يؤثر تغير المناخ على مختلف النظم البيئية، خصوصا لجهة أثر هذا التغير على احترار المحيطات، أي هذه المجمعات المائية العظيمة التي تشكل المجال الأوسع في عالمنا، خصوصا وان المحيطات، ولا سيما الدافئة منها تعتبر محفزا لنمو العوالق النباتية phytoplankton، أحد أكثر الأنواع وفرة في العالم، لا سيما تلك من نوع البكتيريا الخضراء المزرقة واسمها العلمي Synechococcus ، وتعني “المتعاقبات الحبيبية”، والتي بدأت تنمو وتتكاثر في وقت مبكر من كل عام وفي مياه شمال المحيط الأطلسي تحديدا.
وجاءت دراسة حديثة نشرت في مجلة ساينس Science العلمية، لتشكل قاعدة لمزيد من الدراسات حول دور هذه الكائنات الرئيسي في التنوع البيولوجي واستجابة الأنظمة الحيوية للتغيرات المناخية.
ويتوقع الباحثون أن يكون للاحترار المناخي أثرا على نموها، خصوصا في المناطق القريبة من القطب، ما ينتج عنه آثارا بعيدة المدى في كافة محيطات العالم، وأهمية هذه الدراسة تكمن في أن الباحثين توصلوا إلى نتائجها بناء على بيانات دقيقة لفترة وصلت إلى 13 سنة متعاقبة، خلال فترة نمو هذه البكتيريا في الربيع، وهي تغطي قاع منطقة شمال الأطلسي بـ “سجادة” خضراء كل عام.
المفترس والفريسة
وقد وجد الباحثون أنه مع كل درجة إضافية من الاحترار المناخي، فإن هذه البكتيريا تنمو قبل وقتها المفترض بين أربعة إلى خمسة أيام، ومنذ العام 2003 إلى العام 2012، وفي السنوات الأكثر دفئا نمت هذه الكائنات قبل وقتها بعشرين يوما، ما يشير إلى أن هذا التغير في أنماط نموها سيستمر في السنوات التالية، خصوصا وأن المحيطات تتجه لتكون أكثر دفئا.
وهذه الكائنات العائمة الحرة المجهرية هي بمثابة معمل للغذاء، فهي تحتل أسفل السلسلة الغذائية في المحيطات، ما يجعلها أساسية لتنوع واستدامة النظم البيئية، وتعيش في المحيطات والبحار الجليدية، تماما مثل النباتات على الأرض، كما تحتاج لأشعة الشمس لعملية التمثيل الضوئي، ويزدهر معظمها ويطفو في الجزء العلوي من المحيط، وتستخدم ثاني أوكسيد الكربون من الجو مساهِمةً في التخلص منه والحد من تأثيره على تغير المناخ، كما توفر الغذاء الرئيسي لمجموعة واسعة من الأنواع، مثل الحيتان، والغمبري (القريدس) والقواقع وقناديل البحر، وقد زامنت بعض الحيتان المهاجرة والمخلوقات البحرية الأخرى دورات حياة خاصة بها مع نمو هذه الكائنات، ونتيجة لذلك، فقد اقتنع العلماء أن التغيرات في توقيت نمو هذه الكائنات يمكن أن يؤدي إلى “عدم تطابق” بين توقيت المفترس والفريسة، مع وصول الحيوانات المفترسة في وقت متأخر.
وقالت كبيرة العلماء في “معهد وودز هول لعلوم المحيطات” the Woods Hole Oceanographic Institution هايدي سوسيك Heidi Sosik “بهذا التغير في الحرارة ونمو هذه الكائنات، فنحن نتوقع أن تكون هناك آثار في مختلف أنحاء النظم الإيكولوجية”.
وقالت الباحثة ما بعد الدكتوراه سارة ريفيرو كالي Sara Rivero-Calle في جامعة جنوب كاليفورنيا the University of Southern California والتي لم تشارك في هذه الدراسة: “هناك خوف من أن عدم تلاقي المستهلك مع غذائه، ما قد يؤدي إلى عواقب كبيرة”.
هيمنة العوالق النباتية الصغيرة
ومع ذلك، فإن الفيروسات والبكتيريا والطفيليات التي تتغذى على هذه البكتيريا، تزداد أعدادها، ما أبقى أعداد هذه البكتيريا ضمن المعدلات الطبيعية، لكن باختلاف في التوقيت، إلا أن هذا الأمر قد ينعكس على الكائنات في أعلى السلسلة الغذائية، ولم تبحث الدراسة في تأثير هذا الأمر على النطاق الأوسع من الكائنات الحية الكبيرة.
ولفتت سوسيك إلى أنه “حتى إذا بقيت ثمة آثار غير معروفة، فإن دراسة العوالق مثل Synechococcus يمكن أن تلعب دورا هاما في محاولة فهم التغيرات البيئية على نطاق واسع، فهي تتكاثر وتموت بسرعة، بحيث تستجيب للتغيرات على الفور تقريبا”، واضافت: “اذا حاولنا أن نعرف كيفية تأثير التغير البيئي على الطيور أو الثدييات البحرية، فيجب أن تبحث في التأثيرات التي حدثت عبر سنوات أو عقود، أما هذه الكائنات فهي توفر لنا ما يشبه الحارس Sentinel، فإذا استمرت درجة حرارة المحيطات بالإرتفاع على مدى القرن القادم، يمكن أن تهيمن العوالق النباتية الصغيرة على بعض النظم الإيكولوجية، ما قد يؤدي في النهاية إلى تحولات يمكن أن تؤثر على سبل العيش للأنواع الأكبر مثل الأسماك والحيتان والطيور، فهذه الكائنات قادرة على تحديد الاستجابات التي تحدث بالفعل في النظم الإيكولوجية البحرية”.
وقالت المؤلفة الرئيسية للبحث وخريجة البرنامج المشترك بين معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا the MIT ومعهد وودز هول في علم المحيطات كريستين هنتر سيفيرا Kristen Hunter Cevera إن “السؤال هو: ما مدى استقرار هذا التوازن؟ وهل ستكون هذه الكائنات قادرة في المستقبل على مواكبة المستهلكين؟”، وأضافت: “عملية عدم التزامن هذه هي مصدر قلق كبير، فإذا اتسع مجال النمو، أو حصل في وقت سابق من هذا العام، فإن الكائنات الحية في المستوى العالي من السلسلة الغذائية، والتي من المتوقع أن تتغذى عليها في وقت معين من السنة قد لا تستطيع أن تتغذى عليها”.
ولا يتجاوز قطر هذه الكائنات ميكرومترا واحدا (1×10−6 من المتر)، وتحتوي على مركبات تتوهج باللون البرتقالي والأحمر تحت ضوء الليزر ما مكن العلماء من فرز هذه العوالق النباتية بين الآلاف في مياه البحر، وهي المرة الأولى التي تمكن فيها العلماء من إجراء تجربة طويلة في هذا المجال.
تكنولوجيا دراسة العوالق
وتمكن “فريق معهد وودز هول”، بالإضافة إلى سوسيك من تحديد معدلات تكاثر الطحالب باستخدام نموذج رياضي وبيانات مستمرة من جهاز استشعار خاص ابتكرته سوسيك مع زميل لها في المعهد، وهو روب أولسون Rob Olson واسم الجهاز “Flow Cytobot”، ويأخذ الحهاز عينات بشكل مستمر من مياه البحر، ويدرس الخصائص الفيزيائية لهذا النوع من العوالق، ويرسلها لمرصد مارثا فينيارد الساحلي Martha’s Vineyard Coastal Observatory المعروف باسم MVCO، وهي منصة للأدوات المتمركزة قبالة سواحل جزيرة ماساتشوستس، مع كابلات تحمل الطاقة والبيانات على حد سواء بين MVCO ومختبر صغير على الشاطئ، ما يسمح لأجهزة الاستشعار بالإتصال مع النظام الأساسي على مدار الساعة، وإرسال التحديثات في الوقت الفعلي عند إجراء أي من القياسات المطلوبة.
وقالت سوسيك ان “البحث في علم وظائف الأعضاء على مستوى الأنواع هو ما يشبه (الكأس المقدسة) في البيئة البحرية”، وأضافت: “كل الأنواع تتفاعل مع بيئتها بطريقة مختلفة، ولفهم الآثار المترتبة على أمور مثل درجة الحرارة، فمن المهم ان نركز على أمر واحد وتطبيقه كل ساعة من كل يوم، وقدم لنا هذا الأمر صورة عالية الدقة وبشكل لا يماثله أي أسلوب بحثي آخر”.
ولفتت سوسيك إلى أن “التجارب السابقة تابعت العوالق النباتية على مدى فترات طويلة من الزمن باستخدام صور الأقمار الصناعية، ولكن هذا النوع من الاستشعار عن بعد يمكن أن يعطي الباحثين صورة كبيرة لجميع العوالق النباتية بشكل شامل، ولكن لا يمكن الكشف عما يحدث لنوع معين من الكائنات الحية، وحتى مع (المعيار الذهبي) بتحليل نوع واحد من العوالق النباتية، فإن هذا الأمر يواجه عوائق عديدة”، وأضافت “على الرغم من أن هذه الطريقة تقدم نظرة دقيقة للغاية عن نوع معين، فإن الاعتماد على العينات الميدانية يمكن أن يوفر فقط “لقطة” snapshot للحظة واحدة معينة في المحيط”.
وقال مدير “مؤسسة العلوم الوطنية للجغرافيا البيولوجية للمحيطات” the National Science Foundation’s biological oceanography program والممولة لهذا البحث دافيد غاريسون David Garrison “لدينا الآن التكنولوجيا المناسبة لدراسة العوالق النباتية على مدى مقاييس زمنية تمتد من ساعات إلى أسابيع، ما يمكننا من اكتساب فهم أفضل بكثير عما يسيطر على الإنتاجية في النظم الإيكولوجية الساحلية للمحيطات”.
وأشارت سوسيك إلى أنه “على الرغم من أن MVCO مرصد صغير، إلا انه يجري حاليا بناء مراصد أكبر من ذلك بكثير قبالة المحيط الهادئ في الولايات المتحدة وسواحل المحيط الأطلسي، وغيرها من المواقع في كافة أنحاء العالم، وتمكن هذه الشبكات الجديدة من إجراء دراسات مماثلة في المستقبل، وتقديم نظرة مفصلة على النظم الإيكولوجية للمحيطات كافة”.
وأضافت: “سيكون من المستحيل القيام بهذا النوع من الدراسات وبدقة دون مراصد المحيط”، وختمت: “أنا متفائلة من أننا سنكون قادرين على الاستثمار في هذا النوع لجهة أخذ العينات والتكنولوجيا الدقيقة التي تمكننا من الإستفادة بشكل كامل من تلك البرامج الجديدة، وهي حقا طريقة أكثر تطورا بكثير لقياس النظم الإيكولوجية من الطرق الموجودة لدينا”.