بعد عددٍ من النقاشات حول الموضوع، اقترحت الزميلة ضحى شمس أن أحوّل «فكرتي» عن حلٍّ لأزمة السير في بيروت، والتي أروّجها لكلّ من يريد أن يستمع – أو لا يريد – الى مقال. الخطّة أدناه هي مجرّد «طرحٍ مفهومي» سيكون فيه، حكماً، الكثير من الثغرات؛ ومع أني استشرت أكثر من خبيرٍِ في مجال النقل والبنى التحتية لكتابة هذا النصّ، فأنا لست اختصاصياً وهذه ليست دراسة، والهدف من هذا العرض ليس تقنياً. الهدف هو النّقاش حول «فقه الأولويات» الذي نواجه به السياسة اليومية في لبنان، وأزمة السير مثال، وكيف أن المقاربات السائدة تميل لأن تُقصي الكثير من الإشكاليات والاحتمالات، وأن تحصر «السياسة» وخياراتها في قوالب مألوفة، مستوردة أو تقليدية، توجد شكوكٌ عميقة حول فعاليتها. الخلاصة هنا هي أنّ موضوعاً يبدو من الخارج “تقنياً” وعملياً ولوجستياً، كمشكلة السير في بيروت، هو في الحقيقة سياسيّ في العمق، ولن يكون حلّه عبر «خطّة جيّدة» بل، أساساً، عبر السياسة. (ملاحظة: المشروع أدناه ينسجم بشكل مثالي مع خطتي لبناء قطار خفيفٍ، رخيصٍ، معلّق، لنقل الركّاب على طول الساحل اللبناني – CPM: The Coastal People Mover – وأيضاً مع اقتراحي للإفلاس المقصود للخزينة اللبنانية والتوقف عن دفع الديون، ولكن هذا موضوع آخر)
المشكلة هنا، حتّى نكثّفها ونختصر، هي أنّ بيروت تتحوّل إلى مدينة فاشلة بسبب أزمة السير وقصور بنيتها التحتية، وهي تزداد فشلاً وتتّجه لأن تخسر كلّ المزايا التي يُفترض بالمركز المديني أن يقدّمها، فتصير مرآب سياراتٍ كبير يستحيل العمل فيه أو السّكن.
المسألة لا تقتصر على المعاناة اليوميّة للناس وتدمير مستوى حياتهم، أو التلوّث، أو الكلفة على الأعمال والاقتصاد (هناك تقديرات مختلفة حول كلفة أزمة النقل والمرور، ولكنها كلّها تتفق على أنها تحسم عدّة نقاط مئوية من الناتج القومي)؛ بل إنّ تراكم هذه الأزمات يغيّر الديناميات الاجتماعية وتوزّع السكّان، ويخلق قسمةً طبقية في “المعاناة” في غياب نقلٍ عام، بل ويفرض سقفاً على النمو والأعمال والسياحة (في آخر موسمٍ سياحيّ ناجح في لبنان قبل سنوات، حين أضيف الى سكان العاصمة عدد كبير من الزائرين والمغتربين، شلّت شوارع المدينة تقريباً في كلّ ساعات الليل والنهار. بمعنى آخر، حتى لو تمكنّا من اجتذاب ملايين السيّاح، فإن البنية التحتية ستنهار تحت الضغط ولن تقدر على استقبالهم).
بيروت مدينة قديمة، خُطّطت أكثر شوارعها قبل عصر السيارات؛ وهذا في حدّ ذاته ليس أمراً سيئاً، إلّا إن كنت تحب نموذج لوس أنجلس، ولكن هذا يعني أيضاً أنّه لا توجد إمكانية، بالمعنى الحسابي والهندسي، لحشر مليون سيارة في شوارعها؛ وأنّ غياب أي مشروعٍ للنقل العام والاعتماد على السيارات الخصوصية لم يكن إلّا وصفة لأزمةٍ تتفاقم بلا توقّف. سيشرح لك أي خبير نقلٍ لماذا من غير المجدي، في حالة بيروت، أن تواجه مشكلة السير عبر توسيع الطرقات وحفر الأنفاق وإقامة المزيد من الجسور – وهي استراتيجية حكومات الحريري. فأنت، ولو نجحت في زيادة القدرة الاستيعابية لشوارع العاصمة بنسبةٍ معيّنة، فإن النموّ الطبيعي للسكان سيلتهمها خلال سنواتٍ قليلة. ما يزيد الطين بلّة هو أنّك ولو نجحت، بكلفة هائلة، في تحسين نظام السير في المدينة، وانحسر الازدحام مؤقتاً، فإنّ ذلك سيرفع الحافز الاقتصادي لامتلاك سيارة، ويؤدّي “نجاحك”، هكذا، الى إضافة مئات آلاف المركبات الى الشوارع والعودة الى نقطة الصفر.
في الوقت نفسه، فإنّ بناء مترو أنفاق في بيروت هو خارج البحث والإمكانيات في المدى المنظور، وطبيعة بيروت وشوارعها لا تسمح ببناء نظام نقلٍ معلّق (elevated) أو حتّى ترامواي يزاحم السيارات. والحلول التي يتمّ اقتراحها لـ”تجنّب” المشكلة بدلاً من مواجهتها جذرياً، هي إمّا مشاريع باهظة الكلفة لإضافة المزيد من الطّرق (كاستكمال الأوتوستراد الدائري أو بناء طريقٍ في البحر بمليارات الدولارات)، أو هي كفكرة الخطوط المكرّسة للباصات، من الصّعب أن تنجح في بيروت: لا مساحة في الطرق الرئيسية يمكن تخصيصها لباصات النقل العام، وإنجاز هكذا مشاريع بشكلٍ مجتزأ قد لا ينتج إلا مفاقمة للطابع الطبقي لأزمة السير (فيصبح الفقراء محشورين في باصات، والمقتدرون وحيدين في سيارات ضخمة، والجميع يعاني من الزحام).الحلّ؟
أعرف جيّداً أن المفهوم الذي أقترحه قد يبدو للوهلة الأولى جذرياً ومتطرّفاً، ولكنّي أدعو القارئ لأن يعلّق الحكم حتّى يصل المنطق إلى نهايته. وأنا لا أحاجج بأن هذه خطة معقولة وجيّدة، بل بأنّها الخطّة الوحيدة الممكنة، والتي تقدّم حلّاً فعلياً لأزمة السير في بيروت، ولا تستلزم بنى تحتية أو إنشاءات وتكلفة كبيرة، ويمكن أن تنفّذ خلال أشهر، وسيكون تأثيرها تحويلياً – بالمعنى الإيجابي والجذري – على مستوى الحياة في المدينة والبيئة والسكن والسياسة.
الخطّة، باختصارٍ شديد، هي في تنظيمٍ جديدٍ للسير في بيروت يمنع في أكثر المدينة – من خلدة الى نهر الموت – أي استخدامٍ للسيارات السياحية ذات الدواليب الأربعة، وبشكلٍ شبه كاملٍ وكلّي (سنتكلّم لاحقاً عن الاستثناءات). الشكل الأساسي للانتقال في المدينة سيكون عبر الدراجات النارية والهوائية، والمركبات ذات الدواليب الثلاثة والمحرّك الصّغير. هذه الأخيرة، التي لا نعرفها في لبنان، تتراوح بين مفهوم الـ”ريكشاو” التقليدي في الهند وشرق آسيا (وهي عبارة عن دراجة نارية أضيفت اليها مقصورة ودولابٌ خلفيّ ثالث) وبين نماذج حديثة (pods) تصممها اليابان وغيرها، يمكن استخدامها للنقل الخاص أو كسيارة أجرة مريحة، وأنت لن تحتاج ضمن حدود بيروت الى محرّكٍ أو سرعةٍ أكبر مما تقدّمه.
العربة الثلاثية تستهلك، في المعدّل، ربع المساحة التي تحتلها السيارة الخاصة وأنت ستتمكّن عبر اعتمادها، بضربةٍ واحدة، من إلغاء مشكلة الازدحام في بيروت. في مدنٍ كمومباي وسايغون وبانكوك، يتمّ استخدام هذه الوسائل بكثرة، ولكنها لا تلغي أزمات المرور فيها لأنها مراكز حضرية تفوق بيروت أضعافاً بالمساحة والكثافة والعدد الإجمالي للسكّان، أمّا في مدينة كبيروت وبكثافتها السكانية، فإنّ التأثير سيكون فورياً وملحوظاً (ببساطة، حين تكون عالقاً في الزّحام، عدّ السيّارات التي أمامك – وعشر عرباتٍ تكفي لإغلاق شارعٍ “عريضٍ” في بيروت – وتخيّل لو أنّها درّاجات و”مايكرو-سيارات”، تتنافس على المساحة نفسها. بمعنى آخر، سيمسي السير في بيروت كما هو اليوم في أيام الآحاد).
المسألة لا تحتاج الى أرصدة وبنى تحتية، بل الى تنظيمٍ إداري، وفترةٍ انتقالية، وقوّة رقابية تشرف على التنفيذ، فنكون أوجدنا، أيضاً، عملاً مفيداً للآلاف من عناصر الشرطة الذين ندفع رواتبهم. ومشاريع من هذا النّوع مرهونة بالرقابة في التنفيذ، خاصة في بلدٍ مثل لبنان. (فلو كان هناك استثناء، مثلاً، لذوي الاحتياجات الخاصّة وسُمح لهم باقتناء سيارات في المدينة، لاستحصل نصف الشعب اللبناني على شهاداتٍ طبية تفيد أنّه يعاني من إعاقة). كلّ ما عليك فعله، إن كنت قادماً الى العاصمة من خارجها هو أن توقف سيارتك على أحد مداخلها وتستبدلها بسيارة أجرة “بيروتية”، أو أن تدفع رسماً كبيراً كي تدخل بسيّارتك الى بيروت.
أمّا داخل المدينة، فإن الحياة (بالنسبة الى الغالبية من السّكّان) ستكون مختلفةً تماماً عن حالها اليوم، لن تستغرق الرحلات داخل العاصمة، من أقصاها الى أقصاها، أكثر من دقائق معدودة، نظراً الى حجم بيروت ومسافة الرحلات، وسيهبط معدّل التلوّث بشكلٍ لا يمكن أن تحققه بأيّ طريقةٍ أخرى. سنستعيد أغلب الشوارع والأرصفة، التي هي اليوم مخصصة لركن السيارات الضخمة، وسنتمكّن من إعادة ترتيبها حتّى يستفيد أهل بيروت، أخيراً، من معنى أن تعيش في مدينة متوسّطية جميلة وتملك مناخاً وبحراً.
الحافز الاقتصادي
إلّا إن كنت تعتبر أنّ الانتقال الفردي في أزقة بيروت يحتاج الى محرّكٍ بقوّة 300 حصان، فإنّ الفارق الأوّل بين النمط الحالي وذاك الذي أقترحه هو أنّ كلفة السيارة السياحية هي بعشرات آلاف الدولارات، فيما وسائل النقل هذه تتراوح بين 800 دولار وآلافٍ قليلة لأحدث نماذجها. استهلاك الوقود، أيضاً، أقلّ بأضعافٍ مضاعفة، ويخلق وفراً كبيراً بالنسبة إلى سائقي الأجرة (وسيارات الأجرة الصغيرة، بحكم السهولة والحوافز، قد تصبح الوسيلة الأساس للتنقّل الفردي في المدينة ضمن هذا السيناريو) ما سيجعل الرحلات ضمن بيروت أرخص وأسهل وأسرع، بكثير، ممّا هي عليه اليوم.
أمّا على مستوى الاقتصاد الكلّي، فإن استيراد السيّارات الأجنبية، حالياً، هو ثاني أكبر بندٍ في فاتورة الاستيراد، خلف النفط ووقود السيارات، وهما يساويان أكثر من ستة مليارات دولار تُضاف سنوياً الى العجز التجاري، ونحن في بلدٍ صغير. الخطّة المقترحة هنا ستعني، في أسوأ الحالات، خفضاً كبيراً لهذه الفاتورة. وفي أفضل الحالات، فإنّ العربات الثلاثية، على عكس السيارات الكبيرة، من المُتاح والسهل إنتاجها داخلياً. لن يتمكّن لبنان أبداً (لأسباب واضحة) من خلق “صناعة سيارات” محليّة، ولكن هذه العربات الخفيفة لا تحتاج الى أكثر من استيراد محرّكٍ بسيط وستقدر أي مؤسسة صغيرة أو متوسّطة، فيها عدد من المهندسين والتقنيين، على إنتاج هياكل ونماذج للسوق المحلية، وهذه قدرات متوافرة في لبنان.
المرحلة الثانية
سياسة “المنع”، واستبدال السيارات الكبيرة في بيروت بوسائل انتقال بديلة، هي مرحلية وتنطوي على استثناءات. الى جانب السيارات الخدمية والرسمية والباصات، فإنّ الأثرياء وبعض أصحاب الأعمال – كالتاكسيات الفخمة أو شاحنات النقل – سيتمكّنون من الاحتفاظ بسياراتٍ خاصةٍ داخل المدينة، ولكن مقابل رسمٍ، ورسمٍ كبير (يوازي مئات الدولارات شهرياً). تركّز أثرياء لبنان في العاصمة يعني أن ما بين عشرة وأربعين ألف سيارة قد تسجّل بهذه الطّريقة، والمدخول من هذه “الضريبة”، وهو سيكون معتبراً، سيذهب لصيانة شوارع العاصمة وتطويرها. أمّا “المرحلة الثانية”، فهي تبدأ مباشرة بعد أن ترتاح بنية الطرق ويقلّ حجم السيارات فيها، إذ سيصبح من الممكن، أخيراً، إغلاق أجزاء من الشوارع لمدّ نظام ترامواي رخيص، هو الحلّ المنطقي والبديهي لمدينة بيروت (ولكنّ تنفيذه في الظروف الحالية يعني شلّ المدينة لسنوات).
الترامواي لا يحتاج الى طريقٍ خاص، بل هو سكّة بسيطة تركّب فوق اسفلت الطريق، ويمكنه أن يسير مسارها ويتعرّج معها، بل إنّ الكثير من الأنظمة الحديثة تستمد الكهرباء من خطوطٍ أرضية ولا تحتاج حتى الى أعمدة علوية وخطوط كهرباء. لا يحتاج الترامواي الى بناء محطّات خاصّة ويمكنه التوقّف في أيّ مكان، كما أن كلفة بناء الكيلومتر منه زهيدة للغاية مقارنة بأي بديل وتنفيذه سريع. وفي مدينة بحجم بيروت، فإن خطوطاً قليلة، قصيرة، بديهية، ستكفي لوصل الضواحي الجنوبية والشرقية بوسط المدينة، ووصل أحياء العاصمة الأساسية ببعضها البعض. حين يتحقّق هذا، سيمكننا القول إنّ بيروت قد أرست، أخيراً، بدايةً لنظام نقلٍ فيها، يخدم الجميع ويناسب طبيعة المدينة وتاريخها، ويشبه معاش أهلها وحاجاتها، ويمكن البناء عليه للمستقبل.
لماذا لن يُنفّذ
يستمع اللبناني الحصيف الى مرافعةٍ من هذا النوع ثمّ يقرّر، قبل النهاية بكثير، “هكذا مشروع لن يحصل في لبنان”. وهو سيكون محقّاً؛ والسّبب، سواء عبّر عنه أم لم يعبّر، هو أنّ مفهومنا، الذي اكتسبناه واعتدناه، عن “النظام” في لبنان لا يتوافق مع سياسات يدفع فيها الأثرياء لحساب الفقراء، أو تضع المصلحة العامّة أمام مصلحة الأقوياء، أو تحرم أثرياء البلد من بعض ملذّاتهم وأسلوب حياتهم وبدع الترف التي اعتادوها. لهذا السبب، هناك سياسات وحلول تجدها في الدانمارك، مثلاً، ولكن لا يمكن تخيّلها في أميركا، وهذا يتعلّق بتوزيع القوى في المجتمع، وليس بمنطقية هذه الحلول أو عدالتها أو تقنياتها.
يملك المعترضون في أي مكانٍ، تقليدياً، ثلاثة سبلٍ لإحداث التغيير السياسي: إمّا العمل “ضمن النظام” والرهان على تغييره من الدّاخل، أو رفضه وتخيّل نظامٍ بديل بتوزيعٍ مختلفٍ للقوى، أو “الحلّ الليبرالي”، وهو تنظيم الناس وحشدهم، على أمل الضّغط على النّخب حتّى تقدّم “تنازلات” وسياسات أكثر عدلاً (ليس إيماناً من النّخب الحاكمة بهذه القضايا، بل كـ”رشوة” مقابل الحفاظ على النظام، أو أكثره، في وجه ضغطٍ محسوس). في لبنان، لا نجد أيّاً من هذه الاحتمالات على الطاولة، وأكثر حركات “الاعتراض” اليوم تمثّل نخباً صاعدة، تحاول أن تستبدل فئاتٍ موجودة وتأخذ مكانها، وهي تدّعي أنّها سـ”تؤدّي” أفضل منها لو كانت في موقعها، ولكنها لا تملك أي مفهومٍ لتغييرٍ فعلي في بنية النظام.العنف والتغيير
قد يحتجّ البعض على فكرة “تنظيم” حياة الناس، وسلبهم “حرية” امتلاك السيارة. فلنعقد مقارنة: في اليابان، حيث أكبر صناعة سيارات في العالم، تصدّر ملايين السيارات الضخمة والفخمة الى مختلف الأسواق، أقرّت الحكومة، منذ عقودٍ طويلة، ضرائب ورسوماً تجعل السيارات “العادية” خارج متناول أكثر الناس، وحفّزتهم لشراء نموذجٍ خاصٍّ من السيارات، لا تجده إلّا في اليابان، هي “ميكرو-عربات” (اسمها سيّارات الـ”كاي”) تأخذ مساحةً ضئيلة في الشارع وللركن. دعونا نستعيد الفكرة أعلاه: بعد أن عمل اليابانيون لسنواتٍ وكدّوا وتعبوا، وبنوا دولةً صناعية وأصبحوا أثرياء، تقول لهم دولتهم إنه ممنوعٌ عليهم أن يستمتعوا بالسيارات الفخمة (التي تنتجها شركاتهم الوطنية)، وأنّ عليهم، حتّى يعيشوا جميعاً بشكلٍ لائق في المدن اليابانية، أن يكتفوا بسيارات مضغوطة ضئيلة، كأنها خارجة من عالم الرسوم المتحرّكة. بيروت، في المقابل، هي من المدن القليلة في العالم التي تجد رواجاً لسيارات “هامر” الهائلة.
على هدي فلسفتي في الإنجاب، قرّرت منذ زمنٍ أنّ واجبي، أقلّه، هو أن لا أقتني سيّارة في لبنان، وأن لا أضيف هيكلاً الى جبل الحديد، وأجعل نفسي ضحيّةً للازدحام والقروض والمصارف (كما أنني اعتبر أنّ جمع مالٍ يساوي جهد سنوات من العمل، وخلفه أيام طويلة من التعب والجهد، وإرساله دفعةً واحدة، في “علبة هدية”، الى المانيا مقابل سلعة استهلاكية، هو طرحٌ مجنون). ولكن هذه قناعةٌ فردية، شخصية وليست معيارية، لا أعممها ولا أطالب أحداً بمثلها. أمّا أن يعتبر الثري اللبناني أنّ “حقّه الطبيعي” يتمثّل في أن يقتني ثلاث سيارات، كلها بحجم بوارج صغيرة، وأن يسدّ شوارع مدينتي ويخنقني بها، فهذا لا علاقة له بالحقوق. وأن ينظر إليّ هذا الثريّ بقرفٍ من “قاذفته” المكيّفة، وهو يمضغ سيجاره، لأنّني (حتى أعبر الطريق) اضطررت لوضعه أمام خيارٍ بين أن يدهسني ويقتلني، وبين أن يدعني أمرّ – فهذا ليس إلّا شكلاً من أشكال العنف المجتمعي آن له أن ينتهي. والثريّ لن ينزل من سيّارة الـ”هامر” طوعاً.