أيام قليلة قبل بدء عاشوراء، فوجىء أهالي مدينة النبطية بنداء موجه من مجلسها البلدي على موقعه الإلكتروني: “إلى الأهالي الكرام… نحيطكم علما… قد بلغنا من إتحاد بلديات الشقيف – النبطية بأن الشركة المعنية في توضيب النفايات من مدينة النبطية والقرى المجاورة… توقفت بسبب توقيف معمل فرز النفايات – الكفور… وستبقى النفايات داخل الحاويات حتى إشعار آخر”.
بضع كلمات كانت كافية لإثارة استنفار كبير للقوى السياسية في المنطقة و”اتحاد بلديات الشقيف”، الذي يضم 29 بلدية، لمدينة النبطية والقرى والبلدات المجاورة، وبلدية الكفور، وكذلك هيئة المتابعة للجمعيات والأندية في النبطية، حيث عقدت عشية أمس اجتماعات وجرت اتصالات حثيثة ومشاورات واسعة، انتهت إلى قرار اتخذه اجتماع ضم ممثلين عن “حركة أمل” و”حزب الله” واتحاد بلديات الشقيف وبلدية الكفور بإعادة العمل فورا في معمل فرز وتسبيخ النفايات في الكفور، وإلزام الجميع بمتابعة أعمالهم دون توقف، أي شركة جمع النفايات والشركة المشغلة للمعمل.
من جهة أخرى، وصل اجتماع هيئة المتابعة للجمعيات والأندية إلى مجموعة من المطالب الملحة، على رأسها رفض مطلق للمحارق، ودعوة اتحاد البلديات والقوى السياسية التي تقف خلفه إلى ممارسة رقابة أكثر فعالية على حسن عمل الشركة المشغلة لمعمل الفرز والتسبيخ، باعتباره الركن الأساس لأي خطة متكاملة سليمة بيئيا لإدارة النفايات، ومواجهة أي محاولة لإفشاله ووقف العمل فيه، وصولا لإقفاله كما حصل ويحصل للعديد من معامل الفرز والتسبيخ المماثلة، التي بناها وجهزها الإتحاد الأروبي في إطار مشروع الدعم الذي ينفذ تحت إشراف وزارة التنمية الإدارية.
إن القرار الذي اتخذ مساء أمس، يمكن اعتباره شراء مزيد من الوقت للبحث الجدي والعميق في معالجة جذور الأزمة وأسبابها العميقة، ولن يكون مفيدا إذا اكتفى بتمديد أمدها أو تأجيل انفجارها من جديد في مرحلة قريبة قادمة.
إذا حاولنا استعراض عناصر الأزمة، نفككها إلى مكوناتها الأربعة الرئيسة: نظام جمع النفايات، فعالية عمليات الفرز والتسبيخ، ومكب الكفور الذي يستقبل متبقيات عمليات المعمل، وأخيرا وهو الأهم، الإشراف الفعال والكفوء لاتحاد البلديات عن قرب على حسن سير العمل في المنظومات الثلاثة الأخرى والتنسيق بينها.
أول ملاحظة يمكننا تسجيلها هنا، كواحدة من أهم أسباب وجود الأزمة وتفاقمها وتفجرها من وقت لآخر، تتمثل في ضعف التنسيق والتكامل بين المكونات الثلاثة لمنظومة إدارة النفايات في اتحاد بلديات الشقيف.
أولا: نظام الجمع، الذي تنفذه شركة خاصة بعقد منفصل عن تشغيل المعمل، يشوبه ضعف في وجهين أساسيين: إنتظام وكفاءة نظام جمع النفايات من جهة، ومن جهة أخرى إستمرار وجود شاحنات نقل من النوع الذي يضغط النفايات أثناء جمعها ونقلها، وهذا ما يتناقض جوهريا مع واحدة من أهم العمليات الرئيسة التي يقوم بها المعمل، أي فرز النفايات إلى مكوناتها العضوية وغير العضوية، وجمع المكونات القابلة للتدوير، وإحالة المكونات العضوية لعملية التسبيخ. وهكذا، فإن ضغط النفايات في شاحنات الجمع والنقل يعيق بدرجة كبيرة جدا فعالية الفرز، وبالتالي العمليات التي تليها من نشاط المعمل، وهذا ما يؤدي إلى الفشل في تحقيق نسب الفرز والتسبيخ المنصوص عنها في دفتر الشروط وعقد التشغيل. وينتج عن ذلك نقل كميات كبيرة جدا من المتبقيات إلى عملية التخلص النهائي في مكب الكفور، أو تخزينها في ساحات المعمل نفسه.
ثانيا: فعالية عمليات الفرز والتسبيخ في المعمل، هنا يمكن القول أن هذه العمليات يشوبها الضعف والتفكك وضعف الكفاءة، منذ بداية تشغيل المعمل وحتى الآن.
من أهم مؤشرات هذا الضعف، نقص عدد العمال وقصر دوام العمل، مما ينتج عنه ضعف بأداء العمليات الأساسية للمعمل، وكذلك غياب مشرفين تقنيين وبيئيين للمراقبة والتدخل لتحسين أداء الموارد البشرية والتقنيات العاملة وصيانتها، بهدف رفع الفعالية وزيادة الإنتاجية وحسن الفرز والتسبيخ، مما يخفف كمية المتبقيات المعدة للصرف النهائي إلى الحد الأدنى الممكن. وينعكس الضعف العام في مراقبة العمليات، إن على مستوى فعالية الفرز، وفصل المواد القابلة للتدوير وتوضيبها لإرسالها إلى مصانع التدوير المناسبة، أو فعالية عمليات التسبيخ حتى نهاياتها ونضجها وتحضيرها للإستعمال أو التسويق.
تنتج عن عمليات فرز المواد العضوية وتسبيخها في مختلف مراحلها عصارة سائلة غنية بالمكونات الكيميائية الضارة والأحماض العضوية، وكذلك بمؤشرات عالية للتلوث العضوي مثل الحاجة البيولوجية للأوكسجين والحاجة الكيميائية للأوكسجين، بالإضافة إلى تلوث جرثومي. يجب جمع هذه العصارة ونقلها إلى محطة للمعالجة، وتوثيق ذلك بتقارير وسجلات توثق كميات العصارة وتاريخ نقلها ووثائق استقبالها من إدارة محطة المعالجة، وإبلاغ هذه التقارير للجهات المعنية بعمل هذه المنظومة، ولا سيما وزارة التنمية الإدارية ورئاسة إتحاد بلديات الشقيف.
يدل تعثر عمل المعمل في كل عملياته وحسن تنفيذها وفعالية أدائها على ضعف في جدية وكفاءة الشركة المشغلة واستهتارها، وعدم القيام بكل الإجراءات الضرورية الممكنة تقنيا وإداريا وتنظيميا لتحسين الأداء ورفع فعالية العمليات وتخفيض كميات المتبقيات للحد الأدنى الضروري، والسعي الدائم إلى تخفيض هذه الكميات عبر رفع تدريجي لفعالية العمليات وكفاءة العمل.
ثالثا: لمكب الكفور قصة طويلة، فهو في فترة ما قبل تشغيل معمل الفرز والتسبيخ في الكفور، كان مكبا عشوائيا يستقبل نفايات إتحاد بلديات الشقيف كلها على مدى سنوات طويلة. وشهد هذا المكب العشوائي فصولا من الإحتجاجات الشعبية لأهالي الكفور وبلديتها ولأهالي المنطقة المتضررين من الروائح الكريهة المنبعثة منه، حيث كان هذا المكب موضوعا للعديد من المتابعات الإعلامية والشعبية والبلدية وكذلك القضائية. إذن، مكب الكفور مشبع بالنفايات وطاقته على الإستيعاب لنفايات جديدة محدودة جدا. وكان الوعد، في بداية انطلاق العمل في معمل الفرز والتسبيخ، أن يكون استخدامه لاستقبال كميات المتبقيات المحدودة، والمحددة في دفتر الشروط، لفترة قصيرة إلى حين يتم بناء مطمر صحي بتمويل من الإتحاد الاوروبي أيضا.
وهكذا، إن أي تلكؤ عن متابعة التحضيرات لقيام المطمر الصحي الملحق بالمعمل، أو أي تقصير يؤدي إلى تأخير إنشائه وتشغيله، سوف ينتج عنه الإقتراب من لحظة انفجار أزمة قدرة مكب الكفور العشوائي على الإستيعاب، وهذا ما حصل بالفعل يوم أمس، حينما انتفضت بلدية الكفور ومعها أهالي القرية كلهم للاحتجاج على الإستهتار الحاصل من كل الأطراف المعنية بحسن عمل المعمل، وبتخفيف كميات المتبقيات المنقولة إليه، وتباطؤ المتابعة لإنشاء المطمر الصحي الممول من الإتحاد الأوروبي، وتفاقم انتشار الروائح الكريهة والتلوث الذي يهدد صحة المواطنين بأخطار كبيرة، إضافة إلى تهديد البيئة في وادي فخر الدين وسهل الكفور وأحواض المياه الجوفية فيه التي تغذي 55 قرية بالمياه العذبة.
على الشركة المشغلة للمعمل اتخاذ كل الإجراءات التقنية الضرورية للحدد من انتشار الروائح، ووضع وتشغيل فلاتر بيولوجية و/أو كيميائية، من جهة، ومن جهة أخرى الحرص على عدم تراكم كميات كبيرة من النفايات أو من المتبقيات في باحات وساحات وحرم المعمل.
رابعا: يظهر من حالة وظروف عمل نظام الجمع والنقل، وكذلك من الحالة المزرية لعمل المعمل، والوضع الذي لا يطاق استمراره لمكب الكفور العشوائي، أن إتحاد بلديات الشقيف لا يقوم بواجباته على أفضل حال، فهو يقصر بالإشراف والمتابعة والملاحقة والمطالبة وتصويب الأوضاع الشاذة بالسرعة اللازمة، وتركها تتفاقم لتصبح مركبا من المشاكل والقضايا عالية التعقيد وصعبة المعالجة والحل.
هل يكون قرار عودة العمل في معمل الفرز والتسبيخ في الكفور – النبطية الذي اتخذه إجتماع ليلة أمس للقوى السياسية التي تقف خلف إتحاد البلديات، والمعنية مباشرة بالتعامل الجدي والسريع لمعالجة الأمر، قرارا فعالا لتفادي للوقوع في كارثة أزمة نفايات خانقة على أبواب أيام عاشوراء، وهي أيام تتسم بالقدسية عندنا جميعا، ويشارك بإحيائها عشرات الآلاف من سكان المنطقة وعموم الجنوب ولبنان، وشكلت النبطية تاريخيا مركزا مميزا لإحياء الأيام والليالي العاشورائية؟
هل سيكون هذا القرار بداية لعملية عميقة وشاملة وجادة لمعالجة أسباب المسألة بكل عناصرها؟ أم أننا سنشهد انفكاكا متتابعا للبلديات الحريصة على معالجة حقيقية لنفاياتها عن نظام إتحاد البلديات لإدارة النفايات؟ أم أننا نشهد إفشالا مدروسا ومقصودا لمعامل الفرز والتسبيخ، الواحد تلو الآخر، للترويج لنشر محارق الموت في مدن وأحياء وقرى وبلدات المنطقة، تلبية لمصالح البعض على حساب بيئة وصحة المواطنين وتهديدها بأكبر المخاطر لهذا الجيل والأجيال القادمة؟
هذا ما سيواجه بالتأكيد بمعارضة واسعة وشديدة من قبل كل الحريصين على سلامة البيئة والأمان الصحي لعموم المواطنين.