تهرّأت الدولة وغدت أسيرة العفن السياسي في كل مرافقها ومواقعها، في الصحة والبيئة والإدارة، في القوانين الاستنسابية، في مسؤوليها المتورطين بما يندى له الجبين، صفقات وسمسرات وسرقات، وارتكابات لو قُدِّر أن ثمة دولة قانون ومؤسسات قائمة فعلا، لكان جلُّهم في السجون الآن، مسؤولون محكومون بـ “بارانويا” متوارية، لكنها قابلة للتمظهر والتجلّي في لحظة ما، حين يظن أحدهم أنه صنو إله، ونحن نعيش في دولة فدرالية ثيوقراطية، لكل طائفة دكان، الكل يحكمنا بإيحاءات ربانية، ممثلوها على الأرض “أنصاف آلهة”، نبتوا من الميثولوجيا الكلاسكية، شخصيات خارقة، تستمد قوتها من ضعفنا وتراخينا.
حيال مسلسل الفضائح والسرقات الموصوفة، كل شيء معطل، أو يتعطل عمدا، من مجلس الوزراء إلى المجلس النيابي إلى الوزارات والإدارات والمؤسسات الأمنية، الكل يغطي، الكل متورط بشكل أو بآخر، والكل مدان، لا حياءَ (بالهمزة) لمن تنادي، ولا جهة نلوذ إليها لنعيد حقاً سُلبَ ونُهب بالقسط والعدل بين أنصاف الآلهة، فهذا الجسد المتفسخ المسمى “دولة” ينتظر من يواريه التراب، لأن إكرام الميت دفنه، إلا أننا مكبلون بنوازعنا الضيقة، ساعة نضعف
ونفتر ونعيا، يغدو المسؤول “إلها”، ونغدو أرقاما في قطيع وأسماء في قوائم الناخبين وأرقاما ساعة يعتلي المسؤول ظهور مريديه محتفيا بفوز ونصر.
لا نسمع من الناس إلا الشكوى والتذمر، جعجعة ولا طحين، أو أن الكل همه رأسه، ظنا منه أنه ينجو، على قاعدة “إذا متّ ظمآنا فلا نزل القطر”، نسخر من الطبقة السياسية الحاكمة ونعيد استنساخها، نعود للطاعة العمياء، يصور لنا زعماء الطوائف في الاستحقاقات الكبيرة أن من هم في المقلب الآخر يتربصون بالطائفة أو الدين، فننحدر إلى ما توحي لنا به غرائزنا، نتقاتل، يموت منا الكثير كرمى لعيون الزعيم، وفي ساعة صفاء يتبادل الزعماء الأنخاب على دمنا المراق عند ناصية مصالحهم، يشربون نخب انتصاراتهم بجماجمنا، وننسى.
نعود لنتذمر ونشكو حالا صنعناه بأيدينا، وندور في حلقات خيباتنا، ندعي أننا صنف متمايز من البشر، وأننا أذكى شعوب الله، فيما العالم كله سبقنا، مدن الصحراء باتت مدنا ذكية، ووجهات سياحية، ونحن نعيش في صحاري جهلنا، وإلى الآن لم نعِ أن ثمة حاجة لدولة مدنية تحترم مكوناتها الثقافية في الدين والفكر وعند حدود إنسانيتنا.
يسرقون البحر، يسدون علينا منافذ الشمس والهواء، يدمرون الجبال يقضمونها “بحصة بحصة”، يصحرون غاباتنا، يشوهون معالمنا، ونعيش وسط أكوام النفايات وبين مجاري الصرف الصحي.
اليوم، ثمة تحرك لاستعادة حق بيروت بشاطئها، أو بما بقي منه، فهل سنتحرك لنكون حاضرين ونقول لا، لمن استباح ملكا عاما؟
“الشط لكل الناس… مش لناس وناس”، تحت هذا العنوان تنطلق الرابعة من بعد ظهر اليوم السبت 26 تشرين الثاني (نوفمبر) تظاهرة شعبية، رفضا لفضيحة جديدة تضاف إلى قائمة فضائحنا المدوية، فهل نكون قادرين على تصويب مسار؟