كنا قد أدركنا منذ سنوات أن أعين المسؤولين في لبنان، بعد الفشل الذريع لسياسة “المطامر” وانفضاحها الكامل، تقع على المحارق، تحت تسميات تمويهية متعددة، من “تفكيك حراري” إلى “من نفايات إلى طاقة”، لطرحها كمخرج وحيد لحلقات أزمة النفايات المقفلة، خصوصا أمام إصرارهم المستهجن والمفضوح أيضا على رفض اعتماد الإدارة المتكاملة للنفايات، التي ترتكز على الفرز والتدوير والتسبيخ والمعالجة والتصنيع.
إن ما نشهده من إفشال متعمد لعمل مراكز الفرز والمعالجة التي بناها الإتحاد الإوروبي في العديد من مناطق لبنان، وتحويلها إلى خردة وأبواب مخلعة وموئل للكلاب الشاردة كما في بلدة “أنصار” الجنوبية، أو ما يواجهه معمل الكفور- النبطية من عوائق من كل نوع تمنع حسن تشغيله، أو إحراق بعضها، كما حصل في بعلبك ومناطق أخرى، كل ذلك يؤشر إلى تسلسل منهجي للأحداث لعودة أزمة النفايات بكل ثقلها على المواطنين وعلى كل المجتمع اللبناني، بهدف تطويعه لتمرير صفقات المحارق، التي يجري الإعداد لها بـ”إتقان” مسرحي مكشوف لبيروت، وضهور الشوير وصور ومناطق أخرى من لبنان.
قدمت مسرحية أكذوبة “من نفايات إلى طاقة” أول عرض تسويقي لها في إجتماع “فندق موفمبيك” أول أمس، حيث تم توقيع مذكرة تفاهم بين بلدية بيروت وبلدية كوبنهاغن. وتضمَّن الإجتماع عروضا تسويقية من المديرة التنفيذية لإحدى المؤسسات المشغِّلة لمحرقة في كوبنهاغن، ومن ممثِّل برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، المعروف بحماسه الشديد للترويج للمحارق، ولكنه كان خلال هذا الإجتماع منضبطا وملتزما بتوجيهات برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، فالتزم بشكل مقبول وملفت للإنتباه بالهرم الأوروبي للإدارة المتكاملة للنفايات، واضعا خيار الحرق في أسفل سُلَّم العمليات كاحتمال ممكن بعد إتمام عمليات الفرز، إن من المصدر أو في معامل للفرز، وعمليات التدوير ومعالجة المواد العضوية، وضمنا عمليات الهضم اللَّاهوائي التي يتولد عنها غاز الميثان CH4، وهو مصدر هام للطاقة. إن الهضم اللَّاهوائي للنفايات العضوية بعد فرزها يشكل خيارا مقبولا لاستخراج الطاقة من النفايات، ولا يشبه بشيء تقنيات الحرق الملوِّثة التي يجري الترويج لها. وحصر إمكانية الحرق بمخلفات عمليات الإدارة المتكاملة، أي بما يسمُّونه “العوادم” ونسمِّيه “المتبقيات”، حيث أن عمليات تصنيع إضافي لها هي ممكنة بالفعل. وكذلك من ممثِّل الإستشاري الدانماركي “رامبول”، الذي لم يكن أمينا للتقرير الذي سبق أن أعده لصالح “مجلس الإنماء والإعمار” عن جدوى اعتماد هذا الخيار، حيث وصل حينها إلى استنتاجات لا تشجِّع على السير به قدما، لما يتطلبه من تحقيق لشروط موازنة في تركيب النفايات للحصول على الحد الأدنى المطلوب من “القيمة الحرارية” Calorific Value للنفايات، كي يصبح ممكنا أخذ هذا الخيار بالإعتبار عند البحث عن إدارة للنفايات في لبنان. فإذا به في اجتماع “الموفمبيك” مروجا نشطا لمقولة “من نفايات إلى طاقة”، ومنخرطا بقوة في تسويقه لبيروت ولبنان. وكذلك تم تقديم عرض من قبل مستشار دانمركي متخصص في الترويج للمحارق.
إذا جرَّدنا هذه العروض من بهرجة الألوان والأشكال والمؤثرات البصرية، التي يبذل جهد واضح لتضمينها العرض كي تطغى على المضمون العلمي، وعلى وقائع العمليات، وعلى المخاطر الحقيقية المرافقة لها على الصحة العامة والبيئة، ماذا يبقى من الحقائق الهامة، التي نرى ضروريا أن يطَّلِع عليها المواطن اللبناني في بيروت وكل لبنان؟
أولا، في مصطلح “من نفايات إلى طاقة” Waste to energy ومدى دقته العلمية، في هذا السياق نحن نتَّهم جميع مقدِّمي العروض الترويجية في اجتماع “موفمبيك” بمجافاة العلم عندما تحدثوا عن مصطلح وعن عمليات “من نفايات إلى طاقة” بموضوع النفايات اللبنانية. وذلك لأن هذا المصطلح يستعمل حصرا في حالات حرق النفايات، حيث يكون معيار R1 بشأن كفاءة عملية استرداد الطاقة، والمُعَرَّف عنه وعن كيفية احتسابه في الملحق الثاني لـ”التوجيه الأوروبي الإطاري للنفايات” Waste Framework Directive 2008/98/EC (WFD1) يساوي أو أكبر من 0.65. وفي حال كان هذا المعيار أقل من هذه القيمة نكون أمام عملية “حرق” للنفايات وليس عملية “استرداد للطاقة” أو “من نفايات إلى طاقة”. كنا قد نشرنا في 13 تموز (يوليو) 2016 بحثا في هذا الأمر على موقعنا greenarea.info، ننصح الراغبين بمزيد من التفاصيل الإطلاع عليه. لم يقم أحد من مقدِّمي العروض الترويجية بتمرين احتساب هذا المعيار قبل أن يسمح لنفسه إحداث الضجيج بشأن مقولة “من نفايات إلى طاقة”، تسهيلا لتمرير صفقة محرقة بلدية بيروت، أو أي محرقة أخرى في لبنان.
ثانيا، في غياب أي من أوجه الشبه بين الدانمرك ولبنان، وبين كوبنهاغن وبيروت، إن على مستوى تركيب النفايات و”قيمتها الحرارية الدنيا” أي محتواها من الطاقة، التي تقاس بالقيمة الحرارية الدنيا، وهي عالية جدا في نفايات الدانمرك ومنخفضة جدا تحت الحد الأدنى المطلوب في نفايات لبنان وبيروت ضمنا، أو لناحية مؤشر الرطوبة فيها، أي نسبة احتوائها على الماء، فهي في لبنان تتجاوز الـ50-60 بالمئة، ولا تزيد عن 30-35 بالمئة في نفايات الدانمارك. وكذلك أيضا على المستوى الإداري والتشريعي والمؤسَّسي وأنظمة الرقابة والرصد، وأخيرا وليس آخرا، على مستوى جدِّية التشريعات البيئية ومقاييس التلوُّث ومعاييره، وعلى مستوى تطبيق التشريعات والأنظمة والإلتزام بها، ووسائل الردع والإلزام والإمتثال والعقوبات في حالات انتهاكها.
ثالثا، في تفاصيل مكوِّنات المحرقة التقنية، من المفيد مصارحة أهالي بيروت وكل اللبنانيين، أن المحارق الحديثة، والتي يمكن لها أن تسمَّى في البلدان المتقدمة تقنيات “من نفايات إلى طاقة”، تتكون من مجموع المكوِّنات التقنية والمنشآت المرافقة التالية:
-غرفتا احتراق بحرارة تترواح بين 850 و1100 – 1200 درجة مئوية.
-فلاتر فعَّالة لالتقاط كامل كمِّية “الرماد المتطاير” Fly Ash، المكوَّن من جزيئات صغيرة من قياس PM10، وجزيئات متناهية الصغر من قياس PM2.5 وPM0.1 لا تُرى بالعين المجردة. إن هذه الجزيئات متناهية الصغر مصنَّفة وفق اتفاقية “بازل” نفايات خطرة، وهي ذات خطورة عالية جدا على الصحة العامة ومسببة، وفق تقارير أوروبية، لرفع نسبة الإصابة بالأمراض السرطانية والقلبية والتنفسية عند السكان في المناطق القريبة منها، والتي تقع على مضرب الرياح السائدة. من أهمِّ الفلاتر المستعملة في البلدان المتقدمة “المرسِّب الستاتيكي الكهربائي” Electrostatic precipitator، والفلاتر المصنَّعة Fabric filter أو فلاتر الأكياس Baghous filters، ومؤخرا يجري جمع هذين النوعين من الفلاتر في نظام واحد متكامل لرفع فعالية التقاط الجزيئات متناهية الصغر عالية الخطورة.
ينتج عن عمليات الحرق كميات من الرماد المتطاير Fly Ash أو ما يسمَّى أيضا رماد المداخنFlue Ash ، وكذلك كميَّات من رماد القاع Bottom Ash التي تبقى في قاع غرفة الإحتراق. يصل مجموع كميات الرماد، المتطاير والمتبقي في القاع إلى حوالي 20 بالمئة من وزن النفايات الداخلة للحرق، حيث تشكِّل كمية الرماد المتطاير عالي الخطورة حوالي 5 بالمئة من مجمل كمية الرماد. تكون الكميات الإجمالية للرماد غنية بالمعادن الثقيلة مثل الرصاص والكادميوم والزنك والنحاس، وتحتوي على كميات قليلة من مركَّبات الديوكسين Dioxins والفوران Furans شديدة السمِّية والمسبِّبة، ولو بتراكيز متناهية الصغر، لأمراض سرطانية وطفرات جينية وتشوُّهات خَلْقِيَّة وإخلال في النظام الهرموني للغدد الصماء، والعديد من الأمراض المزمنة الأخرى.
قبل متابعة المكوِّنات التقنية للمحرقة، من المهم القول أن الرماد المتطاير، أي الجزيئات متناهية الصغر، التي يتم التقاطها في منظومة الفلاتر، علينا إفراغها دوريا، والتعامل معها باعتبارها نفاية خطرة. وهذا يرتِّب ضرورة معالجتها بـ”التصليب” Solidification عبر صبِّها في قوالب من الإسمنت، ويتم التخلص النهائي منها في “مطمر متخصص لاستقبال النفايات الخطرة”، وليس تركها في باحة أو قطعة أرض مكشوفة كما تفكِّر بلدية بيروت أن تفعل. إذن، وهنا علينا التنبه جيدا، أن على من يفكر باعتماد المحرقة أن يؤمن قبل ذلك مطمرا متخصصا لاستقبال النفايات الخطرة وفق المواصفات الدولية المعتمدة لإنشاء وتشغيل هذا النوع الخاص من المطامر.
أما رماد القاع، فيتطلب انتباها كبيرا لدى التعامل معه لجمعه وتوضيبه وتحضيره كي يستعمل لاحقا في بعض مجالات بناء الطرق، تفاديا لانتشار الجزيئات الصغيرة والصغيرة جدا ومتناهية الصغر في الهواء الجوي، نظرا لمخاطرها الكبيرة على الصحة العامة.
-أبراج لغسيل الغازات الحمضية والقلوية، وكذلك الغازات السامة التي تتكون نتيجة عملية الإحتراق. تتولد عن هذه الأبراج كميات هامة من المياه العادمة الملوَّثة كيميائيا، التي تحتاج إلى معالجة فعَّالة قبل التخلص منها. إذن على أهالي بيروت وجميع اللبنانيين أن يعرفوا، أن من يفكر بإقامة محرقة عليه إرفاقها بمحطة لمعالجة المياه العادمة الملوَّثة كيميائيا الخارجة من أبراج غسيل الغازات. تستعمل أبراج الغسيل لإزالة حمض الكلوهيدريك، وحمض النيتريك، والزئبق، وحمض الفليورهيدريك، والرصاص وترسُّبات المعادن الثقيلة. يتم معالجة هذه المياه الخارجة من أبراج غسيل الغازات، بالكلس، حيث يتحول الكبريت إلى جبس Gypsum، وتخضع للمعالجة في محطة لمعالجة الملوثات الكيميائية السائلة.
تُزوَّد المحرقة بنظام لتحويل حرارة الإحتراق والغازات إلى شكل من الطاقة يوزَّع على السكان بصورة طاقة كهربائية أو مياه ساخنة للتدفئة أو الإستعمال.
إذن، إن المحرقة كما لاحظنا، هي منشأة نموذجية لتحويل النفايات الصلبة المنزلية “غير الخطرة” إلى مخلفات “عالية الخطورة”، جزيئات وغازات وأبخرة عالية السُمِّية والخطورة على الصحة العامة والبيئة. وهي تستلزم حكما أن يتم إلى جانبها أو ملحق بها في مُجمَّع تشغيلي واحد، إنشاء محطة لمعالجة السوائل الملوَّثة كيميائيا، وموقعا لمعالجة الرماد المتطاير، أي الجزيئات متناهية الصغر، الملتقطة في أجهزة ونظام الفلاتر، وتصليبها، وكذلك مطمرا متخصِّصا لاستقبال النفايات الخطرة متوافقا كليا مع المواصفات العالمية لهذا النوع الخاص من المطامر.
علينا جميعا أن ندرك وأن نعرف بكامل المسؤولية المدنية والأخلاقية، بل والقانونية أيضا، أن أي خلل في استكمال كل حلقات منظومة المحرقة، أو خلل في حسن وسلامة تشغيلها، أي منظومة التقاط الجزيئات والفلاتر، ومنظومة غسل الغازات ومعالجة السوائل الناتجة عنها، وتصليب الرماد المتطاير وطمره في مطمر خاص لاستقبال النفايات الخطرة يتم إنشاؤه خصِّيصا ملحقا بالمحرقة، سيشكِّل مغامرة كارثية بمخاطرها على صحة المواطنين في بيروت وعموم لبنان.
هل تدرك بلدية بيروت ذلك؟ هل يعرف أهالي بيروت هذه الحقائق؟ هل تم التطرق إليها بوضوح وعمق ودقة علمية وموضوعية في إجتماع “الموفمبيك”؟ هل يرتضي أهالي بيروت ولبنان الدخول في هذه المغامرة المرعبة؟
هذه الأسئلة وكثير غيرها برسم عقول “البيارتة” وعموم اللبنانيين، للتَفَكُّر بها قبل الإنتقال إلى الحلقات التالية من مسرحية أكذوبة “من نفايات إلى طاقة”.