افتتحت اليوم (أمس) في محمية عجلون الطبيعية – الأردن، ورشة عمل حول التغير المناخي ومناطق المحميات الطبيعية، في إطار “مشروع التغير المناخي في المنطقة العربية والشرق الأوسط وشمال أفريقيا”، الذي تنفذه “الجمعية الملكية لحماية الطبيعة” الأردنية بالتعاون مع مؤسسة “هانس زايدل” الألمانية، وذلك في “الأكاديمية الملكية للحماية الطبيعة”، الواقعة في نطاق محمية غابات عجلون للسنديان الأخضر، موئل الأيل الأسمر في الركن الشمالي الغربي للملكة الأردنية الهاشمية.
يشارك في هذه الورشة مندوبون عن وزارات البيئة والزراعة، بالإضافة إلى خبراء وممثلين عن المجتمع المدني، من لبنان وفلسطين والأردن والمغرب وتونس.
يكتسب هذا الموضوع أهمية بالغة مع ما نشهده من تزايد كبير لمظاهر وأحداث التغير المناخي خلال العقدين الأخيرين، حيث يتوقع أن تكون المناطق المحمية والمحميات الطبيعية عموما، وفي البلدان العربية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا خصوصا، عرضة لتغيرات كبيرة وعميقة نتيجة التغير المناخي. ولذلك، تصبح مسألة وضع وتطبيق استراتيجيات إدارة المحميات الطبيعية للمحافظة على الموائل والمنظومات البيئية والجماعات الحيوية الأكثر تأثرا بالتغير المناخي، حاجة ملحة على درجة عالية من الأهمية لمستقبل تطور بلداننا، وكذلك أي بلد في العالم.
يهدد التغير المناخي سلامة مناطق المحميات الطبيعية بكثير من الأخطار، وفي المقابل تشكل تنمية مناطق المحميات الطبيعية بدورها عنصرا هاما في استراتيجية مكافحة التغير المناخي، في مجال سياسات التخفيف وسياسات التكيف على السواء.
الاستراتيجيات الوطنية
إن المحميات الطبيعية تشكل خزانا طبيعيا للكربون، وهذا ما يعطيها دورا فاعلا في امتصاص كميات هامة من ثاني أوكسيد الكربون من الجو، وتخزينه على صورة كربون، مما يخفف من ارتفاع تراكيز هذا الغاز، المعروف بدوره الحاسم في الإحتباس الحراري، المسبب لظاهرة التغير المناخي. ولذلك، تعتبر استراتيجيات وخطط وبرامج تطوير وتنمية المناطق المحمية وحسن إدارتها، بمشاركة واسعة وفعالة من المجتمع المحلي، والعمل على تكييف إدارة المحميات لتستجيب لتحديات التغير المناخي، حلقة هامة ومفصلية من حلقات مواجهة التغير المناخي، والحد من تأثيراته السلبية وتهديداته للحياة بكل أبعادها على كوكبنا.
إن التغير المناخي، بما هو تغير بالمعدلات والأنماط المناخية على مستوى الكرة الأرضية، بفعل مسببات طبيعية وبشرية، يؤثر سلبا على المحميات الطبيعية ويهدد سلامتها، بسبب موجات الجفاف، وهجرة بعض الأنواع، وانجراف التربة، وانتشار الأمراض، وتخريب الشروط الملائمة لحياة العديد من الأنواع الحيوانية والنباتية، مما يهددها بالتناقص وبمخاطر الإنقراض.
تتجلى التغيرات المناخية بمظاهر عامة على مستوى الكوكب، وبمظاهر مناطقية وإقليمية وموضعية، وهي تستمر لفترات طويلة. هذا ما يستدعي ضرورة وضع مخططات استراتيجية لإدارة المحميات، التي تغطي مختلف الأنظمة البيئية على المستوى العالمي وفي كل بلد. استراتيجيات تحدد الأهداف وبرامج المحافظة على الغابات والمنظومات البيئية وتطويرها، وإجراءات التخفيف والتكيف لحمايتها. هذا ما يطرح بجدية عالية على مستوى الاستراتيجيات الوطنية المعنية بمواجهة تغير المناخ، وعلى مستوى إدارة وتنظيم المحميات، ولكل محمية على حدة.
ظواهر فاقعة
منذ الثورة الصناعية وحتى اليوم، ازداد بشكل مضطرد تأثير الإنسان على الطبيعة، فمن التلوث والإنبعاثات، إلى الزحف العمراني واستنزاف الغابات والموارد الطبيعية واستخدامات الأراضي، والإزدياد الكبير في عدد السكان. فمن الإستخدامات غير المستدامة للأراضي، والإستهلاك المفرط للطاقة، وتفاقم مشاكل التلوث والإنبعاثات من العديد من المصادر الصناعية ووسائل النقل والتدفئة، وصولا لاختفاء عدد كبير من الغابات عن وجه الأرض، والإنتشار الواسع والخطير لمكبات النفايات العشوائية، وكذلك للمطامر المولدة لغازات الميثان وثاني أوكسيد الكربون بكميات هائلة. أدى ذلك في العقود القليلة الماضية إلى تدهور فظيع في غابات الأمازون، وإلى فقدان كبير بالتنوع الجيني، وازدياد في عدد الأنواع الحيوانية المنقرضة والمهددة بالإنقراض، والتسارع الهائل الذي نشهده في استخدام الموارد الطبيعية، حيث شهدنا تزايدا مذهلا لهذا التسارع في العقدين الماضيين. كل هذا يترافق مع ازدياد كبير بتراكيز ثاني أوكسيد الكربون وغيره من غازات الدفيئة مثل الميثان وغاز النيتروزو وسداسي فليورات الكبريت، وكذلك ما نشهده من ازدياد لحموضة المحيطات والبحار. ما أدى إلى تفاقم كبير في آثار التغير المناخي على مستوى الكوكب والقارات والمناطق والبلدان. فموجات ارتفاع الحرارة إلى تزايد واتساع، حيث سجلت خلال شهر حزيران (يونيو) من العام 2015 أعلى درجة حرارة على الإطلاق منذ بدء تسجيل درجات الحرارة في العالم. ولكن المفاجأة الكبرى أتت مع تسجيل رقم قياسي جديد لدرجات الحرارة خلال شهر آب (أوغسطس) من هذا العام 2016.
نشهد أيضا تغيرات في المناظر الطبيعية وازدياد الجفاف والحرائق، وازدياد قوة ودمار العواصف والأعاصير، وكذلك ازدياد انتشار الأمراض المرتبطة بارتفاع درجات الحرارة، ومزيدا من الأنواع الحيوانية والنباتية يتهددها خطر الانقراض، وهذا ما يؤدي إلى خسائر اقتصادية وبشرية فادحة.
في السنوات القليلة الماضية أصبحنا شهودا على ظواهر فاقعة، برزت مع جفاف واسع للعديد من الواحات، وانتشار للأمراض النباتية في المحميات الطبيعية، وخسائر كبيرة في الثروة الحيوانية، وتفاقم كبير للحرائق والقضاء على ألوف الهكتارات من الغابات وملايين الأطنان من المحاصيل. ونشهد أيضا ارتفاعا ملحوظا لمستوى البحر، ولمظاهر الجفاف، وخصوصا في منطقتنا العربية. ويشهد العالم أيضا انحسارا للجليد القطبي وتناقصا في اتساع وكميات الثلوج في كثير من مناطق العالم، وكذلك غرق مناطق ومساحات واسعة تحت مياه البحر.
ومن جهة أخرى، نشهد آثارا مدمرة للتغير المناخي على التنوع الحيوي، فنلاحظ ازديادا في هجرة الأنواع، وغزو بعضها لمنظومات بيئية غريبة عنها فتهدد قاطنيها الأصليين بكبير من المخاطر، ونشهد تأثيرا على كل مستويات التنوع الحيوي، من التنوع الجيني إلى تنوع الأنواع فإلى تنوع الأنظمة البيئية. ونشهد تأثيرات مباشرة على الكائنات الحية وعلى المجتمعات الحيوية وعلى النظام الحيوي، بالإضافة إلى تأثيرات غير مباشرة تطاول أنماط التوازن البيئي.
ليس لدى البشرية طريق آخر
وكذلك، نرى أن التغير المناخي يؤثر على المدى الجغرافي للأنواع، ويؤدي إلى اضطراب في مواسم نمو الأنواع النباتية والحيوانية، ويغير في توقيت بعض عملياتها الحيوية، فيؤدي إلى اختلاف في طول فترة موسم النمو لدى العديد منها. ونلاحظ أيضا انتقال المدى الجغرافي باتجاه الأقطاب، أي باتجاه الشمال في القسم الشمالي من الكرة الأرضية وباتجاه الجنوب في القسم الجنوبي منها، وكذلك باتجاه الإرتفاعات الأعلى، أي باتجاه الجبال تدريجيا، بحثا عن استعادة التوازن المفقود بفعل التغير المناخي في مختلف المناطق.
إن كل ذلك يسمح لنا بالإستنتاج أن الأنظمة الحيوية قد تجاوزت قدرتها على التكيف والتأقلم. وتجاوزت الإختلالات فيها قدرتها على التحمل والتكيف، فأصيبت بخلل كبير في اتزانها، مما يهدد استمرارها بكبير المخاطر.
إن التغير المناخي هو مشكلة عالمية. يؤثر دون تمييز على كل بلدان العالم، وبمعزل عن مساهمتها الفعلية في التسبب به، هي متأثرة إلى هذا القدر أو ذاك بنتائجه وآثاره. وبلداننا هي أيضا متأثرة بالتغير المناخي، وعلينا الإقرار بذلك، والبدء بالتعامل مع ضرورات مواجهته على كل المستويات.
لا بد من الإنخراط الجدي والمسؤول بوضع استراتيجية وطنية، تشارك فيها كل مؤسسات المجتمع، الحكومة بكل إداراتها ووزاراتها ومؤسساتها، والمجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية والقطاع الخاص والأكاديميا والشباب والمرأة، لوضع مخطط عمل تشاركي تنفيذي يتضمن وضع وتطوير التشريعات الضرورية، والعمل على نشر التوعية وتقوية القدرات على كل المستويات، وتشجيع مؤسسات البحث العلمي والأكاديميا على الانخراط الأكثر نشاطا وفعالية، وكذلك وضع الحوافز لتشجيع الجميع على القيام بأدوارهم، ورفع درجة المشاركة بين المؤسسات الحكومية والمنظمات غير الحكومية، والتحضير الجيد لمشاركة أكثر فعالية ونشاطا في المفاوضات الدولية بشأن تغير المناخ، والإسراع في إبرام الإتفاقية ووضع الخطط التنفيذية الوطنية لتطبيقها، ووضع سياسات وطنية للتخفيف والتكيف، والعمل على تنسيق وتكامل الجهود الوطنية والإقليمية والدولية لمواجهة التغير المناخي.
نحن بحاجة ملحة للنجاح في إحداث الإنعطافة الضرورية لإنقاذ الحياة على الأرض ولمواجهة ناجحة لظاهرة التغير المناخي. ليس لدى البشرية طريق آخر يبعدها عن مواجهة المخاطر المتزايدة المترافقة بخسائر اقتصادية وبشرية كبيرة لا تحتملها الإنسانية المعاصرة.