البناء
تزخر منطقة الجولان السوري المحتل بالمواقع الأثرية التي تعود إلى عصور تاريخية متعاقبة، من العصور الحجرية والبرونزية القديمة والوسيطة، إلى العصور الكلاسيكية،
والعربية الحديثة.
ومن أهمّ سمات المواقع الأثرية في الجولان، ارتباطها تاريخياً بحضارات الوطن الأمّ سورية، وتنوّعها وشموليّتها، وانتشارها على كامل رقعة الجولان الجغرافية.
لهذا، اهتمّ المكتشفون الأوربيون في القرن التاسع عشر، وفي النصف الأول من القرن العشرين بمنطقة الجولان. وقد أقام الفرنسيون في هذه القلعة حاميةً لمراقبة حركات الثوّار وقَطع الطريق عليهم.
ومن هذه الآثار، قلعة غير معروفة كثيراً لدى السوريين، وهي اليوم موقع أثريّ عالميّ مشهور، تحت إشراف العدوّ الصهيونيّ الغاصب، من خلال ما يسمّى «مديرية الآثار الإسرائيلية».
التسمية
قلعة النمرود، أو قلعة الصُبَيْبَة، معناها تصغير من «الصبة» وهي مربض الخيل، والاسم المتداول «النمرود» نسبة إلى رواية دينية تحكي عن ملك جبّار كان يدعى «النمرود»، وكان يسكن في القلعة، وهو الذي ألقى بإبراهيم في النار، ولشدّة غروره، كان موته عن طريق بعوضة دخلت في أنفه، فنخرت رأسه.
قامت هذه القلعة فوق صهوة جبل شاهق ذي منحدرات عمودية صعبة، هو جزء من الأعضاد الأولى لجبل الشيخ. تتبع لقرية «جباتا الزيت»، وترتفع عن مستوى البحر 816 متراً، وتطلّ على بانياس والحولة، ولذلك كانت من المواقع الاستراتيجية الهامة عبر التاريخ.
تاريخ القلعة
يُعتبر الأيوبيون أوّل من شَرع ببناء هذا الحصن لمواجهة الخطر الصليبيّ. وتأريخ هذه القلعة مرتبط بذكريات الحروب التي نشبت في بلاد الشام، خصوصاً الحروب الصليبية. وتذكر التواريخ أن الأتابك ظهير الدين طغتكين 1126 كان قد سلّمها إلى الطائفة الإسماعيلية لمّا رأى استفحال أمرهم في حلب ودمشق، وأملاً بدفع شرّهم، ولتسليطهم على الصليبيين. غير أنهم عملوا بالعكس، وأبدوا الخيانة حيث أنهم تواطؤا مع هؤلاء وسلّموهم القلعة، فاحتلّها الملك الصليبيّ «بلدوين» عام 1129، ومنحها إقطاعية لـ«روبينه بروس» ولورثته من بعده.
عام 1132 جاء شمس الملوك إسماعيل بن تاج الملوك بوري بن طغتكين وهو حاكم دمشق فاستردّها، ووضع فيها أحد قوّاده. لكن هذا الأخير سلّمها إلى عماد الدين زنكي صاحب حلب، الذي كان خصماً لآل طغتكين أصحاب دمشق. فقام آخر هؤلاء وهو مجير الدين أبق بن محمد بن بوري، واتفق مع الصليبيين على استخلاص القلعة من الزنكي، وزحف جيشه مع جيشهم وحاصروا القلعة التي قُذفت بالمنجنيقات واحتلوها عام 1139، واستلمها الفرنجة بعدما طردوا حليفهم مجير الدين، وجعلوا فيها القائد الصليبي إنفروي الثاني دوترون، نائب ملك القدس.
وظلّت القلعة في أيدي الصليبين إلى أن جاء الملك العادل نور الدين بن محمود بن عماد الدين الزنكي، وشرع يهاجم القلعة والأعداء يردّونه ويعيد الهجوم، إلى أن تمكّن من استعادتها عام 1157.
استقرّت القلعة بيد العرب، وقد أعطاها السلطان الأكبر صلاح الدين الأيوبي لأحد أولاده وهو الملك الأفضل، ثم انتقلت إلى يد عمه الملك العادل أبو بكر، ثم انتقلت بعد ذلك إلى ابنه السعيد حسن. وقد أعادا الأب والابن بناء الأبراج التي خرّبها المعظّم عيسى بن السلطان صلاح الدين لمنع الفرنجة من استخدامها كقاعدة لهجماتهم على دمشق، وقد استمرت أعمال الترميم من عام 1226 إلى عام 1230، تم في ختامها بناء الحصن المنيع للقلعة بشكلها الذي نراها عليه اليوم، حيث أخذت القلعة شكل التل الذي بُنيت عليه، مستفيدة من الانحدارات الشديدة له، التي غدت جزءاً مهماً من التحصينات.
عام 1260 قضى المغول على حكم الأيوبيين، واحتلوا القلعة. لكن احتلالهم لم يستمر طويلاً، وسيطرتهم على القلعة لم تدم سوى بضعة أشهر، حيث هُزم المغول في معركة «عين جالوت» الشهيرة. وفي عهده، أعاد السلطان الظاهر بيبرس ترميمها وأنشأ منارة لجامعها، وبنى داراً لنائب السلطنة، وعمل جسراً يُمشى عليه إلى القلعة.
الوصف المعماري
تدلّ القلعة على براعة أجدادنا القدماء في فنون البناء والهندسة العسكرية. القلعة تنبسط بشكل طوليّ على الجبل المسمّى بِاسمها يبلغ طولها نحو 420 متراً وعرضها يتراوح بين 60 و150 متراً، بمساحة تقدّر بـ33 دونماً، حيث لا يمكن الصعود إليها الإ من طرفها الجنوبي. وإذا دخلت القلعة من بابها الواقع في جنوبها، وقعت عيناك على مناظر غاية في الامتداد والروعة، وفي الجهة الغربية تشرف القلعة على بانياس وما وراءها من ربوع فلسطين والحولة وأرض الخيط وسلسلة جبال عامل، وفي الجهة الشرقية الشمالية يقف جبل الشيخ بمرتفعاته الهائلة، وهنا تشاهد «جباتا الزيت» وبساتينها ووادي «صعب» ووادي «السكاوي» ووادي «الدفلة» الدفين ، وهذه الأودية تكوّن مصدر نهر بانياس.
داخل القلعة باحة مستطيلة من الغرب الجنوبي إلى الشرق الشمالي. وفي وسط الباحة بناء يقال إنه كنيسة، وهو مربّع الشكل. ولا تزال هناك بقايا أعمدة بقواعدها المثمّنة الأضلاع.
أما في القسم الجنوبيّ الشرقيّ على امتداد السور، فهناك ستة أبراج منها ما هو مربّع الشكل، ومنها ما هو مدوّر. وهذه الأبراج ترتبط ببعضها بجدران تدعى «سجوف الخطّ الدفاعي».
وعند باب القلعة من طرفها الجنوبي برج مربّع الشكل شديد البروز، شُيد في زمن السلطان الظاهر بيبرس عام 1275، لكنّه تهدّم بسبب الزلزال عام 1759.
يمكن للزائر أن يصل إلى الطابق الأعلى من سطح مائل معقود يقع وراء «سجف الخطّ الدفاعي»، فيجد نفسه وسط بهو منخفض مسقوف بعقود ذات زوايا بارزة. وفي هذا البهو منافذ عدّة تصل إلى غرفتين تعلوهما نقوش عربية تفيد بأنها مكان قصر السلطان بيبرس.
وإلى جانب البرج الثاني، صهريج عميق مملوء بالماء، وله درج ينحدر إلى الأسفل. وإلى جانب الصهريج المذكور نافورة مياه للشرب على الجانب الشرقي للخزان، بناها السعيد حسن بن العزيز عثمان عام 1240.
إلى البرج الثالث، ويسمّى «البرج الجميل»، وهو مبنيّ على السور الشرقي، ثُمانيّ الأضلاع، وسقفه مقبّب، وهو مدور وبارز إلى الأمام.
أما البرج الرابع، فمدوّر ويحتوي على طابق دفاعيّ معقود. وهو مثقوب بمرامٍ بقي منها اثنتان. وفي البرجين الخامس والسادس ترتفع الأرض نحو الشمال الشرقيّ حتى تصل إلى الحصن الكبير. وهذا الحصن هو عبارة عن قلعة داخلية مستقلّة، وهو محصّن في جنوبه من ناحية الباحة بخندق وبرجين ضخمين.
وختاماً، لا بدّ أن نذكر كافة اللقى الأثرية المكتشفة في الجولان المحتلّ، والتي نُقلت جوراً إلى المتاحف «الإسرائيلية»، وأُبقي على القليل منها في متحف الجولان المحليّ الذي أقامته سلطات الاحتلال في قرية قصرين المحتلة. وتحاول البعثات الصهيونية إخفاء حقيقة نقل اللقى الأثرية، لأن تقاريرها المنشورة خالية من أيّ إشارة إلى مصير الآثار المنقولة المكتشفة في الجولان العربي السوري المحتلّ الذي يضمّ في جنباته 209 مواقع أثرية على امتداد رقعته من أعالي جبل الشيخ حتى بحيرة طبريا.
ويبقى أن نقول، إنّ قلعة الصبيبة، كما كلّ الجولان المحتل، وفلسطين المحتلة، تصارع للتحرّر من نير الاحتلال الصهيونيّ الغاصب، وهي بحجاراتها، وآثارها، ولِقاها، وتاريخها، وجدرانها، وأبراجها وناسها، ترفض رفضاً تاماً الوصاية الصهيونية.