
وقالت البروفسور ماهر: “إن لجزيئات المغنتايت الموجودة بشكل حيوي أشكالا ذات زوايا، بينما هذا النوع له أشكال كروية ما يميزها عنها، وهذا يحدث تحت تأثير الحرارة نتيجة المعالجة في المحولات التحفيزية catalytic converters ومن مصادر المغنتايت الأخرى، مثل عوادم السيارات، والعمليات الصناعية ومحطات توليد الطاقة، وفي أي مكان يحرق فيه الوقود”، وأضافت: “إنها المرة الأولى التي نشاهد فيها هذه الجسيمات الملوثة داخل الدماغ البشري، ويعد هذا اكتشافا كبيرا وخطيرا، ومجالا جديدا للبحث في ما إذا كانت هذه الجسيمات تتسبب أو تسرع في وتيرة الأمراض العصبية التنكسية”.
وتُظهر النتائج مستويات مرتفعة من المغنيتايت، خصوصا من يعاني من الأمراض العصبية، إلا أن النسبة نفسها أو أعلى منها وُجدَت في عينات مكسيكو، وكان أعلى مستوى في عينات شاب مكسيكي يبلغ من العمر 32 عاما قتل في حادث سير.
خطر المرض
وأطلق على هذه الجزيئات اسم “الكريات النانوية” nanospheres، كون قطرها أقل من 150 نانومتر، وعلى سبيل المقارنة، فإن سمك شعرة الإنسان هو 50،000 نانومتر على الأقل، وبينما تبقى الجزيئات الكبيرة من التلوث مثل السخام داخل الأنف، يمكن للأنواع الأصغر أن تدخل الرئتين، ويمكن حتى للأصغر منها العبور إلى مجرى الدم، خصوصا جسيمات المغنيتايت النانوية حيث يعتقد أنها صغيرة بما يكفي لتمر من الأنف إلى البصلة الشمية، ثم إلى الجهاز العصبي ونحو القشرة الأمامية من الدماغ.
وقال المتخصص في مرض الزهايمر وغيرها من الأمراض العصبية في جامعة لانكستر، البروفسور ديفيد ألسوب David Allsop، والمؤلف المشارك بالدراسة “إن جزيئات التلوث قد تكون عاملا خطرا مهما لهذه الحالات المرضية، إذ ليس هناك حاجزا بين الدم والدماغ blood-brain barrier، وتدخل الجزيئات النانوية مباشرة إلى الدماغ عن طريق الأنف، ويمكن أن تنتشر إلى مناطق أخرى من الدماغ، بما في ذلك الحصين hippocampus والقشرة المخية cerebral cortex وهي المناطق الأكثر تأثرا بمرض ألزهايمر”.
وأشار إلى أنه “لا يوجد حاليا أي إثبات، ولكن هناك الكثير من الملاحظات التي توحي بعلاقة بين جزيئات المغنيتايت والأمراض العصبية، رغم تواجدها في وسط لويحات الأميلويد Amyloid plaques التي تتراكم في المخ في حالة مرض ألزهايمر، ويمكن أن تكون أيضا أحد العوامل التي تساهم في تكونها”، وأضاف “هذه الجزيئات مكونة من الحديد، والمعروف أن الحديد تفاعلي للغاية ومن شبه المؤكد أنه قد يلحق بعض الأضرار بالدماغ، ولا سيما لجهة المشاركة في إنتاج الجزيئات التفاعلية المعروفة باسم رد الفعل الأوكسيجيني reaction oxygen species التي تنتج الضرر التأكسدي oxidative damage، وهو يساهم في تلف الدماغ لدى مرضى ألزهايمر، ومع وجود جزيئات الحديد في المخ فمن المحتمل جدا أن تساهم ببعض الأضرار، ولا يمكن أن يكون تواجدها حميدا”.
وقالت ماهر “المعرفة قوة”، وأضافت “هناك إمكانية لوجود آثار صحية أسوأ للتلوث المروري، لذا علينا اتخاذ التدابير لتقليل هذه (الجرعات) بقدر ما نستطيع، وضرورة تغيير كبير في السياسة لتخفيف عبء الجسيمات النانوية على صحة الإنسان، وكلما أدركنا تأثير هذه الجزيئات، وجدنا الحاجة الأكثر إلحاحا وأهمية في الحد من تركيزاتها في الغلاف الجوي”.
آراء الخبراء
وكان خبراء آخرون أكثر حذرا حول احتمال وجود صلة بين هذه الجزيئات والأمراض العصبية الإنتكاسية، لكنهم أكدوا أن الدراسة الجديدة تعطي دليلا قويا على أن معظم جزيئات المغنيتايت في عينات الدماغ تأتي من تلوث الهواء، ولكن مع ذلك تبقى علاقتها بمرض الزهايمر وغيره من أمراض الدماغ الإنتكاسية متضاربة.
وقالت مديرة الأبحاث في جمعية الزهايمر الدكتورة كلير والتون Clare Walton
Interesting study in @PNASNews showing #magnetite in the brain – @alzheimerssoc research team discuss the findings https://t.co/u1rouxDCJ2
— Clare Walton (@cawalton) September 5, 2016
“ليس هناك أدلة قوية على أن المغنيتايت يسبب مرض الزهايمر أو يجعل الأمور أسوأ”، وأضافت أن “هذه الدراسة تقدم دليلا مقنعا على أن المغنيتايت من تلوث الهواء يمكن أن يوجد في الدماغ، لكن لا تؤكد تأثير ذلك على صحة الدماغ أو حالات مثل مرض الزهايمر”.
وأشارت إلى أن “أسباب الخرف معقدة وحتى الآن ليس هناك ما يكفي من البحوث لنؤكد إن كان الذين يعيشون في المدن والمناطق الملوثة يزيد لديهم خطر الخرف، ويتطلب الأمر مزيدا من العمل في هذا المجال المهم، ولكن حتى يكون لدينا معلومات أكثر، لا ينبغي أن يكون ثمة قلق لا مبرر له”.
ونصحت بأن “تشمل طريقة الحياة وسائل أكثر صحية لخفض إمكانيات الإصابة بالعته، منها ممارسة التمارين الرياضية بانتظام، وتناول نظام غذائي صحي متوازن وتجنب التدخين”.