يعتبر الإتحاد الأوروبي أن “إتفاقية الشراكة”، الموقعة في العام 2002 مع حكومة لبنان، وكذلك “سياسة الجوار الأوروبية”، يشكلان الإطار العام للعلاقة بين الإتحاد الأوروبي ولبنان، وأن هذه العلاقة ترتكز على “القيم” و”المصالح” المشتركة بين الطرفين. وتبنى على هذه القيم والمصالح المشتركة برامج التعاون والهبات والمساعدات التي يقدمها الاتحاد الأوروبي لحكومة لبنان، حيث بلغت 132 مليون يورو في مذكرة التفاهم الموقعة عام 2014، والتي تتناول الفترة بين 2014 و2016.
أمام هذا التعريف لأساس العلاقة بين الإتحاد الأوروبي وحكومة لبنان، نستطيع التأكيد على وجود مصالح مشتركة عميقة وواسعة من جهة، ومن جهة أخرى، يصبح السؤال عن وجود قيمٍ مشتركة بينهما سؤالا مشروعا، ولا سيما في سياسات إدارة النفايات الصلبة.
إن السياسات والخيارات الإستراتيجية في مختلف القضايا، هي التي تشكل التعبير الحقيقي عن القيم التي تحملها الحكومة، وليس ما تطلقه من شعارات، أو ما تعلنه من ادعاءات إعلامية، هي أكثر دلالة على التضليل منها على السير باتجاه التنمية أو التطوير أو التقدم.
ما هي “القيم” التي ترتكز عليها سياسات الإتحاد الأوروبي في مسألة إدارة النفايات؟ للإجابة الدقيقة عن هذا السؤال نعود إلى “التوجيه الأوروبي” Directive 2008/98/EC تاريخ 19 تشرين الثاني (نوفمبر) 2008 بشأن النفايات (التوجيه الإطاري)، حيث يتضمن المفاهيم والتعريفات الأساسية المتعلقة بإدارة النفايات، والتي تجسد “القيم” الأوروبية في هذا المجال. مثلا، تعريف النفايات، التدوير والإسترداد. يشرح هذا التوجيه متى تَكِفُّ النفايات عن كونها نفايات وتصبح “موادا ثانوية”، وكيف علينا أن نميز بين النفايات والمنتجات الثانوية By-products. يضع التوجيه الأوروبي بعض المبادىء الأساسية في إدارة النفايات، فهو يتطلب أن تتم إدارة النفايات دون تعريض صحة الإنسان للمخاطر ودون التسبب بالضرر على البيئة، وبشكل خاص دون مخاطر على الموارد المائية والهواء والتربة والنباتات والحيوانات، ودون التسبب بأي إزعاج بالضجيج أو الرائحة، ودون التسبب بأي تأثيرات سلبية تطاول الطبيعة والأماكن ذات الأهمية الخاصة. وأن تدار النفايات باحترام سلَّم الأولويات المحدِّدة للتسلسل الهرمي للخيارات التالية:
يحدد التوجيه الأوروبي في مادته الأولى موضوعه ونطاقه، فيقول “يضع هذا التوجيه الإجراءات لحماية البيئة وصحة الإنسان من خلال تفادي أو تخفيف التأثيرات السلبية لتولد النفايات وإداراتها، ومن خلال تخفيف التأثيرات العامة لاستعمالات الموارد وتحسين كفاءة هذه الاستعمالات”.
في المادة الرابعة يحدد التسلسل الهرمي لخيارات إدارة النفايات، حيث يطلب تطبيقها كتسلسل أفضليات في تشريعات وسياسات الحماية من النفايات وإدارتها:
-الحماية أو الإمتناع عن توليد النفايات والتخفيف منها.
-تحضير النفايات لإعادة الإستعمال.
-تدوير النفايات.
-إسترداد الموارد والطاقة.
-أخيرا التخلص النهائي.
يطالب التوجيه الأوروبي أيضا في المادة الرابعة الفقرة 2 باعتماد الشفافية الكاملة في عملية وضع التشريعات والسياسات، وباحترام الأنظمة والقوانين، ومشاركة المواطنين وكل المعنيين. وكذلك الأخذ بعين الإعتبار المبادىء العامة لحماية البيئة، مثل مبادىء الإحتراز والإستدامة والجدوى التقنية والاقتصادية وحماية الموارد الطبيعية في كامل مكونات البيئة، وصحة الإنسان والتأثيرات الإقتصادية والإجتماعية.
يطالب التوجيه في مادته 13 بقوة بحماية صحة الإنسان والبيئة.
هذه هي القيم الأوروبية مجسَّدة في التشريعات المتعلقة بإدارة النفايات. هل هي حقا قيم مشتركة مع ما يكمن خلف السياسات والاستراتيجيات والخيارات، التي تعتمدها الحكومة اللبنانية وكثير من القوى السياسية في السلطة، من “قيم” الهدر والسمسرات والعمولات، وإدارة الظهر لمصالح البلد والشعب والقبول بكل المخاطر، التي تتعرض لها صحة الإنسان والبيئة بكل مكوناتها وعناصرها، موارد مائية سطحية وجوفية وبحرا وتربة وهواء ومواد غذائية؟
ما هي “القيم” التي كمنت خلف خيارات وسياسات الحكومة اللبنانية حيال النفايات، على الأقل منذ 17 تموز (يوليو) 2015، تاريخ تفجر أزمة النفايات المستمرة حتى اليوم؟
ما هي القيم التي يجسدها إصرار الحكومة على طمر النفايات واعتماد سياسة المطامر، وتمسكها بالمطامر والإمتناع المتمادي عن السير بالإدارة المتكاملة للنفايات عبر اعتماد مراكز الفرز والتدوير والتسبيخ والمعالجة، تطبيقا لمفاهيم التخفيف وإعادة الاستعمال والتدوير واسترداد الموارد، واسترداد الطاقة حيث يكون ذلك مجديا؟
أصرت الحكومة حينها على مطمر “سرار” في عكار، وعلى مطمر في سفوح جبال لبنان الشرقية حيث أحواض المياه الجوفية، ولم تتبنَّ جديا خيار معامل الفرز والتدوير والمعالجة.
وافقت على “ترحيل” النفايات رغم كل ما شابها من مخالفات ومخاطر وتعامل مع مافيات التزوير، ولم توافق لحظة واحدة على السير بالخيارات المبنية على مبادىء سليمة لإدارة النفايات يعتمدها العالم كله، وعلى قيم يتشارك بها مليارات البشر عبر العالم، ومئات الحكومات والدول.
هي أصرت بعد فشل خيارات المطامر “في الأطراف” وخيار “الترحيل” – الفضيحة، على اعتماد مطامر شاطئية يتقاطع فيها ردم البحر مع طمر النفايات، في مواقع محفوفة بكل أنواع المخاطر على أمان مطار بيروت، وعلى صحة الإنسان وسلامة البيئة البحرية وإدارة الشواطيء والمناطق الساحلية.
هي مارست كل أنواع التضليل والمناورات لتجاوز اعتراض المعترضين، ومارست الابتزاز بأبشع صوره، واضعة الناس أمام خيار الغرق بالنفايات في شوارعهم وأحيائهم السكنية أو تمرير مشاريع الردم والمطامر الشاطئية في برج حمود والكوستابرافا.
هي شَرَّعت التسيُّب في اعتماد الخيارات غير السليمة لإدارة النفايات، وهي شجعت على استفحال المكبات العشوائية في كل مناطق لبنان، وهي غضت النظر عن كل الممارسات الخطيرة على الصحة العامة والبيئة بالتعامل مع النفايات وحرقها في الشوارع، ورميها على ضفاف الأنهر وفي حرم الينابيع وعلى شاطىء البحر وفي البحر، وفي أي مكان دون ضابط أو رادع.
هي تمادت في إغراق البلد في أزمة النفايات المستمرة، فاتحة شهية كل المصطادين في المياه العكرة لتحقيق مصالح ذاتية على حساب صحة اللبنانيين وسلامة بيئتهم، فكثر المتحمسون للمحارق، حتى بادر بعضهم لاستيراد محارق تحت تسميات مموهة، ودون الإلتزام بآليات الترخيص القانونية، وبتجاوز للقوانين والمراسيم والأنظمة، وبشن حملات إعلامية تضليلية، مسخرة وسائل الإعلام لنشر أضاليل لا تمت إلى الحقائق العلمية بصلة عن عمل هذه المحارق، مخفية مخاطرها الكبيرة على الصحة البشرية والبيئة.
وكثر أصحاب العقارات الذين يؤجرونها لقيام مزابل عشوائية للبلديات المتروكة رهينة هذا الإرتباك العظيم حيال النفايات وإدارتها، مقابل الملايين من أموالها الشحيحة، وعلى حساب مشاريع تنموية تحسن حال القرى والبلدات.
هي تمادت في كل ذلك، ولا تزال ترفض إدراج كلمة واحدة عن مراكز الفرز والتدوير والمعالجة في قراراتها، إلا تمويها لتمرير خياراتها الرئيسية في الطمر، وربما بعدها باعتماد المحارق الملوثة في بيروت وكل لبنان.
هذه السياسة الرسمية للحكومة اللبنانية تؤيدها وتمررها وتسكت عنها أكثرية كبيرة من القوى السياسية المكوِّنة للسلطة في لبنان، حتى أن المعترضين، لا يشكلون باعتراضهم عائقا حقيقيا لاستمرار وانتشار وتعميم هذه السياسات الحكومية حيال النفايات.
في ضهور الشوير محرقة بدائية حاك أصحابها الكثير من الأضاليل لإخفاء ما تشكله من مخاطر تهدد الصحة العامة والبيئة، بانبعاثاتها الملوثة. وووجهت برفض شعبي كبير، اضطر أصحابها إلى تلفيق بعض الإضافات الشكلية يسمونها فلاتر لمعالجة الملوثات، وهي في الحقيقة تجهيزات بدائية غير فعالة تنقل جزءا من الملوثات من غازات الاحتراق إلى بركة ماء، ترمي ماءها خلف الجدران وفي الحقول القريبة، وتدفن رمادها تحت التراب في موقع المحرقة أو على مقربة منه، مع ما تشكله كل هذه الممارسات من مخاطر جدية على صحة المواطنين وعلى سلامة البيئة، هواء وماء وتربة.
واليوم تنتقل كل هذه المخاطر لتهدد مدينة صور ومنطقتها، مع ما تناقلته أخبار الأيام الأخيرة عن تسلم بلدية صور لـ”هدية ملغومة”، هي محرقة توأم لتلك التي تنغص حياة أهالي ضهور الشوير ومنطقتها. وما هي إلا بداية الإنزلاق نحو خيارات هي أشد خطورة من كل الممارسات الخطرة التي تعتمد حتى الآن، وهي تهدد الصحة العامة والبيئة بأشد المخاطر.
ماذا بقي من معامل الفرز والتسبيخ التي بناها الإتحاد الأوروبي في مختلف مناطق لبنان؟ سؤال يقرع باب كل العقول المستيقظة في بلدنا. ماذا بقي من مشروع الدعم الأوروبي للإدارة البيئية السليمة للنفايات الصلبة في لبنان؟
ماذا تقول وزارة التنمية الإدارية التي رعت هذه المشاريع على مدى سنوات طويلة؟ وماذا يقول الوزراء الذين تعاقبوا على هذه الحقيبة؟
لماذا تعمل هذه المراكز لفترات قصيرة وتتوقف بعدها، وتصير عرضة للتسيب والإقفال؟ أو أنها تبوء بالفشل منذ بدايات مراحل تشغيلها؟ ما هو مصير العديد من المعامل التي بنيت وهي متوقفة ومقفلة ومنهوبة محتوياتها حاليا؟ لماذا أقفل معمل أنصار؟ ولماذا يواجه معمل عين بعال صعوبات تهدده بالإقفال أيضا؟ ولماذا يتعرض معمل بعلبك للحرق المقصود؟ ولماذا يتهدد معمل الكفور – النبطية بالفشل والإقفال أيضا؟ لماذا ولماذا ولماذا؟
لا مجال لاجترار الأعذار أو المبررات أو حَبْك الأكاذيب بشأن أسباب الفشل. بكل بساطة لا حكومة لبنان ولا معظم قوى السلطة السياسية يحملون القيم التي تحدثنا عنها بشأن الإدارة السليمة للنفايات. نعم هناك شريحة واسعة من المواطنين اللبنانيين ومن المجتمع المدني والبيئي يتشاركون بحمل هذه القيم، ولكن ذلك لا يغير بالأمر الشيء الكبير. فالسياسات ترسمها الحكومة، والقرارات تأخذها الحكومة، والصفقات والتلزيمات تعقدها الحكومة، ومئات ملايين الدولارات من المال العام والصندوق البلدي المستقل تصرفها الحكومة، وتقرر صرفها وفق خيارات محددة للتعامل مع النفايات تقررها الحكومة وحدها، أو يبادر لوضعها المستقوون من القوى السياسية ورجالاتها.
مئات الملايين من الدولارات حاضرة للمطامر وردم البحر، وكانت حاضرة لتمويل “الترحيل” دون معرفة إلى أين وكيف، وبلا وضوح في أي من تفاصيل الصفقة، وكانت أيضا حاضرة لتمويل مطامر “الأطراف” البعيدة في عكار والبقاع، ودون الموافقة عليها وتمريرها، تم إغراق الناس في نفاياتها وإغراق المدينة وشوارعها وأحيائها في حجيم التلوث والأمراض والأوبئة.
للبلديات التي تريد السير بخيارات بيئية سليمة سيل من الكلام المعسول، والكلام الفارغ من أي معنى، ولكن لا اعتمادات تقررها الحكومة لتمويل بناء مركز واحد للفرز في أي من مناطق لبنان. هناك مئات الملايين من أجل تمويل المطامر، وسيكون هناك مثلها لتمويل المحارق في أجندات الحكومة وقواها السياسية في المستقبل القريب، ولكن ليس هناك قرار واحد بتمويل بناء مركز للفرز، وكلفته لا تشكل في الحقيقة عُشْرَ (10/1) كلفة مطمر واحد.
سياسات حكومة لبنان، ومعظم قوى السلطة السياسية أيضا، تؤدي في الواقع إلى تبذير مساعدات الإتحاد الأوروبي للبنان في بناء وتجهيز معامل للفرز والمعالجة، وإلى إفشال تشغيل ما أنجز منها، وإلى العمل على الترويج لخيارات تلبي مصالح فئوية وأحيانا شخصية على حساب صحة اللبنانيين وبيئة لبنان وأموال شعب لبنان العامة.
هل هناك حقا قيم مشتركة بين الإتحاد الأوروبي وحكومة لبنان في ملف إدارة النفايات؟ سؤال يطرح نفسه بإلحاح على الجميع، بما في ذلك بعثة الإتحاد الأوروبي في لبنان.