يشخص الخبير في الاقتصاد السياسي البيئي political ecology في مجال المياه، الباحث والأستاذ في الجامعة الأميركية – بيروت الدكتور رولان رياشي، ما يواجه لبنان من أزمات في مجال المياه، بنظرة عميقة، ورؤية متحررة من قيود، خصوصا وأن ثمة من يصر على أن ما نواجه من “تحديات مائية” هو نتاج أمور تقنية وإدارية، إلا أن رياشي يتجاوز الجانب الأكاديمي إلى ما هو أبعد، أي إلى فساد الإدارة من جهة، وبنية الدولة القائمة على التحاصص بين الطوائف، على حساب التنمية من جهة ثانية، أي أنه يضع يده على موضع الداء، ليتأكد لنا أن أزماتنا مردها إلى الفساد والهدر والسرقة والرشى واقتسام المغانم.
في حوار سابق أجراه greenarea.info مع الدكتور رياشي، تناولنا مشكلة المياه العذبة في لبنان من مختلف جوانبها، من الينابيع إلى مشاريع السدود ليس في توفير مياه الشفة ومياه الري النظيفة فحسب، بل بما يتلوث منها نتيجة اختلاطها بالمياه المبتذلة، خصوصا لجهة عدم توفر شبكات صرف صحي، وتحويل مياه الصرف الصحي إلى مجاري المياه من سواق وأنهار، ما أدى إلى تلوث العديد منها، فضلا عن تسربها إلى المياه الجوفية من ينابيع وآبار ارتوازية، ما تفاقم مؤخرا على شكل تلوث مياه بئر ارتوازي وخزانات مياه تغذي عشرين بلدة في قضاء المتن الأعلى.
حالة المياه معقدة
اعتبر رياشي في لقاء مع greenarea.info أن “حالة المياه في لبنان بشكل عام معقدة، فإذا لم تكن الينابيع مملوكة، وهي الأزمة الأكبر، في حالة المياه العذبة، فإن حقوق المياه توزع بالتساوي بين المستفيدين، إلا أن حالة التلوث التي طاولت معظم ينابيع لبنان نتيجة وقوع منابعها قرب شبكات الصرف الصحي، أو كونها قرب الأراضي الزراعية وما يستعمل فيها من أسمدة ومبيدات، أو نتيجة تلوث مياهها بهذه المياه الآسنة في جوف الأرض، هي أزمة مستمرة ومتجددة”.
ورأى أنه “لا يمكن في الحديث عن المياه العذبة أن نفصلها عن المياه المبتذلة، على الرغم من فصلها من الناحية السياسية، فإنه برأيي لم يعد بإمكاننا الفصل بينهما، بل يجب التعامل مع المياه كملف متكامل”، وقال: “من يضع استراتيجية المياه، عليه أن يلحظ بالتوازي تخطيطا للمياه المبتذلة وكيفية التخلص منها وتكريرها، وهذا ما لم يحدث حتى الآن، وحتى مؤسساتيا، فإن الملفين منفصلان، فبينما وزارة الطاقة والمياه تتابع المياه العذبة، يتم توجيه اللوم والإتكال في موضوع المياه المبتذلة والمجارير على البلديات وهي الأفقر مؤسساتيا، أو على وزارة الأشغال العامة التي لا علاقة لها باستراتيجية المياه، وهنا نلفت النظر إلى أن علاقة المجتمع بالطبيعة والمياه تشبه علاقة الإنسان بجسده، فهناك أيضٌ واستقلاب metabolism للمياه تماما كالجسد، فإن أصيب هذا التوازن بأي عطب، فهو يشبه السرطان أو الأمراض المزمنة التي تفتك به، فهناك قرى بكاملها تعاني من شح المياه العذبة النظيفة، نتيجة ممارسات الإنسان الخاطئة تجاه البيئة، وعلاقتنا ببيئتنا يجب أن تكون علاقة أخذ وعطاء، فهناك عطب وتظهر ملامحه في مشاكل تطاول هذا الإستقلاب على شكل أمراض وتلوث في كل مكان، على الأرض والشواطئ والمياه والهواء، ولم يُسْتثنَ حتى الجبل والجرد، مثلا نبع اللبن الذي يغذي سد شبروح، بنيت فوق منابعه مجمعات (المزار) mzaar، وهي عبارة عن مبانٍ على شكل وحدات سكنية فخمة، غير مرتبطة بنظام للصرف الصحي، وهذا النبع من المفترض أن يغذي قسما من كسروان بالمياه، فلا يمكننا تخيل الضرر الواقع في هذا المجال”.
المياه المبتذلة ضائعة بين دوائر الدولة
أما في ملف الصرف الصحي، فقال رياشي: “هو ملف متشعب كملف المياه العذبة، فتكلفة التجهيزات والصيانة ضائعة بين دوائر ووزارات الدولة، من: البلديات، مصالح المياه، وزارة المياه والطاقة، وزارة الأشغال العامة، مجلس الإنماء والإعمار، مجلس الجنوب ومؤسسات عديدة لا يعرف تخصصها مسؤولة إلى حد ما إن كان في هذا الملف أو ذاك، فتنظيم الملف، وتنظيم الشبكات وصيانتها، أولوية، وبالنسبة لقانون المياه رقم 221 /2000، والذي دمج 22 مصلحة مياه في أربع مصالح، انتبه المعنيون بعد سنوات عدة أنهم لم يأخذوا بعين الاعتبار المياه المبتذلة، وأن مصالح المياه هذه يجب أن يكون لها علاقة بالمياه المبتذلة، وما أجده في هذا المنحى هو تشعب لهذا القطاع العام، أسوة بغيره من قطاعات الخدمة العامة، بهدف تفقير ممنهج لقطاع المياه وقطاعات الخدمة العامة الأخرى، والتي من المفترض أن تكون موجودة للجميع وبأقل التكاليف الممكنة”.
الطائفية السياسية
وأضاف رياشي: “في لبنان بُني خلال 10 سنوات أكثر من 30 محطة تكرير للمياه المبتذلة، بتمويل من المؤسسات المانحة العالمية، وتعمل 2 منها فقط بصورة جزئية، لأن مجلس الإنماء والإعمار تأتيه القروض، ليبني محطة تكرير، فيبنيها، لكن لا نعلم من يستلمها، وكيفية تشغيلها أو وصلها بالشبكة، وهذه تعتبر ديونا عامة، تقدر بأكثر من مليار دولار، وفي الواقع فهناك 4 بالمئة من المياه المبتذلة تكرر، وبطرق بدائية، فهناك مثلا محطة إيعات في بعلبك تعمل بشكل جزئي، حيث تفتقد للمراوح للتخلص من الروائح، وبتقنيات قديمة، بتركيد المواد الصلبة”.
وأردف: “في طرابلس مثلا، هناك 20 مترا بين مصب المياه المبتذلة في البحر ومحطة التكرير، والسبب أنهم لا يعرفون إن كانت البلدية، أو مؤسسة المياه أو أي إدارة حكومية ستستملك قطعة الأرض الفاصلة، وأي من الموظفين من هذه الجهات ستقوم بتشغيل وصيانة المحطة! فبالتالي، لا يناسب المسؤولون تكملة العمل ليكون له جدوى اقتصادية وبيئية بل يناسبهم القيام بالمشروع الفاشل وتلزيمه لكسب الأموال، وكما قلت سابقا قد ينال هذا الملف نصيبه من الخصخصة بالتأكيد، أسوة بقطاعات الدولة المختلفة، فضلا عن حصص التلزيم والمعالجة، إنها صورة قاتمة نعيشها للأسف، وهدفها تفقيرنا ورضوخنا للابتزاز الممنهج، وقد تكلمنا بالحلول التقنية، إنما بالحقيقة فالحل باستئصال المشكلة السياسية، وحلها بالسياسة، والطائفية السياسية المرسخة المتمثلة بقانون انتخاب يمثل الطائفة فحسب، وهو يمثل أقل من 50 بالمئة من المواطنين، وهذا ينعكس على البلديات، فلا يأتي أشخاص من ذوي الكفاءة للعمل البلدي المنتج، بل المحسوبون على السياسيين، وهناك الدول المانحة أيضا، فهناك غطاء عليهم من قبل السياسيين لإحضار المشاريع وتلزيمها، ولا رقابة ومتابعة منهم في تنفيذ المطلوب منها، بينما تترتب علينا الديون وفوائدها وبالمليارات”.
استراتيجية وطنية
وأشار رياشي إلى أن “هناك محطات تكرير بتقنيات حديثة، نتكبد تكلفتها سنويا، وهي موجودة منذ 10 سنوات دون عمل، أليس هذا هدرا، وبالتالي ستعاني تجهيزاتها من الصدأ لنضطر لإعادة صيانتها من جديد، وبتكاليف إضافية، فهناك أساليب عديدة للحلول المؤسساتية، ومنها تفعيل دور البلديات والحل اللامركزي لإدارة هذا الملف وغيره، والتوأمة بين البلديات، وتفعيل دور البلديات واتحادات البلديات لإيجاد حلول بدفع مستحقات البلدية من الضرائب والهاتف الخلوي، ولكنها جزء من الحل، ودون حل حكومي، واستراتيجية وطنية لصيانة وإنشاء الشبكات ومحطات التكرير وتفعيلها وصيانتها، فلا أمل بحل”.
وقال: “لا يزال منطق اللامركزية غير فاعل في صنع القرار، وأكرر المطالبة بتغيير النظام السياسي، وخصوصا مجلس الإنماء والإعمار وهو رمز المحاصصة في لبنان، والنظام السياسي في لبنان المبني على المحاصصة والتشعبات الطائفية والملكية، وملكية الأوقاف الدينية واستملاك الشواطئ بغير حق”.
عنصرية تجاه النازحين السوريين
أما عن أزمة النازحين السوريين، واستهلاكهم للمياه ما أدى إلى شحها، قال رياشي: “ترمي الدولة تبعة شح المياه على اللاجئ السوري، وهذا التوجه هو شكل من أشكال التعصب والعنصرية Xenophobia، والكثير من المسؤولين يحاولون اللجوء إلى هذه الـ “حجة” لاستقطاب الأموال والتهرب من مسؤولياتهم، فلا يمكن أن نضع اللوم في مشكلة المياه على السوريين، فكم سائح فقدنا خلال السنوات الخمس الماضية؟ ولا يجب أن ننسى أن السائح يستهلك المياه بمعدل 4 مرات أكثر من المواطن، والسوري القاطن في خيمة يستهلك أقل بـ 8 مرات من المواطن، ومع مشكلة الجفاف المزمنة في 2014، وضع المسؤولون والمواطنون كل اللوم على السوريين، ونسمع هذا التوجه كثيرا، ومن المهم أن نعرف حالة اللاجئين لجهة المياه، فالفرد يحمل تنكة 20 ليتر من الماء مسافة طويلة ليستعملها في خيمته، وطبقا لمسح لفترة أسبوعين وجد أن أربعين بالمئة من السوريين عانوا من الإسهال، بسبب نوعية المياه الرديئة التي تصل إلى الخزانات الموجودة في مخيماتهم ويستهلكونها، كما تعيش العائلة على دولارين يوميا فقط”.